مجلة العربي
 مجلة شهرية ثقافية مصورة تأسست عام 1958 تصدرها وزارة الإعلام بدولة الكويت للوطن العربي ولكل قارئ للعربية في العالم   
  الأحد 1 يناير 2006  1/12/1426هـ / العدد 566   ISSUE NO 566, 1 Jan 2006  
 
العدد الحالي كل الاعداد

سنة  
شهر

 



   
العرب والأمازيج.. النهر والروافد
        

          (الأمازيج) في الجزائر, هم من الجماعات القومية والعرقية في الوطن العربي الكبير, التي كانت - ولاتزال - تسعى  لمقاومة التهميش والتمييز ضدها أيّا كانت الأشكال التي يتخذها كل من التهميش والتمييز, والأهم من ذلك سكوت المجتمع عنهما.

          شارك الأمازيج على نطاق واسع في حرب التحرير ضد فرنسا بعد أن كانوا قد جاءوا إلى العاصمة يعملون أعمالاً متواضعة, بائعين وسائقين وحراسًا للمباني, ويتحدثون الفرنسية بطلاقة, والعربية بصعوبة, وفيما بينهم يتحدثون بلغتهم, ولديهم شعور قوي بخصوصيتهم الثقافية لا القومية, فهم جزائريون حتى النخاع.

          يقول الباحث محمد حربي في كتابه (الجزائر 1914-1962 جبهة التحرير الوطني.. الأسطورة والواقع): تصبح الخصوصية أكثر حدة أيضا في القبائل الكبرى, المنطقة الريفية المتقوقعة في موقع دفاعي, ومنغلق على ذاته, وقد تضخم الشعور بالانتماء الإقليمي مع الاستعمار, واتخذ مضمونًا جديدًا وبفضل زيادة المبادلات بفعل الاختراق الرأسمالي, راحت عوالم صغيرة مقفلة ومنعزلة, تتفتح على أفكار العالم الخارجي, فالقبائل حرم الفقر (موطن الفقر), صدرت رجالها إلى فرنسا وإلى الداخل الجزائري, لكي تستطيع البقاء, هؤلاء الرجال غالبًا ما كانوا يواجهون في مناطق السهل والمدن الجزائرية عادة بحذر واحتقار كانا يتناميان حيالهم بسبب وضعهم الاجتماعي واختلافهم.

          وهكذا كان الشعور بالانتماء الإقليمي يزداد, وابن القبائل الذي كان وطنيًا في مواجهة المستعمرين, راح يكتشف نزعة الإقليمية حيال الجزائريين الذين يتكلمون العربية).

          و(البربر) الأمازيج هم أكبر الجماعات اللغوية غير العربية في الوطن العربي يوجدون في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا, ويزيد عددهم على خمسة عشر مليونا, يعيش غالبيتهم في الجزائر والمغرب, وهم ينتمون سلاليًا إلى الأسرة الحامية - السامية أو البحر متوسطية, التي ينتمي إليها العرب مما سهل عمليات التفاعل والتعريب والأسلمة. واللغة الأمازيجية شأنها شأن الكردية هي مجموعة لهجات, وإن كان الأكراد قد كتبوا حروف لغتهم بالعربية, وبالرغم من ثراء الثقافة الأمازيجية, فإن معظم تراثها غير مكتوب, وكان الأمازيج قد قدموا شأنهم شأن الأكراد قيادات مهمة وبطولية في التاريخ العربي الإسلامي مثل طارق بن زياد, الذي قاد المسلمين عبر المضيق إلى شبه جزيرة أيبيريا لفتح الأندلس, وكل من أحمد بن بللا, وحسين آية أحمد من قادة حرب التحرير الجزائري تمامًا كما قدم الأكراد صلاح الدين الأيوبي, محرر القدس من احتلال الفرنجة في القرون الوسطى.

