محمود درويش
   في القدس العربي   
اقرأ في عدد اليوم
  صبحي حديدي:  ماركسية إدوارد سعيد
  أنور القاسم:  احداث مكسيكية في حي دمشقي: الجزء 3 قضى على 'باب الحارة'.. و'شكلين ما بحكي'
  ابراهيم درويش:  'عواقب الحب' رواية لسليمان أودينا: الهجرة واللذة المحرمة في جدة وحذاء زهري وشجرة نخيل
  عبد الحليم قنديل:  الإسلام والقومية العربية
  مطاع صفدي:  هل هي نهاية الاقتصاد الافتراضي حقاً؟
تصويت
هل تتوقع نجاح الحوار الفلسطيني الداخلي؟

نعم

لا


من تاريخ 2-09-2008  الى تاريخ 9-09-2008
مزيد من الأخبار
إنتاج الفلسفة العربية في عصر مختلف ( 2 من 2)
ظلت الفلسفة كنشاط عقلي في حالة حرب مستمرة من أجل تثبيت شرعية وجودها ونشر فوائدها
الفكر الفلسفي العربي استقام علي عوده منذ أواخر القرن الماضي. علي أيدي هواة يتفلسفون
2005/07/20


عبد الله خليفة
لقد انقسم الوعي المصري الحديث إلي تيارين فكريين كبيرين هما التيار التجديدي الديني، والتيار التحديثي (العلماني)، وأخذت مفاهيمهما تتوغلُ في الواقع وأخذت تجلبُ منتوجات مماثلة للحظتها السياسية من المصدرين العربي الإسلامي ـ المسيحي القديم، ومن المصدر الغربي الحديث، غير قادرةٍ علي تحويلهما إلي ثقافة ديمقراطية تحويلية واحدة، وهذا أمر تجلي في أبناء ومثقفي الفئات الوسطي هذه وهم يشتغلون داخل الجامعات والحياة الفكرية عامةً.
فلم يكن الأمر إزاحة للواقع، بل كان الأمر هو في مواقف هذه الفئات الوسطي وتكوينها الاقتصادي - الاجتماعي ـ الفكري غير القادر علي القيام بعملية الصهر الاجتماعية التحويلية تلك.
يواصل حسن حنفي الحديث:
إن حل أزمة الموقف الحضاري إنما يكون بإعادة النظر في هذه الأبعاد الثلاثة وأحكامها، وإعادة الاتزان إلي الوعي الحضاري القومي، وفرض الواقع نفسه أي البعد الثالث علي البعدين الأولين.
إن حسن حنفي يحول أزمة عجز الفئات الوسطي المصرية خاصة والعربية عامة عن الجمع بين الماضي والعصر، بين نقد التراث ونقد الفلسفة الغربية الحديثة، إلي أزمة الموقف الحضاري وليس أزمة في موقف هذه الفئات.
أي أن القضية تكمن في مواقف تحويلية للواقع لهذه الفئات باتجاه تغيير نظام الإقطاع السياسي ـ الديني وعلاقات التبعية معاً، فالموقف من التراث هو في جوهره موقف هذه الفئات من هيمنة الإقطاع علي السلطة والمجتمع، وموقفها من الفكر الغربي هو موقفها من تفكيك علاقة التبعية، وكلا الجانبين هو وريث موقف سياسي واجتماعي واحد لهذه الفئات.
إن الفئات الوسطي العربية الحديثة وهي تظهر في الزمن المعاصر، ويظهر ممثلون لها في هذه الفترة لا تعرف أصلها السابق، أي جذورها في الفئات الوسطي العربية القديمة، وأسباب عجزها عن إنتاج الحداثة، كما أنها لا تعرف الفئات الوسطي الغربية التي شكلت الحداثة بشروطها القومية الخاصة، وتفرضُ الآن عرقلةً للحداثة العربية بشروطها القومية المختلفة.
ولهذا فإن الحديثَ العام المجرد عن الأنا الوطنية والقومية لا يقربنا من البؤرة الاجتماعية وهي المفتاح لفهم الموقف العام الفلسفي الملتبس.

