محمود درويش
   في القدس العربي   
اقرأ في عدد اليوم
  عزت القمحاوي :  بعودة يا رمضان
  سليم عزوز:  عندما تصبح المسلسلات كالبطيخة!
  محمود قرني:  رفعت سلام بعد ديوانه 'حجر يطفو على الماء': لست من الذين يطالبون بالفصل بين النثر والشعر وهناك الكثير من التصورات الكاذبة يحيط بقصيدة النثر!
  د. إبراهيم أبراش:  المصالحة الفلسطينية بين شروط الرباعية وممانعة حماس
  محمد عبد الحكم دياب:  وضع مصر العشوائي جاء نتيجة تراجع وغياب دور الدولة
تصويت
هل تتوقع نجاح الحوار الفلسطيني الداخلي؟

نعم

لا


من تاريخ 2-09-2008  الى تاريخ 9-09-2008
مزيد من الأخبار
الحداثة أو الحروب الأهلية:
التوظيف الحربائي للدين من قبل الأنظمة العربية تلاعب خطير بالنار وعمليات الفرز الحالي نذير شؤم
لا يزال مصير الدولة العربية مرتبطا بأهواء ومزاج شخص واحد. والاقتصاد مرتبط ببيروقراطيات الفساد
2007/05/11


د. سعيد بوخليطہ
الحداثة في أبسط تعريفاتها، أن يكون الإنسان في ذاته من أجل العالم، بمعني نجاحه في استيعاب تلك العلاقة الأنطولوجية السريعة الانفلات بين الجسد؛ المكان؛ الزمان، وكذا الحدود ثم الصيغ المفهومية التي تأخذها، حينما يغدو الزمان انفتاحا لا نهائيا للذات علي إمكانياتها، ويتأسس المكان كتوظيف لحظي منساب، دائم التوتر.
تفترض الحداثة في مرجعياتها الوجودية الكبري: المسؤولية والحرية. أي وقوف الذات داخل العالم بشكل صميمي مسؤولة علي مشروعها الاحتمالي، مما يحتم توافر شرط الحرية، ذلك التماس الذي يشعرها بوجود هذا الهنا، والذي دأب الفلاسفة علي وسمه بالآخر أو الأشياء، لكن كتحديد اصطلاحي، في حين أن الأشياء توظيف سديمي، يرتهن بطبيعة ودرجة حضور الذات في قلب العالم.
في مرحلة ما من التاريخ الوجودي للذات، فإن الآخر/ المماثل قد يكون شيئا مما يفترض معه، الفهم العمودي للزمان بيني وبينك. أو يحدث العكس، حينما تفقد الذات مقوم الحرية وتتحول إلي إمكانية تجريبية في سياق أشياء الآخر.
ذلك إذن، التفكيك الفلسفي لقيمة معرفية وفكرية وصل إليها الدماغ البشري في بحثه الدائم عن كيفية فهمه لعلاقة الجسد بالمكان والزمان. وبتوظيفنا لنفس الأرضية الأفقية التقليدية، تبرز الصيغة الشكلية التالية : الجسد حاجة للعالم، العالم افتقاد مستمر للزمكان.
تعني الحداثة في اشتقاقها اللغوي، الآنية والفورية أو المباشرة. سياق دائم التزامن يمارس تدفقه بقدر بحث الذات اللانهائي علي بلورة مشروعها الوجودي الذي لا يقيم مصيره أو قيمته بالموت البيولوجي ولكن أساسا بالولادات/التأسيس.
يحيل الزمان باستمرار علي الما ـ بعدي، بل ليس له ذلك. سواء الماضي أو الحاضر، هما مجرد تحويرات تحديدية لزمان الذات الذي هو المستقبل. بهذا الفهم، تجسد الحداثة أكثر التعابير السياقية التقاطا لمعني أن تكون الذات في العالم وللعالم.
