الثورة بين يوليو ويناير لهشام غصيب

الثورة بين يوليو ويناير

د. هشام غصيب

 

لدي مفارقان مؤلمتان بصدد هذين الحدثين: انقلاب عبد الناصر عام 1952 وثورة يناير 2011. الأولى أن ثورة يناير لم تحقق من مهمات النهوض والتقدم عشر معشار ما حققه عبد الناصر في فترة قياسية. والثانية أن ما يسمى العقل العربي ما زال محكوماً بمنطق الثنائيات: إما/أو؛ وتحديداً إما التحرر الوطني أو الديموقراطية، سواء الديموقراطية الليبرالية أو الديموقراطية الشعبية.

ولندقق النظر في هاتين المفارقتين. لقد أفلحت ثورة يناير في الإطاحة بالأسرة الحاكمة، لكنها لم تمس أي ثابت من ثوابت نظام السادات/مبارك، أي نظام التبعية الاقتصادية والسياسية. فهي لم تقم سلطة شعبية بديلة، ولم تفكك السلطة القائمة، ولم تمس علائق الملكية الداخلية، ولم تمس علائق الاقتصاد المصري بالسوق العالمية، بما في ذلك علائقه بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولم تمس النهج الاقتصادي النيوليبرالي، ولم تمس علائق القوة بين الطبقات الاجتماعية، وإنما اكتفت بالتركيز على التشريع، ولم تمس جهاز الدولة، ولم تمس العلائق السياسية والاقتصادية القائمة مع الامبريالية الأميركية والكيان الصهيوني، ولم تمس العلائق السياسية والاقتصادية مع الأقطار العربية الأخرى. إذ توقفت عند تعديلات دستورية تضمن نوعاً من الديموقراطية الليبرالية المقيدة بسلطة الجيش من جهة وبسلطة المؤسسات الدينية من جهة أخرى.

وبالمقابل، فإن عبد الناصر جسد فكرة التحرر الوطني والاستقلال الوطني بجدية غير مسبوقة. واسترشد بفكرة السيادة الوطنية لكي ينفذ سلسلة من المهمات الوطنية النهضوية غير المسبوقة في تاريخنا وبجرأة وإصرار نادرين. إذ بدأ بنوع من الإصلاح الزراعي وبتصفية طبقة الأفندية، ثم أكد على سيادة الدولة المصرية على مواردها بتأميم قناة السويس، وجابه العدوان الثلاثي بعزم وإصرار ورفع راية الوحدة العربية وحاول تحقيقها بجدية، مدركاً أن مصر هي جزء محوري من الأمة العربية، وأن تحرر مصر الوطني يظل منقوصاً من دون تحرر الأمة العربية برمتها، ثم بنى السد العالي، محدثاً ثورة إنتاجية في مصر، ثم سعى إلى تصنيع مصر وإخضاع هذه العملية الحيوية لسيادة الدولة المصرية، لا لعشوائية السوق العالمية، ولجأ إلى إقرار سلسلة من ضمانات المعيشة للطبقات الكادحة، واتبع سياسة عدم الانحياز، ثم التحالف مع الاتحاد السوفييتي في مجابهة الإمبريالية الغربية، وشهد عصره نهضة ثقافية كبيرة، ووضع منتجات الثقافة في متناول الجميع.

هناك من يقول إن مشروع عبد الناصر الاستقلالي أخفق بفعل تناقضاته الداخلية قبل هزيمة حزيران 1967. وهم يعزون هذا الإخفاق إلى الأساليب البيروقراطية، التي اتبعت في تنفيذ هذه المهمات الكبيرة، وإلى بروز برجوازية جديدة في قلب الدولة، أخذت تسعى إلى فض القيود الاستقلالية التي فرضها عبد الناصر. وما لبثت أن حصلت على ما تريد على يدي أنور السادات.

ولكن، هل كنا سنشهد الردة الساداتية الشاملة لولا هزيمة حزيران؟ هل كنا سنشهد انهياراً للمشروع الناصري لولا هذه الهزيمة المرة؟ لا أظن ذلك.

ومع ذلك، فعلينا أن نقر بأن مشروع عبد الناصر كانت له حدوده، برغم عظمته. وكان النقص الأساسي فيه هو الديموقراطية بشكليها الليبرالي والشعبي. ويعود ذلك إلى الطبيعة الطبقية للحكم الناصري. فلم يكن عبد الناصر يمثل برجوازية القطاع الخاص المصرية الرثة والتابعة والضعيفة والمحافظة. لكنه أيضاً لم يكن يمثل الطبقة العاملة الناشئة ولا صغار الفلاحين. ولا أعتقد أنه كان بونابرتاً يتيح له توازن الطبقات أن يعلو عليها جميعاً، وإنما أرى أنه كان يمثل البرجوازية الوطنية الغائبة، أي تلك البرجوازية الثورية الساعية إلى الاستقلال الوطني بأبعاده المحلية والإقليمية والى بناء السوق الوطنية الداخلية والى تحديث البنى التحتية والفوقية. ولما كان يمثل طبقة ضرورية لكن غائبة، كان لا بد أن يلجأ إلى الأساليب غير الديموقراطية في تنفيذ مخطط الاستقلال. فالديموقراطية الليبرالية آنذاك كانت تعني حكم برجوازية القطاع الخاص التابعة والرثة، أي حكم المراكز الرأسمالية المهيمنة. وما كان بالإمكان إقامة ديموقراطية شعبية في مصر آنذاك، أولاً لضعف الطبقة العاملة، وثانياً للطابع البرجوازي لحكم عبد الناصر. فلم يكن من المعقول أن يسلم عبد الناصر الحكم إلى طبقة أخرى، سوف تشكل مستقبلاً الطبقة النقيض للبرجوازية بكل فروعها.