عرض آخر لتطور الوعي الفلسفي المصري

يعتبر زكي نجيب محمود بأن كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي وضع حداً لتطور الفكر الفلسفي العربي الإسلامي، خلال سبعة قرون، وهو استشهاد يعبر عن طريقة الباحث في التقاط حدث جزئي وسحبه من شبكته الاجتماعية الثقافية العريضة، وتحويله إلي عنصر مطلق.
وهو في بحثه الفكر الفلسفي في مصر المعاصرة ينطلق من هذه النقطة ليرصد كيفية ظهور وتطور الفلسفة في مصر الحديثة.
يقول :
وكان قوام الفكر الفلسفي ـ في هذه الحركة الشاملة ـ هو الدعوة إلي الحرية وإلي التعقيل والقيود جاءت من الحكم التركي بصفة خاصة، وهي قيود الجهل والخرافة في فهم الناس للظواهر والأحداث وهو أيضاً قيد النص المنقول الذي يفرض نفسه علي الدارسين فرضاً، بحيث لا يكون أمام هؤلاء الدارسين من منافذ التفكير المستقل، إلا أن يعلقوا علي النص بشروح وأما التعقيل فهو أن نجعل احتكامنا إلي العقل دون النزوة والهوي.
كذلك هنا تصبح عناصر العقل، والحرية، والنص المنقول؛ أي الفكر الديني، عناصرَ جزئية مفتتة، وهذه هي طريقة زكي نجيب محمود في عدم الخوض في التحليل الاجتماعي والفكري التشخيصي للواقع، وانتقاء عناصر محددة ملموسة واعتبارها هي سبب جمود الفلسفة خلال سبعة قرون، فكما أن كتاب الغزالي أوقف الفلسفة فقد جاءت كتبٌ أخري بعد سبعة قرون لتعيد المياه إلي هذه القنوات الناضبة.
إن هذه العناصر لا تتشابك وقوي اجتماعية إلا بصفة عناصر ثقافية مُنتزعة هي الأخري من الشبكة كعنصري (الجهل والخرافة) وتتحد هذه بـ النص المنقول وهو الفكر الديني علي اختلاف عناصره وتعدد اتجاهاته، فهو يحيله هنا إلي نص منقول، كتعبيرٍ عن شيءٍ ملموس، وليس باعتباره علاقات فكرية ضاربة في البُني الاجتماعية، رغم انه يقول (الخرافة) وهي ليست عنصراً شيئياً ملموساً بل جملة من الظاهرات الفكرية ـ الاجتماعية المتشابكة.
ويضيف:
الحرية والعقل ضد الخرافة والجهل والنص الديني المنقول. هذه هي الإشارات العامة التجريدية التي يرسمُ بها زكي نجيب محمود تطورَ الفكرِ الفلسفي في مصر.
ويعتبرُ ظهورَ العلومِ الطبيعية هي الكفيلة بالتحرر من (الخرافة) وكانت تلك العلوم قد بدأت تفعل فعلها في حياتنا الفكرية منذ القرن الماضي إلا أن الفلسفة أفعل إيقاظاً للعقل.
ويعتبر زكي نجيب محمود بأن الرعيلَ النهضوي الأولَ في مصر كالأفغاني ومحمد عبده وشبلي شميل وطه حسين هم الهواة الذين مهدوا الطريق قبل ظهور الدراسة الفلسفية المتخصصة.
علي أن هؤلاء (الهواة) أنفسهم ينقسمون في ما بينهم نوعين: أحدهما يجعل الدفاع عن الإسلام محور تفكيره، والآخر يجعل هدفه الرئيسي الدعوة إلي قيم ثقافية جديدة.
أحدهما يدعو لدينٍ دون أن يفصله عن البناء الإقطاعي الذي هيمن عليه في أغلب الزمن السابق، والآخر يُحضرُ عناصرَ غربية ديمقراطية معينة، ويقبل بأسس النظام التقليدي، دون أن يعيد النظر في الهيكل السياسي العام وموقع العناصر التجديدية المستوردة، مما يجعل التيارين ذوي رؤية دينية تجديدية يسيطر عليها النظام التقليدي، وبطبيعة الحال لا يبدو لزكي نجيب محمود هذا التركيب المعقد للتيارين المعروضين، ورؤيتهما في المسار التاريخي العربي ـ الإسلامي والعالمي.