بعد هذه الإشارة التحديدية، أريد الانتقال للحديث عن تجربة المجموعة الإنسانية العربية في تدبير شأنها المجتمعي وفقا لهذا الضياع السيزيفي في فهم كيفيات القبض علي العالم. والغريب، أن الإشكالات والأسئلة التي تطرح اليوم في الساحة الثقافية الفكرية العربية، ترتد يوما بعد يوم بنكوص مرضي طفولي معبرة في كل حيثياتها عن تقهقر تاريخي مرعب يشمل الكيان العربي.
سأضرب بعض الأمثلة السريعة، حتي وإن غدت متهافتة متباعدة وغير مترابطة لكنها معبرة جدا، وإجرائية جدا بخصوص النتائج التي أتوخي الوقوف عليها :
ـ انتقل الفكر العربي من لحظة أسئلة تعبر عن وجود قضية وجودية كبري. ذات منحي كوني في القرن 19 : من نحن؟ لماذا تقدم الآخر الأوروبي؟ كيف نعمل علي تحديث بنياتنا الفكرية والمجتمعية؟ الاجتهاد في قراءة التراث؟ ... ، إلي صيغة من التفكير تجيز تبريرا هوياتيا ـ نسبة إلي الهوية ـ قاتما وبالتالي مترهلا. تكفي الإشارة في هذا الإطار، إلي الصعود المتواصل علي المسرح الفكري للتيارات الدينية المتزمتة التي لا تريد أن تدرك بأن الأنا حصيلة تاريخية يتداخل وينصهر فيها كل شيء وليست معطي مجردا.
معطيان إذن بارزان فكريا ووقائعيا عن تبلورات المسار المعرفي الوجودي العربي. فإذا كان النموذج الأوروبي، يشتغل وفق منحني جدلي دائم التوتر المبدع والخلاق بين النظرية والواقع والممكن أي الجسد والزمكان، فإن الأمر عندنا في العالم العربي ، لا يخضع لضابط بل تحكمه الهلامية والسديمية.
بالتأكيد هناك خلل !!. وبلا شك أيضا، أشبع مجموعة من المثقفين المتنورين دراسة وتحليلا هذا العماء التاريخي، الذي يميزنا عن غيرنا. حيث توزعت الآراء واختلفت بين السياسي، الثقافي، الاقتصادي، الاجتماعي، السيكولوجي الإكلينيكي، التاريخي، الديني والجغرافي ... إلخ. لكن مهما تراكمت الكتابات وشكلت جبالا من الأفكار والتصورات، فإن النظرية تتكلم إلي أن تصاب بالإغماء، في حين يستمر الواقع قابعا بين براثن سورياليته، وهكذا دواليك وكأن الأمر لا يعنيه. بقدر ما تحتد الدعوات إلي آخر نفس، لكي تتشبع مجتمعاتنا بالديموقراطية، والتدبير العقلاني المنفتح لشؤوننا الاجتماعية، فالعلم والحرية ... ينغمس المجتمع العربي في مزيد من الدوغمائية التوتاليتارية والظلامية والجهل والتعصب والطائفية ... . كلما سعي العالم المعاصر، إلي التخلص والانفلات من ثالوث الموت : الظلم، الجهل والجوع، نلاحظ أن العرب يلهثون في كل آن قصد مراكمة أسباب ومثيرات ذلك.
الحداثة إذن أو الحروب الأهلية الطائفية؟ ! قد يبدو الأمر مخيفا ومرعبا يرتعد له الحجر. لكن كل الوقائع تصب في هذا الاتجاه، وجميع المؤشرات ترسم ملامح السيناريو المقبل.
صحيح أن الوازع الطائفي، ظل مستترا ومضمرا بعد الاستقلالات الصورية، مع وجود الأنظمة الشمولية. وبالتالي، ما ان تعمل الطبيعة أو الموت البيولوجي علي التخلص من عناصر هذه الأنظمة واحدا واحدا، حتي يبرز إلي السطح ذلك.
من البداهة وتحصيل الحاصل، التأكيد علي أن العلاج الحضاري الحقيقي للطائفية، ليس القمع أو التزييف السياسي، ولكن تثبيت أسس حقيقية لمجتمع منفتح وعادل، يستمد روافد تدبيره السياسي والاجتماعي من عنصري : العقلانية والحرية.