          ويرى التقرير الأول لهموم الأقليات الذي أصدره مركز ابن خلدون في القاهرة سنة 1993 أن التنظيم الاجتماعي للبربر لا يختلف كثيرًا عن مثيله بين العرب, حيث كان يتمحور حول القبيلة والعشيرة, ومن البربر من استوطن واحترف الزراعة منذ قديم الأزل, ومن قبائلهم من احترف الرعي وعاش حياة البداوة, ولعل أكبر التجمعات البربرية التي تجوب الصحراء الكبرى هي قبائل الطوارق, وتشمل منطقة ترحالها كلا من جنوب الجزائر وليبيا والنيجر ومالي وشمال فولتا العليا.

          ومعظم البربر يتحدثون العربية كلغة ثانية, لا فقط كوسيلة للتعامل مع إخوانهم العرب, وإنما أيضًا كأداة لأرقى أنواع التعبير الثقافي كما سنتبين لاحقًا.

          وإذا كان المتخصصون يستبعدون أن تنمو في منطقة المغرب العربي حركات سياسية تدعو إلى انفصال البربر, فإن الحركات التي تدعو إلى (التعددية الثقافية) قد تزايدت, ويعقد الأدباء الأمازيج في المغرب مؤتمرًا دوريًا لهم منذ سنوات, وينشط كثير من الباحثين وعلماء اللغة لكتابة الأمازيجية, وقد اعترفت بها حكومة المغرب كلغة ثانية تعلمها في المدارس. وطالما حاول الاستعمار الفرنسي اللعب على التناقضات بين العرب والبربر في الجزائر, سواء أثناء احتلالها الاستيطاني للبلاد الذي دام لمائة وثلاثين عاما, أو بعد خروجه مدحورًا بعد حرب تحرير دامت ثمانية أعوام.

عمق استراتيجي

          تأسست الأكاديمية البربرية في فرنسا سنة 1967, وكان مقرها جامعة باريس 8 في فانسان, وهي تلك الجامعة التي تحولت بعد عام من هذا التاريخ لمعقل من معاقل الانتفاضة الطلابية والشبابية التي اندلعت في فرنسا سنة 1968, وأدت إلى إسقاط الجنرال ديجول بعد ذلك.

          وإذا كان توالي التاريخين على هذا النحو من السرعة قد تم صدفة, فإن هناك دلالة عميقة لهما, وفي ارتباطهما ببعضهما بعضا, إذ كانت فرنسا الديجولية تخطط لتحقيق حلمها بأوربا موحدة تحت قيادتها في مواجهة النفوذ الأمريكي المتزايد على العالم من جهة, وهيمنة النظام الاشتراكي تحت قيادة الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه على شرق أوربا حينذاك من جهة أخرى.

          وكانت أحلام ديجول الأوربية تبحث عن عمق استراتيجي لها في المستعمرات الفرنسية السابقة التي تحررت الواحدة بعد الأخرى.

          فلم يكن قد مضى سوى خمس سنوات على استقلال الجزائر بعد حرب تحريرية مسلحة دامت ثماني سنوات, إلا وكانت حملة تعريبها قد بدأت على أيدي نظام (هواري بومدين) الذي أفصح عن توجهات عروبية عالمثالثية قوية في سياساته, وبرز موقفه ثابتًا كأحد زعماء حركة التحرر العربي بعد هزيمة 1967, ودعوته القوية لمواصلة الكفاح.

          وكان اللعب على انقسام الجزائر بين العرب والبربر إحدى أدوات السياسة الفرنسية الفرانكفونية في محاولتها للاحتفاظ بمواطئ قدم في المستعمرات عن طريق الهيمنة الثقافية واللغوية التي ميزت الاستعمار الفرنسي.

          وشكلت الجزائر بثرواتها الهائلة واتساع رقعتها وموقعها العربي الإفريقي - المتوسطي الفريد مطمعًا لفرنسا التي بلعت في أقل من عشر سنوات هزيمتين مدويتين, إحداهما في فيتنام, وفي موقعة تاريخية هي (ديان بيان فو) سنة 1954, والأخرى في الجزائر نفسها سنة 1962, وكان لابد أن تتخذ عملية الترتيب لاستعادتها - أي الجزائر - هذا الطابع المركب من الهيمنة الثقافية بالإبقاء على وضع اللغة الفرنسية المهيمن, والسعي للتوغل في الاقتصاد الوطني الجزائري وفي الدوائر السياسية.