وتبدو اللوحة الفكرية ـ الفلسفية المتداخلة لزكي نجيب مختلفة عما عرضه حسن حنفي، فيقول زكي نجيب محمود عنها:
وأنه يبدو لي في وضوح أن الفكر الفلسفي عندنا قد استقام علي عوده منذ أواخر القرن الماضي، علي أيدي هواة يتناولون الأمور َ تناولاً فلسفياً دون أن يتخذوا من الفلسفة ذاتها موضوع دراسة متخصصة وعقب ذلك تأسست العملية الفلسفية نشراً وانتشاراً لتدل علي دلالة قاطعة علي مدي الفكر الفلسفي عندنا طولاً وعرضاً وعمقاً. فهو فكر شمل الماضي بنشر تراثه، والحاضر بعرض مذاهبه، والمستقبل بالتخطيط له.
إن الفكر الفلسفي يغدو لزكي نجيب باعتباره عروضاً للمباحث الفلسفية العربية القديمة والغربية المعاصرة، وهو ما بدا لحسن حنفي سابقاً كإنتاج خارج الواقع، أي خارج قدرة التوجهات الفلسفية المصرية علي صهر الماضي العربي والحاضر الغربي في عملية فلسفية مركبة.
ويتضحُ ذلك أيضاً في قول زكي نجيب بأن الفلسفة المصرية تنقسم إلي مرحلتين؛ هواة، ومتخصصون، وهو أمر يشير إلي الطابع التقني، ورغم أهميته الكبيرة فهو لا يلقي تحليلاً علي أسباب بقاء النظرات الفكرية والأدبية والدينية في مرحلة الهواة عند طابعها غير الفلسفي، أي لماذا لم تستطع تجاوز نظراتها الجزئية في حقولها المعرفية الثقافية وتصل إلي تعميمات فلسفية ؟ أي أن تقوم باستثمار معرفتها في تلك الحقول الأدبية والدينية إلي نتائج كلية في المجتمع والطبيعة والتاريخ العالمي؟
إن زكي نجيب محمود يعرض نماذجَ لمرحلةِ الهواة عرضاً لموضوعاتها المختلفة المتضادة، فيقول علي سبيل المثال:
من هؤلاء الهواة الذين مهدوا الطريق قبل ظهور الدراسة الفلسفية المتخصصة: جمال الدين الأفغاني في رده علي الدهريين، ومحمد عبده في شرحه لمفاهيم العقيدة الإسلامية علي أساس المنطق العقلي، وأحمد لطفي السيد في قيادته لحركة التنوير. وطه حسين في إدخاله للمنهج العقلي في الدراسات الأدبية الخ.
إن كلَ هذه الأسماء وجهودها تؤخذ هنا كعناصر إيجابيةٍ لذلك الكل التحديثي المبهم، رغم تضاد هذه العناصر في كلياتها الخاصة، فالمفهوم الديني مختلفٌ عن المفهوم العلماني التحديثي عند لطفي السيد وشبلي شميل فكيف يكون جزءا من هذا الكل التحديثي، مثلما تتناقض نظرية التطور عن رسالة الأفغاني في الرد علي الدهريين.
إن زكي نجيب يأخذُ هذه العناصرَ الإيجابية وهي خارجُ البنية الاجتماعية وتضاداتها، وعبر وجودها الشيئي الملموس الجزئي، فليست هناك حركة صراع اجتماعية في تلك البنية تعبر هذه الجزئيات عنها.
ومن هنا فنحن لا نعرف لماذا استطاع عقل محمد عبده أن ينمو في البنية الاجتماعية المصرية بدلاً من عقل فرح انطون أو شبلي شميل؟ ولماذا تجمد العقل في هذا الوعي الديني ثم غدا موجات لاعقلانية شديدة الانفجار؟