مجتمعات من الماء الي الماء

لا زالت المجتمعات العربية، من الماء إلي الماء كما يقال، غير قادرة بتاتا علي استنبات الأسس المعرفية والوجودية لمشروع الحداثة. وما يردده الإعلام الرسمي، في السنوات الأخيرة عن تطلع إلي الحداثة، لا يخرج عن خطاب ظرفي وآليات دفاع مجانية هشة لمواجهة الحركات الدينية القتالية، التي لم تكن في حقيقة الأمر إلا إفرازا طبيعيا وابنا شرعيا للاختيارات السياسية الثقافية والاقتصادية التي نهجتها الأنظمة السياسية القمعية بعد خروج المستعمر الأوروبي .
لا تقوم الحداثة بالخطب المناسباتية، أو المواقف الانتقائية المرتجلة، ولا بتسويق آخر السلع الأوروـ أمريكية، وامتطاء السيارات الرياضية، وإظهار معرفة باللغات الأجنبية، وارتداء قمصان الجينز الممزقة ... . كل ذلك مجرد كليشيهات فارغة وتنميقات زائفة... إذا لم تكن الأرضية الفكرية للمجتمع السياسي والثقافي، قائمة بمتانة علي الانفتاح، والتعدد، والديموقراطية، والعلم، والحرية.
الحداثة موقف شمولي، ورؤية متكاملة للعالم تمتد من التسيير الانتخابي النزيه لدواليب الحكم، إلي علاقة الكائن بجسده...، لا يمكن أن تفصل الشرطين. حينما قرر الأوروبيون ركوب التاريخ فعلا، والقبض علي مصائرهم، فعلوا ذلك بجرأة، حيث وضعوا روسو إلي جانب ماركس ولوثر وسبينوزا وديكارت وهيدغر... .
استمر السياسي في حوار تفاعلي مع الفيلسوف، والاقتصادي ينصت للمؤرخ. للكنيسة مجالها وأهلها، في حين يطمئن المجتمع بأكمله لوجود ضمير حي وإله اجتماعي اسمه القانون.
الحداثة اختيار تاريخي، إما تؤخذ في منظومتها المتكاملة وسياقاتها الكلية، أو نتركها لأهلها دون بتر، لأن في ذلك تشويها لقيم وأفكار كبري، لم تكتسب بالسهولة، وإنما ظل أصحابها وحملتها يفكرون ، يبدعون ويناضلون بتضحيات لا يمكن تصورها حتي في الخيال.

عن الاصلاح

تظل الصيحة قائمة إلي أن العالم العربي في حاجة مستمرة ودائمة لإصلاحات جذرية، تقطع مع القائم بخصوص السياسة، الدين، الاقتصاد والثقافة....