ومع أن عبد الناصر كان مضطراً في تلك الظروف إلى نبذ الديموقراطية، إلا أنه كان لهذه الضرورة استحقاقاتها ونتائجها الخطيرة. فقد غيبت الجماهير اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وبقيت خارج العصر. فمع أن سياسات عبد الناصر قدمت الكثير من الفوائد للجماهير الكادحة، إلا أنها همشت فعل هذه الجماهير. إذ كان مسموحاً لهذه الجماهير أن تصفق وتهلل وتشكر وتبجل وتحتفل، لكنه لم يكن مسموحاً لها أن تنظم نفسها ثورياً وتمارس الفعل السياسي والتنموي المستقل. فبقيت خارج التاريخ والحداثة. فالجماهير لا تتملك الحداثة في الوعي والتنظيم إلا بالحراك الثوري المستقل. بذلك، وبرغم ما حققته الناصرية في مصر من مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية، فقد أخفقت في تحقيق المهمة الرئيسية المتمثلة في تحويل الجماهير من موضوع مفعول فيه وبه وعليه إلى ذات تاريخية فاعلة وفي إدخال الجماهير إلى التاريخ وفي تحديث وعيها وأطرها التنظيمية. وقد شكل ذلك عائقاً أمام المهمات الأخرى للتحرر الوطني، فظلت منقوصة ولم تأخذ مداها الكامل. ولعله من المفيد هنا مقارنة تجربة عبد الناصر بتجارب روسيا والصين وفييتنام وكوبا، لا للتبخيس فيها وتعظيم التجارب الأخرى، ولكن لفهمها وفهم التجارب الأخرى فهماً موضوعياً معمقاً.

وعلى أي حال، وبرغم قصورها، فقد شكلت الناصرية في مصر حركة تحرر وطني فذة وحالة متقدمة على الصعيد الوطني والقومي والعالمثالثي. فقد اتسمت بدرجة عالية من الوضوح والجدية والشمول. لذلك كان لا بد من استغلال عناصر الضعف فيها من اجل تصفيتها من جانب الامبريالية والصهيونية، اللتين وجدتا في طابعها التنموي ونزوعها الاستقلالي تحدياُ سافراً لمطامعهما ونهبهما. وبالفعل، فقد استغلتا غياب الديموقراطية الشعبية فيها وكون التحديث الناصري كان منقوصاً إلى حد ما من أجل إلحاق الهزيمة عسكريا بمصر الناصرية وامتداداتها العربية، تمهيداً للانقلاب المضاد الذي قام به أنور السادات وعكس به اتجاه سير المجتمع المصري والعربي من الاستقلال الوطني بأبعاده المختلفة صوب التبعية والممارسات الطفيلية والاستسلامية.

من ذلك كله نستنتج أننا في حاجة اليوم إلى نوع من الناصرية الشعبية، الناصرية العمالية، التي تسعى إلى تحقيق الثورة الدائمة في الوطن العربي، أي تسعى إلى تحقيق المهمات الديموقراطية الجذرية من استقلال وتصنيع وتحرير ووحدة، أرضية لتحقيق المهمات الاشتراكية الكبرى، وذلك بساعد الجماهير المنظمة نفسها، أي بأساليب الديموقراطية الشعبية. فهل هناك أمل في أن ترتقي ثورة 25 يناير إلى هذا المستوى، إلى مستوى الناصرية الشعبية؟

ربما احتاج الأمر إلى ثورة ثانية، إلى ثورة أكتوبر مصرية. فثورة 25 يناير أخفقت حتى الآن في احتلال المواقع الاستراتيجية في المجتمع المصري، وشاءت أن تبقيها في أيدي البرجوازية الرثة التابعة.وأخفقت في تنظيم نفسها سلطة ثورية بديلة لسلطة الطبقة الحاكمة. صحيح أن حراكها في ميدان التحرر مستمر. ولكن إلى متى؟ فإذا لم تفرز الثورة أطرها التنظيمية الثورية الفاعلة، فستفقد الثورة زخمها من دون أن تحقق ما يتناسب مع حجم حراكها. ولعل تفكيك النظام القائم وإقامة السلطة الجماهيرية البديلة هو شرط أساسي للتحرك صوب المساس بثوابت التبعية والتخلف في مصر، أي التغلب على ثنائية الديموقراطية/التحرر الوطني، أي تخطي الديموقراطية الليبرالية الملجومة، التي تسعى إليها قيادة الجيش والأخوان المسلمون، صوب التحرر الوطني الديموقراطي.

ومع ذلك، ومع ذلك كله، فإن علينا أن نقر أن الثورة العربية الراهنة حدث غير مسبوق في تاريخنا، ومن ثم يفتح آفاقاً جديدة غير مسبوقة أيضاً. لقد استيقظ المارد الجماهيري العربي من سباته العميق الذي طال أمده، وعلينا أن نسعى إلى إبقائه مستيقظاً ودفعه صوب أن ينظم نفسه من أجل صنع التاريخ بصورة منظمة أيضا. إن الحراك المليوني العربي في حد ذاته حدث تاريخي عظيم سيترك أثره علينا وعلي العالم لا محالة. فلنسع إلى منع هذه الطاقات الثورية الهائلة من التبدد والى تجميعها من أجل تحقيق مهماتنا التاريخية الكبرى.

 

Post Author: admin