الثورة الاجتماعية والفلسفة

يعرض الباحث مراد وهبة لوحة الفكر الفلسفي في مصر بشكل مختلف، في دراسته المسماة الفكر الفلسفي في جامعاتنا المصرية ، والتي يبدأها بهذه الكلمات العامة:
حيث تكون الثورة الاجتماعية يكون الصراع بين الطبقات. وهذا الصراع يستندُ إلي قوانين تسمي بقوانين الديالكتيك، وفي بلادنا ثورة اجتماعية، إذن فهي في مواجهة هذه القوانين. وهذه المواجهة ينبغي أن تتحقق علي صعيد العمل والنظر.
ويمضي الباحث مراد وهبة بسرعة إلي عرض المفكرين الفلسفيين المصريين بدون أن نعرف ما هي هذه الثورة التي يقصدها وأين هو صراع الطبقات وما هي علاقة هذا الإنتاج الفكري والفلسفي بهذا الصراع ؟!
ولدي مراد وهبة ليس هناك فصيل الهواة كما قال زكي نجيب محمود، بل ندخل في صلب نتاج المحترفين، عرضاً لا علاقة له بذلك الاختمار الثقافي المصري العربي السابق، وبدون البنية الاجتماعية التي تتشكلُ فيها هذه النصوص، ولا بصراعات هذه البنية، فهو يأخذ يوسف كرم المؤرخ والمفكر الفلسفي عبر عرض نتاجاته المختلفة، فيقول:
ومذهبه العقلي المعتدل هو علي غرار التوماوية الجديدة ورائدها جاك ماريتان وقد كان أستاذاً ليوسف كرم... وأساس مذهبه أن العقل قادر علي إدراك الحق ومن ثم البلوغ إلي اليقين. فالعقل يصل إلي ماهية الأشياء بفضل قدرته علي (التجريد) والتجريد واسطة الاتصال بين العقل والوجود، وفيه ضمان العلم.
تتحول مقولات الفلاسفة أو المفكرين إلي جزئيات فكرية مفصولة عن دلالاتها الخارجية المختلفة، فالعقل في الفقرة الواردة السابقة، يظهر كشكلٍ مجرد، فلا نعرفُ طبيعةَ هذا العقل النظرية والاجتماعية، كما أن كافةَ المقولات كالإله واليقين والعلم تصبحُ بمثل هذا التفريغ، فهي بلا إرث شرقي غائر، يعبر عن قوي اجتماعية عليا، تمنهج وجودها الاجتماعي التاريخي عبرها، وفي ظلِ علاقةٍ مع الغرب المسيطر، وبهذا تنقطعُ المقولات والفلاسفة عن الصراع الاجتماعي الذي بدأ مراد وهبة به موضوعه.
أما الباحث اللبناني ناصيف نصار فهو يقرأ الفلسفةَ العربية وظهورَها القديم والحديث عبر قضايا التطور الفكري والسياسي المشرقي، ويطرحُ مقاربة أخري لظهور الفلسفة فيقول:
لم يتألق وجه الفلسفة في الثقافة العربية كما تألق وجه الشعر ووجه النبوة، بل ان الذين تجرأوا وتفلسفوا لم يتوصلوا إلي انتزاع حقوق ثابتة معترف بها بصورة عامة متصلة في ميدان العمل الثقافي. لقد ظلت الفلسفة، من حيث هي نشاط عقلي حر من الوحي النبوي، في حالة حرب مستمرة من أجل تثبيت شرعية وجودها ونشر فوائدها. ولذا تتحدد المسألة الأولي في قضية الحداثة الفلسفية في الثقافة العربية الراهنة في كيفية انتزاع التفلسف الحر من السلطات الدينية والسياسية التي تكره بطبيعتها نور الفلسفة.
تــُطرحُ الأنواعُ الفكرية هنا كأنواعٍ مجردة خارج البُني الاجتماعية، فالدينُ والأدبُ والفلسفةُ في الحياة العربية هي أشكال لوعي أسطوري واحدٍ، ليس ثمة من تناقض مطلق بينها، لكن التناقض نشأ بين أشكال وعي ديني نصوصي شكلاني وبين حفر فلسفي في الوجود لم ينقطع هو الآخر عن تلك النصوصية الشكلانية.
إن التعميم يبدو صارخاً في قوله (لقد ظلت الفلسفة، من حيث هي نشاطٌ عقلي حر من الوحي النبوي)، فعلي العكس كانت الفلسفةُ الدينية الإسلاميةُ تنتجُ في ظلاله.