1 - السياسة / الدولة العربية

إذا صرح فقهاء القانون الدستوري بافتقاد الدولة العربية، لمقومات وشروط الدولة الوطنية الحديثة، فأعتقد بأن الأمر فيه كثير من الصدق وليس مجرد تحامل مجاني، نظرا لمجموعة من التمظهرات أهمها:
ـ غياب كلي علي مستوي الممارسة الحقيقية والفعلية، للمؤسسات والسلط التي تسير الدولة، بالمفهوم القانوني الحديث للتصور. وما يوجد عندنا لا يخرج عن التزيين المخادع الذي لا ينطلي حتي علي العقول الساذجة. لأن العالم بأكمله، يشهد بأن السلطة السياسية في العالم العربي باختلاف اللون السياسي : ملكية جمهورية، إمارة... . تتمركز كليا حسب اللعبة في يد شخص واحد، أو فئة، أو عائلة.
ـ نفتقد لأبسط ألفبائيات التفكير الديمقراطي، المستند علي ممارسة انتخابية جادة، وفق آليتي العقلانية والشفافية، إنه المبدأ، الذي يجب أن يمتثل له الجميع من رئيس الدولة إلي مراقب الأسعار...، حيث لا زال العرب يفرضون أمر الحكم بناء علي رمزيات تتوزع بين : القبيلة، الطائفة، السلالة، المشيخة، الوراثة، النسب، العرق، التاريخ ...، المقدس.... لقد أثبتت كل أشكال التفكير بسواسية البشر في العقل والغرائز، أفضلهم خيرهم للناس جميعا.
ـ لا يزال مصير الدولة العربية، مرتبطاً بأهواء ومزاج شخص واحد. بل الأكثر من ذلك، فإن الكثير من نظم الحكم تردد شعار: أن استمرار بقاء وسلامة كيان الدولة ملتصق أساسا بوجودهم علي سدة الحكم، وإلا فالفتنة والفوضي في حالة زوالهم. لذا علي المواطن الإيمان مطلقا ببقائهم والانصياع الانقيادي لسلطاتهم. تتحول معادلات، من قبيل الزعيم/ الدولة، والزعيم/المصير، أناشيد للوطنية والحماسة القومية يتلوها الأطفال في المدارس والعسكر في ثكناتهم. الفتنة حتمية تاريخية حقا، في وضع سياسي معين، ليس لأن الزعيم أذكي الناس أو يستبطن عقلا كونيا، ولكن لأن القمع يولد بالتأكيد الدهماء، والذوات المريضة. أليس كذلك؟ !
ـ يفتقد الحقل السياسي العربي، كما يحدث في الدول المتقدمة، لتلك التجارب التناوبية الحقيقية عن الحكم مما يعطي فعالية جوهرية، وفتوة دائمة للحياة السياسية، نتيجة تصارع المشاريع والمخططات. كما أنه لا مجال للخطأ، لأن صناديق الاقتراع في انتظارك.
ـ يصعب اليوم في العالم العربي، الحديث عن تقاليد جسم معارض بتقاليده وهياكله ومؤسساته وتراثه وأشخاصه. فقد وصل الفعل السياسي إلي درجة من الميوعة السياسية، يستحيل معها وضع فواصل أو حدود. لكن رغم ذلك، من الضروري التمييز بين تلك المعارضة الوطنية الجذرية في شقيها الماركسي والقومي المرتبطة تاريخيا بحركات التحرر الوطني والعالمي. لكنها الآن، في المجمل غذت جسما للذكريات والوثائق والدراسات والمذكرات، نتيجة القمع الشرس الهمجي الذي سلط عليها، من قبل الرجعيات العربية.
ومن جهة ثانية، معارضة تم تسليمها السلطة بعد أن وضعت لها خطوط حمراء مع تقليم أظافرها وتفريغ حمولتها. أشير هنا إلي ما عرف بالتناوب التعاقدي في المغرب منذ أواخر التسعينات، وتسليم الاشتراكيين الديموقراطيين الحكم . والغريب في الأمر، أن سلوك هذه المعارضة لم يقف عند حدود تلك الإشارات الحمراء والوصايا التي أعطيت لها من قبل السلطة القائمة بل أضافت واجتهدت من نفسها في أخلاق الامتثال والطاعة بشكل ربما فاجأ حتي النظام السياسي نفسه. وتحولت إلي قوة تبريرية تعضيدية للقائم، أكثر منها آلية سياسية لتفعيل وتشغيل دواليب الحداثة السياسية. كما كانت تدعو في برامجها الإيديولوجية والتنظيرية قبل ولوجها مؤسسات الدولة. أدي هذا الوضع إلي تجمد الحياة السياسية، أفسح معه المجال لبروز التيارات الدينية العدمية نظرا للفراغ السياسي الكبير، الذي أحدثه غياب خطاب معارض حقيقي بإمكانه التعبير عن الطموحات المجتمعية. لا شك أن مثل هذا النموذج من التطور السياسي، يشكل إحدي مفارقات الدولة العربية وهو تحول المعارضة بدورها إلي قوة سلبية ما ان تصل إلي السلطة. مما يدفعنا إلي التأكيد، بأننا لا زلنا بعيدين كل البعد عن المفهوم الحضاري لتداول السلطة كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية.