          وبرز الصراع على التعريب كإحدى أهم القضايا في العمل الوطني بالجزائر سواء قبل أو بعد رحيل (هواري بومدين).

          وبالرغم من أن كتابات كثيرة قد صدرت منذ استقلال الجزائر عن قضية التعريب ومعاركه, فإن كتابا للدكتور (عثمان سعدي) سفير الجزائر السابق في كل من العراق وسورية بعنوان (الأمازيج عرب عاربة), وعنوانه الفرعي (عروبة الشمال الإفريقي عبر التاريخ) - يعد إضافة مهمة ومميزة لما تراكم فعلا من دراسات في هذا الميدان, اشتبكت بعض فصوله في المعركة الدائرة الآن في الجزائر حول التعريب مجددًا, وفي ارتباط مع الدور الذي تلعبه الجماعات الإسلامية - مسلحة أو سياسية - والتي تنعكس فيها الأزمة الشاملة والعميقة للبلاد.

          ويستعرض الكتاب تاريخ المسألة البربرية في حرص بالغ على توثيق مادته بالعودة إلى كثير من المراجع الأوربية والأمريكية, ليثبت لنا أن القبائل البربرية في الجزائر (والكاتب هو نفسه من أصل بربري إذ ينتمي لقبائل النمامشة), كانت قد استقرت في البلاد قبل الإسلام بزمن طويل قادمة من الهجرات التي خرجت من اليمن والجزيرة العربية وبلاد الشام وأرض كنعان (فلسطين), أي أن هذه القبائل تنتمي إلى ما يسميه علماء الأجناس والسلالات إلى الأقوام العربية القديمة, (والبربر يعيشون في حوض حضاري - ولا أقول عرقي - يقع في هذا الامتداد الجغرافي من سلطنة عمان شرقًا, على المحيط الهندي, إلى موريتانيا على المحيط الأطلسي غربًا...).

          وقد تحدث البربر قبل دخولهم الإسلام اللغة البونيقية - أي اللغة العربية القديمة, ودانوا بالديانة الفينيقية, أي القرطاجينية التي اعتنقها البربر, والتي قامت على ما يشبه التوحيد, لذلك كان اعتناقهم للإسلام سلسًا, كما كان تعلمهم للغة العربية التي طوّرها القرآن الكريم سهلاً للغاية.

          وأثناء الاحتلال الروماني للشمال الإفريقي, كان القديس (أوغسطين) يسأل الأهالي في دروس الوعظ المسيحية التي يلقيها عليهم:

          - ما هو أصلكم?

          فكانوا يجيبونه:

          - نحن كنعانيون.

          ويتتبع الكاتب الأصول المشتركة للغات البربرية من جهة, والعربية من جهة أخرى.

          وتوجد أسماء باليمن متطابقة مع أسماء لقبائل بربرية كالشلوح: اسم قرية وقبيلة باليمن, والشلوح تجمع كبير للقبائل البربرية بالمغرب الأقصى.

          وقبل أن يحكي لنا الكاتب تاريخ النزعة البربرية المحدثة في الجزائر منذ الأربعينيات في القرن العشرين يبين كيف أن وحدة الأمة هي من وحدة اللغة, وكيف أن غياب الوحدة اللغوية قد أدى لانعدام الوحدة الوطنية لدى الشعب الأفغاني, وكيف تعاني (باكستان) التي اضطرت بسبب التعدد اللغوي إلى إقرار الإنجليزية بديلاً عن اللغة القومية, حتى أن بعض الساسة يدعون الآن لاعتماد العربية كلغة قومية.