إن التعميم هنا عن الأنواع يقود إلي سلسلة متوالية من الأخطاء. فناصيف نصار يحول نشوء الفلسفة العربية قديماً وحديثاً إلي جوانب مطلقة مجردة، فهو إذ يقيم الاتجاهات القومية السياسية في بلاد الخصيب المعاصرة يفصلها كلية عن إنتاج الفلسفة العربية الإسلامية.
يدور فكر انطون سعادة بكليته حول قضية بعث الأمة السورية والمشاركة الخلاقة في النهضة العربية الشاملة، ويتركز علي قضية الحزب الذي أوجده لتحقيق البعث القومي. وكذلك يدور فكر الأرسوزي كليته حول بعث الأمة العربية ورسالتها إلي العالم، إلا انه لا يرتبط مباشرة بقضية جماعة حزبية محددة كما يرتبط فكر عفلق. فالمحور الواقعي عند كل منهما هو الجماعة القومية.. وهذا التمحور حول جماعة محددة تحديداً عينياً هو خاصة أساسية في الفكر الإيديولوجي علي العموم.
من المؤكد ان وعي هؤلاء القيادات الفكرية ـ السياسية هو وعي ما قبل فلسفي، حيث أن نشأة الوعي النهضوي في سورية في بداية القرن العشرين وما تلاها كانت لا تتيح القفز إلي التفكير المجرد، الذي يشكل منظومة فكرية عامة إلي الوجود، فهذه المنظومات العامة تحتاج إلي مجموعة متعددة من العلوم الطبيعية والإنسانية وهي مسألةٌ بدورها مترتبة علي تطور ثقافي - اجتماعي واسع، ولهذا فإن مثل هؤلاء القادة السياسيين النظريين لم يكن بإمكانهم إنشاء فلسفات، خاصة ان الفلسفات الكبري في المنظومة الرأسمالية المعاصرة قد تم إنتاجها، وهذه المنظومة هي التي استوعبت عمليات التراكم العلمي علي مدي قرون، وإنشاء فلسفات في العالم العربي المتخلف التابع، لا يمكن إلا أن يرتكز علي هذا الإنتاج.
وحين يستوردُ هؤلاء القادة عناصرَ معينة من رؤي قومية متقاربة في نشاط سياسي اجتماعي متقارب، دون أن يأخذوا تلك الفلسفات الكبري السابقة الذكر، فهذا يعبر عن ذلك المستوي الثقافي العلمي المحدود في البيئة السورية في ذلك الزمن، ولعدم وجود عمليات التراكم الثقافي العلمي الواسعة.
كذلك فإن ما يدفع القادة هؤلاء إلي تناول العناصر القومية الشمولية واللاتاريخية من حيث وعيها، أنهم يعبرون عن بُني اجتماعية متعددة متخلفة، لم تنتشر فيها حركات الفئات الوسطي الحرة.
وهذا بخلاف البنية الاجتماعية المصرية التي كانت فيها تلك العناصر أوسع ولهذا فإن الفكر الليبرالي وجد تربة أكبر.
إن هذا التمظهر القومي المتعدد، يحوي رؤيً موحدة رغم أشكالها المناطقية، فجوهرها الفكري ـ الاجتماعي واحد، فهم عناصر من الفئات الوسطي المشدودة إلي تلك البني التقليدية، وهم بدلاً من توسيع البذور التحررية الاجتماعية في تلك البني، قاموا بإعادة إنتاج النظام التقليدي بصورة سياسية جديدة، أي قاموا بتكوين مجموعات سياسية شمولية مرتكزة إلي المصالح الاجتماعية للقوي الإقطاعية - التجارية المحلية الكبري.
ولهذا فإن العناصر الفكرية المجلوبة من الفكر القومي الألماني والفكر الديني القديم والمعاصر، تحوي عناصر فلسفية معينة، توجهها تلك الأهداف السياسية.
ومن الممكن توسيع هذه العناصر القومية الفلسفية لتغدو نظرة فلسفية عامة بدعمها بثمار العلوم المختلفة، لو كان الُمنتجُ يمتلك تلك الثمار المعرفية، حتي لو كان بشكل فردي استثنائي.