2 ـ الدين/الدولة العربية

لا يمكننا حسم الاختيار التاريخي لمجتمع الحداثة والمعرفة دون التفكير في حل الإشكال الديني، مما يعيد طرح أسئلة، كان علي العرب معالجتها والحسم فيها منذ قرون : ما الدين؟ لماذا الدين؟ أي حدود للدين؟ ما جدوي الدين؟ ... . من البديهي، أنه لو ازدهرت عندنا العلوم الإنسانية من أنثروبولوجيا وأثنوغرافيا وسوسيولوجيا وعلوم نفسية ...، تخصصات وأخري غيبتها الأنظمة الشمولية من جل الجامعات العربية خشية علي مصالحها السياسية. قلت لو كان الأمر كذلك، لوجدنا إجابات من خلال أنثروبولوجيا وكذا سيكوـ سوسيولوجيا الدين عن كثير من المعوقات الفكرية والإيديولوجية التي تكبح التقدم العربي.
بخصوص وضع الدين اليوم في الوطن العربي، يمكن أن نميز فيه المواقف التالية:
(1) تقوم جل الأنظمة الحاكمة بتوظيف الدين : إعلاميا (التلفزيون، الراديو، الجرائد ...)، مؤسساتيا (وزارات للشؤون الإسلامية) طقوسيا (تأدية صلوات الجمعة والأعياد، بحضور الكاميرا). من أجل دغدغة مشاعر الأغلبية الجماهيرية واستقطابهم ثم توظيفهم عند الحاجة. أقرب مثل في هذا السياق، التظاهرات الاحتجاجية علي الرسوم المسيئة للنبي محمد، حيث غلب عليها الطابع الفولكلوري المسرحي، أكثر مما كانت ردود فعل هادئة متزنة وعقلانية، خاضعة لشروط المناظرة والتناظر وفق الأسلوب الذي كرسه التراث الفكري الإسلامي مع الفلاسفة وعلماء الكلام. الدين فكر الجماهير العربية، واللغة التي تستوعبها بسهولة. يشكل ورقة رابحة وسهلة من أجل استمالة وتعبئة القلوب والمشاعر قبل العقول.
(2) توظيف الدين، كخطاب تعبوي عند بعض الحركات السياسية المسماة دينية، لتحقيق أهداف سياسية والانقضاض علي السلطة. وقد تحول هذا التيار إلي موضة وخطاب جاهز في السنوات العشرين الأخيرة، مع تراجع الحركات التقدمية التحديثية بسقوط المعسكر الشرقي، وخضوع نموذج التفكير الإنساني إلي منطق العولمة الكلياني. بالتالي، كانت ردود الفعل المفهومية والسلوكية عند مختلف القوميات، ارتكاسية معبرة عن هذا الخوف الدفاعي حيال هيمنة العولمة.
(3) تجليات الدين الشعبي، باعتباره القيمة الفكرية الوحيدة التي يعرفها الجميع ويتكلمها الكل. إنه الخطاب الذي يتداوله العربي كإجابة عن أسئلة العالم والمصير...، في كل المؤسسات والفضاءات الاجتماعية من الولادة إلي الوفاة. ويأخذ ذلك، صيغة عزاء تعويضية مع الانتكاسات التاريخية المتوالية للإنسان العربي وإحباطاته اللانهائية بخصوص طموحاته السياسية والاقتصادية والثقافية. فالإنسان لا يمكنه أن يحيا دون وعاء وسند إيديولوجيين، تلك بداهة لا يختلف بشأنها أحد.
تظل إذن المسألة الدينية في العالم العربي، ضحية الديماغوجي الانتهازي من قبل السياسيين لتحقيق مآربهم في الحكم. أو سجينة التمثل الدوغماطيقي لها من جانب الأفراد والمجموعات. ولم تخضع بالتالي لقانون التطور الفكري والإيديولوجي، استنادا علي تفاعلها الجدلي مع البنية المجتمعية ثم السبر الإبستمولوجي المتواصل لها.
يتعارض مطلقا قيام مجتمع حداثي منفتح، مع التصور الذي يعطي للشرط الديني في التجربة الفكرية الحالية. بتحويله من شأن ذاتي وتجربة شخصية إلي منهج مجتمعي كليا، وهو ما يتعارض مع جوهر وماهية الدين. فالمسألة الدينية، قضية فردية بامتياز أولا وأخيرا تحددها أوليات بسيطة جدا، شفافة في غير حاجة إلي تأويل نظري معقد. يمكن اختزالها في المعادلة التالية: الدين اختيار فردي، من حيث المبدأ والموقف، مساحة من التفكير والتأمل تنسجها الذات الإنسانية حيال حضور مطلق ومكتمل للذات الإلهية. لك أن تؤمن أو تفكر، ذلك شأنك. لا يهمني الأمر في شيء. أنت حر في جسدك وأفكارك، مسؤول عن اختياراتك. لا وصاية ولا حجر في الدين. ليس لأي أحد السلطة في أن يخول لنفسه،تحديد مصير طرق وسبل الإيمان أو الكفر.