نحو التقسيم

          يشكل البربر عشرين بالمائة من سكان الجزائر, وليست لهم لغة واحدة, ولكن هناك جهودًا حثيثة لكتابة اللغة, وتوحيد لهجاتها وحتى قبل أن تندلع الثورة المسلحة في الجزائر في الأول من نوفمبر 1954, كان المحتلون الفرنسيون يسعون لتقسيم الجزائر على أساس عرقي وثقافي بدعوى أن البربر هم أصل سكان الجزائر, وأن البربرية هي الهوية الوطنية للبلاد, وما العروبة والإسلام إلا دخيلان عليها, وتأسست حركة الثقافة البربرية منطلقة من محاربة انتماء الجزائر العربي - الإسلامي, والعمل من أجل (بربرة) الجزائر وربطها بفرنسا.

          ويدلل الباحث على تورط عدد من الصحف الناطقة بالفرنسية والتي تصدر الآن في الجزائر في ظل أزمتها الطاحنة - في عمليات التحريض ضد تطبيق القانون الملزم باستخدام اللغة العربية في المعاملات الرسمية والمصالح الحكومية والذي يقرر تغريم المخالفين.

          ويحكي الكاتب تاريخ المعارك التي خاضتها الحكومة الفرنسية منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى أيامنا هذه لتعميم اللغة الفرنسية في مواجهة لهجات المناطق المختلفة مثل (الباسك) و(بروتاني) في القرن الثامن عشر, وفي مواجهة انتشار اللغة الإنجليزية ودخول بعض مفرداتها إلى الفرنسية لدرجة شعرت معها السلطة الفرنسية بالتهديد هي التي كانت قد خاضت حربًا طويلة ضد أمريكا في المناقشة التمهيدية لاتفاقية التجارة العالمية بهدف المحافظة على الهوية الوطنية الفرنسية أي الثقافة واللغة الفرنسيتين المهددتين بالإنتاج السينمائي والتلفزيوني الأمريكي تهديدًا خطيرًا وهو يكتسح العالم في ظل العولمة, وتوصلت فرنسا فعلاً إلى ضمانات لحماية ثقافتها. لكن وجهها الاستعماري يفصح عن نفسه في المعركة بين الفرانكوفونية والعروبة في الجزائر, فهي تريد أن يبقى نفوذها قائمًا, فرأى استراتيجيو الاستعمار الفرنسي الجديد أن الشعب الجزائري لا بد أن يقسم إلى شعبين: شعب يتكلم البربرية وشعب يتكلم العربية, أي أن يخلقوا (ضرة) للغة العربية على حد تعبير المؤلف - حتى يضمنوا أن تبقى وإلى الأبد اللغة الفرنسية لغة مشتركة بين الشعبين, وأن من يدعو إلى الثقافة البربرية في مواجهة الثقافة العربية ينتهي موضوعيًا إلى الدعوة إلى الثقافة الفرنسية. وكما يقول المناضل المغربي الراحل وهو من أصل بربري محمد البصري أحد مؤسسي وقادة الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية (ولا توجد مسألة بربرية بالمعنى السياسي الحقيقي للكلمة مثلما توجد مثلاً مسألة كردية في العراق أو مسألة جنوب السودان, ناهيك عن المسألة الطائفية في لبنان, فالبربر مندمجون تمامًا في مجتمعهم بشمال إفريقيا بسبب الرابطة الإسلامية, وبسبب التزاوج المستمر, وبلا عقد عنصرية بين العرب والبربر, فوالدة الملك الراحل الحسن الثاني, في المغرب (بربرية) وزوجته بربرية) ونضيف أن الملك الجديد محمد السادس قد تزوج من بربرية, والكثير من أسر المغرب تجد فيها الأب أو الأم من البربر.

          أما المؤرخ الفرنسي الذي ولد وعاش في الجزائر لسنوات عدة (جاك بيرك) والذي توفي قبل سنوات فيقول في حديث له لجريدة الأهرام القاهرية:

          (إن الدوائر الاستعمارية كانت تبذل جهودًا مضنية لغرس العنف بين العرب والبربر في إطار سياسة الشقاق التي كانت تمارسها بغرض ضرب وحدة هذه البلاد, كما أنها كانت أول من وضع فكرة العروبة في مواجهة فكرة البربرية, وترجيح إحداهما على الأخرى حسبما تقتضي مصلحته.