ولكن لما كان جميع هؤلاء المنتجين يستهدفون حركة سياسية راهنة، تعبئ الجمهور المتخلف غير المتحرر ليشكلوا منه قوي سياسية شمولية، فإن الطابع الإيديولوجي الشعاري الحماسي والضبابي والعاطفي هو الذي يغدو مسيطراً، فيتواري الإنتاج الفكري العميق والرفيع.
ويتصور ناصيف نصار ان الجانب القومي الذي يستهدف نهضة جماعة لا يمكن أن يكون مداراً للفلسفة فيقول:
ان أهم مدارات الفكر الفلسفي الاجتماعي التاريخي هي حقيقة الوجود الإنساني الاجتماعي التاريخي، منطق الحركة الاجتماعية التاريخية في كلية الوجود الاجتماعي التاريخي أو في بعض مستوياته أو أجزائه، معني تلك الحركة والقوي والأشكال الرئيسية فيها، مصير الإنسان ودور الوعي والعقل والحرية والقيم في هذا المصير، ماهية الدولة ووظيفتها في مصير الإنسان الخ.
إن الرواد القوميين الشموليين وهم يسعون لأهدافهم السياسية المباشرة يستحيل أن يغوصوا في التحليل الموســــع والشامل للظاهرات التاريخية ولخلفياتها الوجودية ولجذور مفرداتها الاجتماعية والكونية، لكن ذلك لا يعني أن البحث القومي ـ الفلسفي التالي لا يمكن أن يستفيد من مرحلتهم الاجتماعية المباشرة ويتجاوزها، جامعاً بين الوطني والقومي، وبين القومي والإنساني، وبين الاجتماعي والوجودي، وبين الظاهرات المباشرة والمفاهيم.
فالفيلسوف الاجتماعي التاريخي ليس بالضرورة معبراً عن وجهة نظر جماعة محددة. وناصيف نصار في هذه الخلاصة يحول المفكر إلي كائن خيالي، لأنه يعزل الفلسفة عن الجماعات وصراعاتها، ويحيلها إلي المجرد المفارق، ويقطعُ العلاقةَ بين النسبي والمطلق، وبين الجماعة والموضوعية، فكأنه يستحيل أن تتآلف عمليات الدفاع عن الجماعة المحددة والسيرورة التاريخية.
يغيبُ هذا التحليل تلك المصطلحات المجردة التي يستخدمها ناصيف نصار في تحليله للفلسفة العربية بين العصر القديم والحديث، فيقول :
عندما ننظر إلي الفلسفة من وجهة نظر حضارية، أو إلي الحضارة من وجهة فلسفية، يتبين لنا أن وضعية الفيلسوف في العالم العربي المعاصر تختلف اختلافاً كبيراً عن كل الوضعيات التي عرفتها الفلسفة في تفاعلها مع التاريخ الحضاري. لقد حاول الفارابي أن يبني نظاماً فلسفياً كاملاً في بيئة تاريخية اجتماعية تسيطر فيها النظرة الإسلامية إلي العالم والحياة والمصير، إذن، كانت الوضعية التاريخية العامة التي أنشأ فيها الفارابي نظامه الفلسفي.. تتميز بما يمكن أن نسميه التفوق الحضاري.
لا تستطيع التعبيرات المتضخمة أن تفسر وضعية الفارابي الفكرية، فالفارابي وجد نفسه أمام تراكم ثقافي كبير، وضع الأساس لنمو التفكير المجرد، وهذا ما لم يكن موجوداً في البُني الاجتماعية العربية لزمن النهضة الحديث المبكر، رغم أن الماضي العربي يبقي جذوراً مهمة لتلك الحقبة، لكن الفلسفة كنوع فكري خاص لا تقوم إلا علي أساس تراكم الفكر المجرد، أي علي وعي العالم من خلال المفاهيم والقوانين.
لقد كان الفارابي إيديولوجياً ومعبراً عن جماعة هي جماعة المثقفين من الفئات الوسطي المتصوفين والمبتعدين عن الصراع والانغمار في المادة. وهي الجماعة الواسعة التي أنشأتها ظروف العصر وبالتالي كان التفوق الحضاري يقود إلي تدهور حضاري!