ذلك ما نتوخاه في المجتمع المنفتح، إنه قدرنا الوحيد لتجنب الثغرات الطائفية والحروب الأهلية التي تنتظر جل المجتمعات العربية مع استمرار نفس المنظومات السياسية والفكرية، وازدياد نمو الحركات العدمية سواء اتخذت صبغة دينية أو طائفية، التي تظن في نفسها حقيقية الذوات والأشياء. إنهم مستعدون لقتل الناس جميعا إذا لم يمتثلوا لتصوراتهم !!!.
التوظيف الحربائي للدين من قبل الأنظمة العربية، تلاعب خطير بالنار. كما أن تأجيج حركات سياسية انتهازية للنزوع والمشاعر الدينية، هو بالتأكيد وقود يقتضي أدني شرارة لكي تحرق الأخضر واليابس. ولعل ما وصل إليه اليوم الأفق السياسي العربي، بتفجيره لإيديولوجية تستند علي خلفيات طائفية : سنة، شيعة، مسيحيين...، ما هو إلا تبلور واضح لما نحن بصدده. والمخيف أن المسألة لا تزداد إلا احتداما كل يوم. حيث انحرف الصراع عن دائرته الحقيقية والطبيعية أي : القوي التقدمية العربية ضد جحيم الرجعيات المحلية في كل تمظهرتها السياسية الاقتصادية ومن خلالها الإمبريالية الأمريكية الصهيونية والقوي التي تدور في فلكهما.
علي النظم السياسية العربية، أن تعلم علم اليقين أن السبيل الوحيد للحفاظ علي ما يكون قد تبقي لنا من هذه الصيرورة العدمية التي آلت إليها مجتمعاتنا، هو أن تعض بالأسنان والنواجد علي أي طيف قد يضع هذه الكائنات العربية التي تحولت إلي جحافل من الفقراء والأميين، والزاخرين مصائب ونكبات في سكة الحياة مرة واحدة وإلي الأبد. مسألة لا تتأتي، بغير إقامة أسس مجتمع الحداثة الذي هو بالضرورة مجتمع مدني لا يؤمن إلا بالمؤسسات والقيم المعرفية المتطورة.
في نفس السياق نقول للحركات الدينية بأنهم واهمون !!! إذا اعتقدوا، ولو للحظة بإمكانية قيام دولة إيمانية ربانية بالشكل الذي تتصورها أدبياتهم بين ثنايا المجتمع التاريخي. ليس لأن أمريكا وإسرائيل توجدان في العالم كما يبررون. ولكن لأن الأمر يتعلق بذوات بشرية، خاضعة لمنطق الزمان الذاتي متأرجحة بين: العقل، الجسد، الحاجة، الغريزة، المفهوم، الانفعال، الإحساس، التعالي، الانحدار، الطموح، الانهيار، الانفتاح، الانطواء، الصدق، الكذب، اليقين، الارتياب، الظاهر، الباطن ... . فالذات الإنسانية، لا يمكن موضعتها في إطار متماثل بشكل مطلق. بمعني بسيط أكثر، من المستحيل أن تضمن سلوكات البشر. وأكبر دليل علي ذلك، تبلور الاختلافات الإيديولوجية والصراعات السياسية علي السلطة في التاريخ العربي مباشرة بعد انقضاء الفترة النبوية. حيث ما يزال تأثير ذلك يمتد إلي مجريات ما يحدث راهنا.
يفترض الحسم السياسي، توظيف كل أنواع التعبئة والاستقطاب يشكل الدين أكثرها أهمية، لأنه اللغة الأكثر استيعابا من قبل الجميع. كيف يمكن إذن لمشروع الحداثة، وضع آليات لتحديد كل التباس بخصوص هذه القضية :
ہ ضرورة تبلور ثورة ثقافية فكرية تشمل كل المؤسسات المجتمعية، تستند علي أرضية صلبة تتقاسمها : الفلسفة والعلوم الإنسانية. وذلك لخلق ذوات عربية قادرة عقلا وجسدا علي تمثل المجتمع الجديد بإشكالاته الحقيقية.
ہ فصل المجتمع المدني بمؤسساته وهياكله الذاتية عن كل توظيف عسكري أو لاهوتي أو مشايخي أو أسروي أو سلالي ... . يجب فقط الاحتكام لثوابت الإنسانية الكبري : العدالة، العقل، الحرية، المساواة.
ہ الدفاع الحقيقي والعميق عن فكرة المواطنة وقداسة المجتمع بأهدافه النبيلة، وهو الأمر الذي يقاس بشيئين اثنين : الكفاءة والقانون. قيمة الفرد ووضعه الاعتباري والرمزي، مرتبطان أساسا بمردوديته وإبداعيته المجتمعية. كما أن القانون يشكل ضمير المجتمع وسيد الكل في سبيل ردع حقيقي لكل من حاول التأثير عكسيا علي الصيرورة المستمرة للمجتمع في سبيل بناء ذاته.
تؤمن الحداثة إلي أقصي ما يمكن للكلمة من تجليات بالفرد، وتجعله في قلب اجتهاداتها السياسية والفكرية. كما تتوخي في نفس الآن، تحقيق رخاء وإشباع اقتصاديين لكي يحس الإنسان بما يسمي عند الاجتماعيين بالكرامة La dignitژ، وهو الشعور الذي يحرره فكريا ويعطيه حرية مطلقة في تحديد اختياراته بخصوص علاقته بذاته وبالمجتمع ككل.
علي النقيض من ذلك، فإن كل خضوع استعبادي أمام منظومة مجتــمعية وقيمية يؤدي إلي ترهل الذات.

