الاربعـاء 27 جمـادى الثانى 1428 هـ 11 يوليو 2007 العدد 10452 | الصفحة الرئيسية | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تدمير شرعية الدولة العربية
الحديثة
لا تكف جماعات الإسلام السياسي بتكويناتها المختلفة، والكتاب المتبنون للفكرة الإسلامية باعتبارها «الحل» لكل مشاكل البلاد والعباد، عن حديث «الشرعية»، سواء في تطبيقاتها المحلية أو الدولية، حتى باتوا كلهم خبراء في الدساتير والقوانين. ولا يخلوا الأمر في كل الأحوال من اعتبار الديمقراطية معيارا لهذه الحالة من القبول السياسي؛ وطالما يريد الناس الجماعات الإسلامية أو هكذا يجري الاعتقاد، فإن كل ما عدا ذلك لا بد ان يكون خارجا عن «الشرعية» وعلى الناس ليس فقط أن تسلم رقابها لهذه الجماعات، ولكنها بعد التسليم ليس عليها أن تحاسبها على النتائج. وعندما قامت حماس بانقلابها على السلطات «الشرعية» في فلسطين، فإن الحديث عن حسابها أو تقييم أدائها كان رده دائما بأن جماعة حماس قد جرى انتخابها في انتخابات حرة، وفي هذا ما يكفي ويزيد لكي تفعل المنظمة الفلسطينية ما تريد من دون محاسبة أو تقييم. ولا توجد حالة من الخرف الفكري والسياسي قدر هذا القول، فما حدث هو أن الجماعات السياسية قد عملت بدأب كبير على تدمير الدولة العربية الحديثة، وبعد تدميرها باتوا يريدون تطبيق الديمقراطية عليها لمرة واحدة لا يعدل الناس بعد ذلك منها أمرا مرة أخرى. ولمن لا يعلم فإن مفهوم «الشرعية» ينطبق على ثلاث عمليات سياسية تميز الدولة الحديثة عن الدولة القديمة أو التقليدية. فعلى غير ما يعتقد كثيرون، فإن كل الدول تاريخيا ليست سواء، فالدولة القديمة كانت تتسع وتنكمش حسب ما تستطيع جيوشها أن تهاجم أو أن تدافع. وفي العادة فإنها تضم جنسيات ومللا شتى، وسواء كنت في الامبراطورية الرومانية أو الامبراطورية العربية الإسلامية، فقد كانت «الشرعية» هي قدرة الامبراطور أو الخليفة أو الملك أو الأمير على الاحتفاظ بالمملكة أو الإمارة أو الوحدة السياسية في العموم. ومن الطبيعي في هذه الحالات أن تستند الشرعية إلى طبقة سياسية من العسكر وأسرة حاكمة وجماعة من الكهنة أو علماء الدين والعرافين الذين يدعون للإمام بالنصر ويتأكدون دوما من تبعية الرعية ومسار النجوم وتنبؤات المستقبل ما خفي منها وما ظهر. الدولة الحديثة أمر آخر تماما، وتاريخها لا يزيد على بضعة قرون، وأشهرتها فلسفة العقد الاجتماعي، والثورات الأمريكية والفرنسية، حينما برزت الدولة القومية أو الوطنية التي يتفق فيها جماعات وأفراد أولا على أن يكونوا جماعة سياسية واقتصادية واحدة؛ وثانيا أن هذه الجماعة الجديدة سوف تترابط فيما بينها من خلال نوعية جديدة للولاء ليس للملك أو لدين بعينه أو طائفة بعينها وإنما من خلال فكرة المساواة بين المواطنين؛ وثالثا أن يتوافق كل هؤلاء على نوعية من الحكم المقبول منهم لإدارة الدولة وسن قوانينها. معنى ذلك أن الدولة الحديثة تتضمن ثلاثة أنواع من الشرعية: شرعية الجماعة السياسية (التي تربط اللبنانيين والفلسطينيين والمصريين على سبيل المثال)، وشرعية الدولة (مصر ولبنان وفرنسا)، وشرعية نظام الحكم ( جمهوري وملكي وديمقراطي وشمولي). والحقيقة أن جماعات الإسلام السياسي بأشكالها المختلفة ومفكريها المتنوعين قد عملت على تدمير كل هذه الأنواع من الشرعية، ومن يلاحظ الدول التي حكموا أو تحكموا فيها سوف يجد أنهم قد دمروها تدميرا شديدا. ومن يلاحظ شؤون أفغانستان قبل غزو حلف الأطلنطي، والسودان قبل أزمة دارفور، والصومال قبل دخول القوات الإثيوبية، ولبنان وفلسطين مؤخرا، سوف يجد إلى أي حد مزقت هذه الجماعات المعتدلة والراديكالية النسيج السياسي للوحدة السياسية سواء كانت دولة أو حركة وطنية. فعندما وضعت هذه الجماعات الدين معيارا للمواطنة حينما قالت «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» فإنها نسفت من الأساس الفكرة التي تقوم عليها الجماعة السياسية التي لا يمنح فيها طرف ما تجب عليه الأحوال مع أطراف أخرى. وعندما جعلت هذه الجماعات ولاء المواطنين ليس إلى الدولة ـ التي تعني سلطة مركزية ذات سيادة على شعب موجود على رقعة جغرافية بعينها ـ وإنما إلى الأمة الإسلامية المترامية الأطراف، فإنها جعلت الدولة هامشية أو لا وجود لها أو مجرد غزوة ناجحة تنتظر بقية الغزوات والفتوحات. وعندما قالت هذه الجماعات إن «الإسلام هو الحل» وان «الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع» فإنها جعلت النظام السياسي بلا فائدة حينما غلبت الفتوى على التشريع، والثوابت على المتغيرات، والفكرة السابقة على وجود الدولة على التطبيق في ظروف وشروط وبيئة عالمية ومحلية بعينها. وربما يرد على ذلك عدد من الاستثناءات المحدودة في تركيا والمغرب وإندونيسيا من أحزاب سياسية دينية إسلامية سارت على طريق الأحزاب الديمقراطية المسيحية التي جعلت الدين مرجعية أخلاقية وضميرية تعزز من قدرة الدولة الحديثة ولا تقوضها، وتعطيها بعدا روحيا ولا تأخذ منها ارتباطها بالعالم المعاصر. فهذه الأحزاب لا تجد مشكلة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لأن قضيتها هي التقدم، ولا تجد قضية في الرأسمالية لأنها لا تعتقد في إعادة اختراع العجلة في عملية التنمية، ولا تجد صعوبة في التعامل مع الغرب لأنها لا تبدأ من تعريف للمسلم يجعله في حالة نضال مستمر مع كل الدنيا، ولا تعتبر نوعا من الاستحالة إقامة الجسور بين أفكار حرة للفرد والجماعات السياسية. ولكن للأسف فإن هذه الاستثناءات لا تزال محدودة، وهي تتعرض لضغوط متنوعة من حركات أصولية إسلامية، بل حركات أصولية علمانية كذلك، وللأسف أكثر فإنه لا يوجد الكثير منها في العالم العربي الذي تنتشر فيه جماعات وأحزاب للإسلام السياسي تجد في الدولة المعاصرة خصمها الرئيسي. وربما لا توجد دولة عربية تماثل مصر في نضوج الدولة الحديثة منذ وضع محمد علي قسماتها الأولى، وتوجتها تجربة ثورة 1919 التي صهرت الجماعة السياسية بين المصريين على اختلاف مشاربهم في الدولة المصرية التي تنظمها مجموعة من الدساتير بدأت عام 1923. ومنذ ذلك التاريخ تقريبا بدأ التحدي لهذه الدولة من خلال تجارب استعادة فكرة الخلافة الإسلامية، ومولد جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 الذين لم تكن لهم مشكلة مع الحكومات المتعاقبة ـ ملكية وجمهورية، رأسمالية واشتراكية وما بينهما ـ وإنما مع الدولة ذاتها وطبيعتها والتوافق الذي قامت عليه. وخلال هذه الفترة فإن الجماعة لم تكن لديها مشكلة كبيرة مع النظام السياسي للاستبداد، وربما اعتبرته من الأمور الطبيعية في الدولة الإسلامية التي كانت فيها «طبائع الاستبداد» غلابة طوال التاريخ، ولكن المشكلة كانت دوما مع «هوية» الدولة وعلاقتها مع العالم المعاصر. ومؤخرا فقط بدأت الجماعة في استخدام «الديمقراطية» باعتبارها سلاحا سياسيا لإحراج السلطات السياسية؛ ولكنها في نفس الوقت كانت تعمل على تقويضها من خلال شعار «الإسلام هو الحل»، والحذف العملي لكلمة «المبادئ» من المادة الثانية من الدستور التي تقول أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع». وأخطر من كل ذلك كانت السيطرة الدينية على المجتمعات والأحياء والشوارع والمباني الحكومية من خلال عملية منظمة تتذرع كلها بالدين لإعادة تكوين الأفراد وولاءاتهم، وتحدي سلطة الدولة. وحتى هذه اللحظة فإن الدولة المصرية المعاصرة لا تزال صامدة لأساب متنوعة ليس هذا مجال ذكرها، ولكن ما يهمنا هو كيف يكون مثل هذا الصمود في دول ووحدات سياسية وعربية وإسلامية أخرى ليس لديها مثل هذه الأسباب؟!
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|