          وفي أثناء حرب التحرير الجزائرية كانت المفاجأة التي أذهلت الاستعمار الفرنسي, أن البربر وقفوا إلى جانب إخوانهم العرب في صفوف المقاومة مطالبين بالاستقلال).

          ويضيف بيرك: (علينا ألا ننسى أن هناك عوامل عديدة قد تلعب في هذا الاتجاه منها إخفاق الموجة التحريرية المصبوغة بالعروبة..).

          وفيما يتعلق بالمطلب الخاص باللغة (أي البربرية) لا أعتقد أنه مطلب مشروع, لأنه سيؤدي في النهاية إلى انقسام الولاء, وكنت قد وجهت اللوم إلى صديقي عبدالكريم غلاب صاحب جريدة (العلم) بالمغرب الأقصى الذي تقدم بمشروع يقضي بتدريس اللغة الأمازيجية (البربرية) في المدارس المغربية بطريقة إلزامية وقلت له:

          - لست على حق في ذلك, إذ كيف تجبر الأطفال في مدينة فاس العربية على تعلم اللغة الأمازيجية, وذكرت له أن الحل الأمثل الذي أراه هو الحل نفسه الذي أراه لبعض اللهجات الفرنسية في منطقتي (الباسك) أو (بروتاني), إذ يمكن أن تكون هذه اللهجات اختيارية لا إجبارية على الطالب في فرنسا).

          وقد بادر المثقفون والساسة التقدميون والمستنيرون من الجزائريين عربًا وبربرًا إلى تأسيس لجنة أطلقوا عليها اسم لجنة مساندة المفهوم الوطني السليم للمسألة الأمازيجية الذي انطلق من لائحة (بيان) الولاية الأولى لثورة أول نوفمبر (أوراس النمامشة) الذي كتب باسمها الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي واحدة من أهم القصائد الملحمية في الشعر العربي المعاصر إبان حرب التحرير الجزائرية وهي (أوراس).

          تأسست اللجنة في 31 مارس 1996, أي في اليوم التالي مباشرة ليوم الأرض الفلسطيني في 30 مارس الذي يحتفل به العرب جميعًا, وكان الانعقاد في مدينة باتنة عاصمة الأوراس لتؤكد (أن الأمازيجية).. عنصر من عناصر تاريخنا, وأن اللهجات الأمازيجية ما هي إلا روافد للغة العربية وللثقافة العربية...).

الرئيس الأول

          وقد سارع (أحمد بن بللا) أول رئيس لجمهورية الجزائر - وهو بربري - إلى إصدار بيان تأييد وتلاحقت بيانات التأييد التي كشفت عن عمق وأصالة الوحدة الوطنية الجزائرية التي تشوهها جماعات الإرهاب المسلحة بجرائمها البشعة التي ترتكبها باسم الإسلام من جهة, والنزعة البربرية الانفصالية المشبوهة من جهة أخرى, التي أخذت تتقوى بانعقاد المؤتمر الدولي الأول للأمازيجية بفرنسا في سبتمبر 1995 - الذي أسس المكتب العالمي للأمازيجية - ثم انتشرت بعده دعوة لتأسيس أكاديمية أمازيجية توكل لها (مهمة التوحيد العلمي للهجات الأمازيجية).أي أن هناك إقرارًا من أصحاب فكرة أن الجزائر كلهم أمازيج, وأن الأمازيجية هي لغة الأم بأنها -أي اللغة- مجموعة لهجات وليست لغة.

          وبعد فإن حماسة المؤلف والمناضل د.عثمان سعدي وروحه السجالية العروبية المقاتلة, هو الذي أسس ورأس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية, وأخذ ينقب بجد في بطون الكتب ليسند رؤيته الأصيلة. إن كل هذا لا يجعلنا نتجاهل مجموعة من الحقائق لم يتوقف عندها المؤلف وأولاها: أوضاع التهميش والفقر الضمني ضد البربر, وثانيتها: ضرورة تطوير اللغة العربية, التي لابد أن تصبح بالإضافة لكونها لغة القرآن الكريم والأدب والشعر ديوان العرب, لابد أن تكون أيضًا لغة للعلم والعصر الحديث وألا تتخاصم مع هذا العصر باسم القدسية, لتكون جذابة للأمازيج شأنها شأن الفرنسية كلغة عصرية.