3 ـ الاقتصاد/ الدولة العربية

هناك بالتأكيد علاقة واضحة بذاتها وأكثر من بداهة، ألا وهي الجزم بالتماثل والتماهي المتداخل بين السياسة والاقتصاد. كلما كانت للمؤسسة السياسية غاية تدبيرية سليمة بالنسبة لمجموعة بشرية ما، مثل الاقتصاد باستمرار ذلك الاختبار الحقيقي والموضوعي لمخططات ونظريات الإيديولوجيين.
المقياس الحقيقي للتقدم في النموذج الأوروبي، وكحدود فاصلة بينه وبين التكتلات المختلفة. يتكلم قبلا لغة الاقتصاد، ثم يتم التفكير إيجابا أو سلبا في السياسة، لكن مع تمثله لصيغة العلاقة جدليا وفق خط تموجي ondulatoire دائم الاهتزاز والتوتر. وليس ذلك، الجدل الكلاسيكي الذي ينهض علي متوازيات مستمرة.
قلت، إن ما يشير علي حياة مجموعة إنسانية ما : ابتداء من دخلها القومي والفردي، نسبة نمو وتيرة اقتصادها ثم قيمة عملتها ودرجة تداولها الشيء الذي يعكس قوة اقتصادها ...، وصولا إلي السعرات الحرارية التي تختزنها أجساد أفراد هذه المجموعة كدليل عن درجة الإشباع والرخاء الاقتصاديين.
لا يمكن إذن فصل القوة الاقتصادية عن السياسية، إلا في حالات نادرة كما هو الحال مثلا مع اليابان نظرا لظروف تاريخية استثنائية وبشكل أقل جدا ألمانيا. أما القاعدة العامة فهي ارتباط الإشعاعين السياسي والاقتصادي.
بالنسبة للواقع العربي، نلاحظ ما يلي :
ـ اقتصاديات هشة وضعيفة، مع غياب كلي لاستراتيجيات ومشاريع صناعية وتقنية كبيرة. لا زال خبراؤنا، يتحدثون بالكاد عن صناعات غذائية خفيفة تحويلية لمنتوجات فلاحية أو حيوانية موجهة للتصدير. حيث لم نصل بعد حتي لما عرف عند الأوروبيين بمرحلة الصناعة الثقيلة التي تعتمد أساسا علي الحديد والفولاذ، بعد أن رسمت الملامح الأولي لثورتها الصناعية في القرنين 17 و 18، في حين تشتغل اليوم علي التأسيس العلمي والسوسيولوجي لأسس تقنية ما بعد الصناعة الإليكترونية.
ـ غالبا ما نجد أن النظم الحاكمة وأسرها وكذا حاشيتها، هم المتحكمون في دواليب التسيير الاقتصادي. وبما أن ما يهم هؤلاء هو تكديس الثروات وضخ الجيوب بالأموال الطائلة، فإنها غالبا ما توظف أموالها في القطاعات الريعية ذات المردودية السريعة والفورية مثل المؤسسات الخدماتية والاستهلاكية والتجهيز والبناء والقطاعات البنكية، والتي تمثل تمظهرات مشتركة لكل الاقتصاديات العربية، بينما تغيب تلك الاستثمارات الوطنية في القطاعات الاجتماعية الأساسية التي تخلق ثورة فكرية تحديثية علي مستوي البنيات الاقتصادية والمجتمعية، قد نشير فقط إلي المؤسسات الصناعية العلمية والصناعية والصحية والخيرية والرياضية والعسكرية... .