استنتاجات

في الرؤي المختلفة التي ناقشت قضية تطور الفلسفة بين عصرين عربيين ـ إسلاميين وأسباب انبثاقها وتخلفها الراهن يمكن ملاحظة المنهجية المشتركة بينها، هي أن الباحثين عموماً لم يضعوا قضية ظهور الفلسفة قديماً وحديثاً في سياق البُني الاجتماعية التاريخية، وكان هذا بحاجة إلي معرفة السببيات الداخلية العميقة في هذا الظهور علي ضفتي الزمن، وإذا كانت الفلسفات العربية القديمة تظهرُ في ظل نظام ديني مهيمن وتحاول أن تقدم إجابات علي قضايا العصر داخل ذلك المناخ الديني بشكل مختلف عن مستواه السابق، فإنها في العصر الحديث تبدأ من داخل تلك الفئات المثقفة الوسطي نفسها، ولكن داخل عصر مختلف، لم يعد فيه النظام الديني الإقطاعي مسيطراً علي العديد من بقاع العالم، ولهذا وجد ممثلو الفئات الوسطي أنفسهم بين نظامين تاريخيين، فنظامهم التاريخي التقليدي لا يزال مستمراً ومهيمناً عليهم، وفي لحظتنا الابتدائية الآن في ما يقارب النصف الأول من القرن العشرين كانت تشكيلاتهم الفكرية تعتمد علي جلب مواد ومناهج غربية وتفعيلها في ذلك النظام التقليدي المتجه في عمليات تحديث قاصرة، وهذه المواد تتسم بتبني نظرات تحديثية جزئية عموماً، أي بأخذ منهج غربي ما واعتباره حلاً فلسفياً ناجزاً لمشكلات الواقع، ولهذا يعتبرُ بعضهم بأن مدرسة معينة منقولة من الغرب هي تتويج للتطور الفلسفي الوطني دون أن تنبثق هذه المدرسة عن التطور الفلسفي الوطني ذاك، فتغدو الوضعية المنطقية مثلاً المنقولة من الغرب تتويجاً للتطور الفلسفي العربي ـ الإسلامي، دون أن تقوم هذه الفلسفة بتركيب عميق بين فلسفة الماضي والحاضر. وكذلك يجري هذا في الرومانسية الغربية أو (الماركسية ـ اللينينية) إلي آخره. فالوعي العربي للفئات الوسطي يقوم بعمليات نقل منوعة عبر اتجاهات تقاربية عديدة للفئات الوسطي بالحاكمين أو بالمحكومين، بالإقطاع أو بالقوي العادية الخ.. وهذا النقل يفيد حالات اجتماعية وسياسية راهنة ومؤقتة وليس لحل الإشكاليات الكبري في البني الاجتماعية.
ويجري عبر هذا الوعي قطع الصلات بين تطور البني الاجتماعية العربية التي نبتت فيها الفلسفة قديماً، وعدم معرفة هذه الظروف بعمق، ولا صلة التداخل بين العالمي والعربي، وبين مراحل التطور العربي نفسه في الماضي، وانتقال البني القديمة إلي العصر الحديث والتغيرات والتماثلات بين العصرين، وعلاقة هذه البني بالنظام الغربي المسيطر وبالعالم.