          أما ثالثة هذه الحقائق فهي تخص فكرة البحث في الأصول, والحفر المتواصل للتحقق منها حتى ترتب على هذا الأصل التاريخي موقفًا حضاريًا أو سياسيًا, لأن مثل هذا الطرح يمكن أن يقدم مساندة ضمنية للخرافة الصهيونية التي أخذت تنقب عن الأصل التاريخي القديم لليهود المعاصرين لتقول بعد ذلك بحقهم في العودة إلى فلسطين, فليس هناك أي أصل عرقي نقي تمامًا.وللطاهر وطار الروائي الجزائري صاحب (اللاز) و(عرس بغل) و(الشمعة) و(الدهاليز) والأخيرة هي روايته التي تصور محنة المثقف الوطني الممزق في الجزائر الآن, لا بين اللغتين العربية والأمازيجية, ولا بين الفرنسية والثقافة العربية, كما كان الحال قبل الاستقلال وبعده مباشرة, وإنما بين الجماعات المتشددة التي تشده إلى طريق مظلم, والجماعات الحزبية الديمقراطية العصرية التي لا تقدم حلولاً  متكاملة منطقية ومقبولة لخروج الجزائر من أزمتها, (الطاهر وطار) هذا صاحب المجلة الأدبية (الجاحظية) التي نستشف من اسمها اختيارًا تراثيًا عقلانيًا واعيًا بالدور الذي يمكن أن تلعبه القراءة النقدية لتراث الأمة, إذ كان الجاحظ الفنان أحد مفكري المعتزلة الكبار من دعاة العقلانية والاستنارة والتنوع والتقدم في القرن الرابع الهجري. والطاهر وطار يطرح القضية على نحو آخر, إذ يرى أن اللحمة الوحيدة لهذا الوطن هي لغة وطنية واحدة يتحد حولها الناس ويجمعون عليها, يتحدثون بها ويكتبون ويحب بعضهم بعضًا باستخدام مفرداتها مع الاحترام الكامل لكل من الأمازيجية والفرنسية.

          وكان (الأمازيجيون) الذين شكلوا في سياق التعدد الحزبي في الجزائر بعض أحزاب صغيرة, يرون أن التعريب والقرار الجديد الذي اتخذته الحكومة بفرض عقوبات على الإدارات التي تتعامل بالفرنسية سوف يؤدي إلى إيذاء الموظفين من البربر الذين يعرفون الفرنسية جيدًا كما يعرفون لغتهم لكنهم لا يعرفون العربية.وبطبيعة الحال فإن دعاة (الفرانكفونية) أي أنصار الاستعمار الفرنسي - الذي لا يسمي نفسه استعمارًا طبعًا - سوف يشجعون البربر بكل قوة على التشبث بموقفهم المعارض للتعريب, لا حبًا في البربر وإنما كراهية للغة العربية التي أثبتت على مدار السنين وطول مدة الاستيطان أنها قادرة على الحياة في ضمير الناس وفي حياتهم اليومية وفي مدارسهم وجامعاتهم, حتى لو كان التعليم قد تدهور في الجزائر تدهورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة, كنتيجة منطقية لانقسامه إلى تعليم مدني وتعليم ديني - تعليم فرنسي وتعليم عربي.. مع تدهور الأوضاع الاقتصادية أيضًا وممارسات الجماعة الإسلامية المسلحة.

جيل ما بعد الاستقلال

          كذلك فإن جيل ما بعد الاستقلال قد أصبح مؤهلاً لاستخدام اللغة العربية التي تعلم بها, كما أنه يحسن الفرنسية أيضًا, أما الباقون الذين لا يعرفون العربية على الإطلاق سواء أكانوا من البربر أو العرب - وبالمناسبة فإن الطاهر وطار بربري - فإنهم جميعًا قريبون من سن التقاعد.