ـ غياب معالم سياسات اقتصادية مجتمعية حقيقية، قائمة علي خطط وبرامج ونظريات وإحصاءات وبيانات وجداول وأهداف وغايات. الاقتصاديات العربية قدرية ميتافيزيقية، تعيش اللحظة باللحظة، ومرتبط مصيرها بتقلبات الأمزجة والأسواق الدولية وأحوال الطقس. أما الكوارث الطبيعية، فلا تدخل في التقدير. وبالتالي، لا شيء يمكن ضمانه لهذه الجحافل من الأفواه التي يزداد عددها دون أن نصنع لها أي شيء يتعلق بشروط الحياة. أقصي، ما تفكر فيه النظم الحاكمة إلي جانب الديمومة الأبدية لسلطتها، نهب خيرات أوطاننا وتحويل عائداتها بأسماء مستعارة لحسابات مالية مرموز في بنوك أوروبا وأمريكا.
ـ أثبتت الاقتصاديات الأوروبية القوية، نجاعة الاختيار الليبرالي للعقلانية المنفتحة القائمة علي المنافسة والمبادرة الفردية، مع اجتهادات مستمرة علي مستوي التشريع والتقنين للسوق في إطار تدخلات الدولة قصد التوجيه والإرشاد ثم برمجة مخططات تتراوح زمانيا وتختلف مكانيا، من خلال الاستقلال والتسيير الذاتيين للجهات والأقاليم. أما في المدينة العربية، فلا نتحدث إلا علي بيروقراطيات فاسدة، تكدس السلط والأموال في أيدي أشخاص وأولغاريات. ومع انتفاء سلط قضائية مستقلة، ذات نفوذ معنوي ورمزي علي القرار السياسي، تنمو بشكل كبير اقتصاديات تبييض الأموال ، الرشاوي، السمسرة، العمولات، الإتاوات، التراخيص، الامتيازات ...، قطاعات ومجالات لا تنتج غير طبقة رأسمالية هجينة، فاحشة الغني واللاإنسانية تفتقد لأي حس وطني وأخلاقي. ثم تتحول شيئا فشيئا إلي لوبيات ضاغطة، تفقر الاقتصاد وتتسيب معها السياسة يعيش من خلالها المواطن العربي في أجمل الحالات علي أحلام الجرذان.
لقد نجح هؤلاء، في تفريغ هذا المواطن واستنزافه داخليا وتشديد الخناق الاقتصادي عليه، ومن ثم تنميط وتعليب وعيه بأن تخلق عنده احتياجات ومبررات وهمية وزائفة، بل والتحكم في تحديد طبيعة ونموذج شخصيته في أفق إنتاج عينات ذاتية مؤهلة لعكس برامجهم السياسية. لذلك قد نلاحظ بسهولة، أن الذات العربية تتميز آنيا بخصائص سيكولوجية ومجتمعية مثل: الارتدادات النكوصية بمقياس 180 درجة، الارتباك، الانهيار، السأم، العجز، الخوف، الانقياد، النمطية، السطحية، الاستهلاكية المجانية، القهر النفسي، الانهزامية... . مواصفات وأخري علي بنيتها تخلق بأوليات سياسية لا تاريخية، ومعطيات اقتصادية ملوثة مادة آدمية جاهزة لأسوأ الاحتمالات... . فالحداثة إذن أو الانهيارات القاتلة!!

ہ باحث مغربي
QP17

هل ترغب في التعليق على الموضوع؟

"القدس العربي" ترحب بتعليقات القراء، وترجو من المشاركين التحلي بالموضوعية وتجنب الاساءات الشخصية والطائفية، ولن يتم نشر اي رد يحتوي شتائم. كما ترجو الصحيفة من المعلقين ادخال الاسم الاول واسم العائلة واسم الدولة وتجنب الاسماء المستعارة. ويفضل ان تكون التعليقات مختصرة بحيث لا تزيد عن 200 كلمة.

الأسم:
بريدك الألكتروني:
الموضوع:
التعليق:
in
 
مدخل
أرشيف
مواقع اخرى
الاتصال بنا
مذكرات و كتب

Website Statistics