فيجري تناول جانب وعزله عن الظاهرات الأخري، كالرؤية بأن الفلسفة العربية السابقة نتاج التطور الحضاري وبطريقة معمّمة مجردة، وعدم قراءة الفلسفة كشكل مميز من الوعي له شروطه الذاتية والموضوعية، كما أنهم يقرأون الفلسفة وهي ليست أداة نظرية للتحليل الموسع العميق النقدي للتطور الاجتماعي التاريخي عبر العصور، فلا يرون عمليات النقل القديمة وجذورها وتعبير النظرات عن جوانب نظرية جزئية غير نقدية عميقة للواقع، وهكذا يتفتت وضع الفلسفة قديماً وحديثاً.
إن عمليات النقل والاستيراد التي تأخذ جوانب ومناهج من فلسفات أخري في أزمنة أخري وفي بني اجتماعية مختلفة، لا تخضع عمليات النقل هذه لإعادة نظر جذرية في الواقع وفي القوي الاستغلالية المسيطرة عليه والمانعة إياه من التحديث الشامل، وهذه الجوانب تتكرر في الماضي والحاضر.
بمعني أن ممثلي الفئات الوسطي المختلفة المعاصرة يقومون بنقل مناهج وأدوات عربية قديمة أو غربية جديدة، بدون أن تكون هذه المناهج أدوات تحليل شاملة للبني الاجتماعية التي يعيشون في ظلها، ولهذا يستعيرون هذه الأداة أو تلك دون أن ينظروا لبني التطور الغربي الحديث المختلفة وذات السيرورة التاريخية المتباينة. بمعني أنهم يعجزون عن سبر أغوار الآفاق الخاصة لتطور البني الاجتماعية ذات السيرورة التاريخية المختلفة عن الغرب. فإما أن يجري سحب البناء الاجتماعي العربي الديني السابق، أو يجري التماهي مع الغرب، أي أن النظرتين الأساسيتين إلي التاريخ القديم والجديد عاجزتان عن رؤية المسار الخاص العربي في ظل التاريخ العالمي. فهذه الفئات الوسطي عاجزة عن رؤية قصور مثيلاتها العربية القديمة، وقراءة دورها في العصر الحديث مستفيدة من إنتاج الفئات الوسطي الغربية بشكل يعبر عن تغييرها للأبنية الاجتماعية العربية الراهنة بشكل تحرري مستقل.
وهذا الأمر ينطبق هنا علي ممثلي الفكر الفلسفي الجديد وعلي ممثلي الفكر الاجتماعي والثقافي السابق في بداية القرن العشرين كذلك، وهو أمر يوضح كيف أن المدارس الفلسفية العربية الحديثة لا تزال تعيش في المنهجية الغائرة القديمة.
QP17

هل ترغب في التعليق على الموضوع؟

"القدس العربي" ترحب بتعليقات القراء، وترجو من المشاركين التحلي بالموضوعية وتجنب الاساءات الشخصية والطائفية، ولن يتم نشر اي رد يحتوي شتائم. كما ترجو الصحيفة من المعلقين ادخال الاسم الاول واسم العائلة واسم الدولة وتجنب الاسماء المستعارة. ويفضل ان تكون التعليقات مختصرة بحيث لا تزيد عن 200 كلمة.

الأسم:
بريدك الألكتروني:
الموضوع:
التعليق:
in
 
مدخل
أرشيف
مواقع اخرى
الاتصال بنا
مذكرات و كتب

Website Statistics