          وقد برزت في إطار الصراع حقيقة مدهشة هي أن الفنيين والإداريين الذين لا يجيدون العربية في الإدارة الجزائرية ولا يعرفون غير الفرنسية لم يتلقوا أي نوع من التعليم الجامعي أو العالي, ومن واقع خبرة الطاهر وطار الذي عمل فترة من الفترات مديرًا للإذاعة فإنه لم يجد أي مهندس في الإعلام الآلي مثلاً من الذين لا يجيدون العربية بينما تلقى مئات الآلاف من الطلاب الجزائريين الذين درسوا بالعربية تعليمًا عاليًا وهذا كله لا ينفي أن بعض الجماعات المتزمتة والأصولية ترى أن اللغة العربية لغة القرآن الكريم لا ينبغي أن (تتلوث) بدراسة (العلوم الكافرة) القادمة من الغرب, لكنهم أقلية على كل حال.

          خلاصة الأمر أن الجزائر التي تتأهب للخروج من محنتها سوف تحافظ بقرار التعريب على لغتها وروحها القومية, في سياق دورها المرتقب في صنع الحضارة الإنسانية, دون تعصب أعمى للعربية أو تعصب آخر ضد أي من الفرنسية أو الأمازيجية.

          فكما شارك العرب والأمازيج على قدم المساواة, ليس فحسب في الحرب التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي, بل في إنتاج وتطوير الثقافة الوطنية الجزائرية, تعرضوا جنبًا إلى جنب إلى حملة الاغتيالات التي نفذتها الجماعة الإسلامية المسلحة التي قتلت كلا من المسرحي عبد القادر علولة والمغني الأمازيجي معتوب لوناس مع الآلاف من العرب والبربر.

          وما لا تقوله بعض أجهزة الإعلام أو وبالأحرى ما اختارت أن تهمشه حول دور المثقفين الأمازيج, بل وغالبية دعاة الاعتراف باللغة الأمازيجية, بل تدريسها في المدارس, هو أن هذه الدعوة في طابعها الأساسي وعمقها ليست دعوة انفصالية تتضمن تهديدًا لوحدة الوطن الجزائري, بل إنها دفاع - عن حق أصيل من حقوق الإنسان, وهو حقه في الاعتراف بلغته والتعبير عن نفسه بها دون فرض لغة الغالبية عليه, إنه الدفاع عن الهوية بالمعنى الإيجابي.. الأفق الإنساني الأوسع الذي يتطلع إلى أن تصب الروافد الصغيرة في النهر الكبير دون أن يبتلعها النهر.

          وأخيرًا, فإن المعالجة الشاملة والعادلة لهذه القضية ودراستها من كل جوانبها هي ضرورة حيوية للمشروع القومي العربي التحرري الوحدوي الذي لا ينبغي أبدًا أن تكون الأصول العرقية هي أحد الأسس التي ينهض عليها, وبوسعنا أن نتفهم هنا دعوة بعض نشطاء حركة حقوق الإنسان لاستبدال بتعبير الوطن العربي بتعبير (شعوب العالم العربي).

ومراد النفوس أصغر من أن   نتعادى فيه وأن نتفانى
غير أن الفتى يلاقي المنايا   كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
ولو أن الحياة تبقى لحيٍّ   لعددنا أضلَّنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ   فمن العجزِ أن تكون جبانا


 

(المتنبي)

 

فريدة النقاش   
 

 
اعلانات



 

 

 




 

 

 




 

 

أحمد بن بللا وهواري بو مدين أول رئيسين للجزائر




 

 

أحمد بن بللا وهواري بو مدين أول رئيسين للجزائر




 

جميع حقوق النشر والاقتباس محفوظة "لمجلة العربي" وزارة الإعلام - دولة الكويت ص.ب 748 الصفاة - الرمز البريدي 13008

دولة الكويت - بنيد القار - ق1 - ش 47 - قسيمة 3 - فاكس : 2512044