اقرأ في عدد اليوم
  عزت القمحاوي :  مراكب الشويري

  سليم عزوز:  حقيقة تدخل الأمن المصري في شؤون 'الحرة'!

  محمد أديب السلاوي:  ذاكرة فنية تضم الوان الطبيعة والزرابي والحليّ والوشم والنقوش: محمد الرايس الفني يخلد طنجة بتجريدية غنائية

  معن بشور:  ساركوزي يتلو 'وثيقة استقلال' أوروبا!

  رأي القدس:  سورية والتقديرات الاسرائيلية المضطربة

  محمد عبد الحكم دياب:  الأزمة المالية العالمية تبث الذعر بين النخبة المصرية الحاكمة

  :  دعوات للبوليزاريو لتقديم اقتراح جديد لنزاع الصحراء الغربية

مزيد من الأخبار
أركيولوجيا ثقافية ومعرفية في المشهد السياسي المعاصر وحوار مع مكوناته ومع الذات أولاً
الندوة الدولية لحوار الحضارات في عاصمة الرشيد غ1 ـ2ف
2006/04/17


الرقة ـ القدس العربي ـ من أنور بدر: تقع مدينة الرقة شمال شرق سورية، وفي عمق البادية التي اخترقها نهر الفرات العظيم ليمنحها زناراً من الخضرة والرِقَة معاً وكانت ربما لهذا السبب العاصمة الصيفية لهارون الرشيد، لم تستقل الرقة إدارياً كمحافظة إلا زمن الوحدة، لتأتي لاحقاً مشاريع بناء سد الفرات واستصلاح الأراضي، بالتزامن مع الاكتشافات النفطية، فتحولت إلي عاصمة اقتصادية، وإن لم تأخذ تلك المدينة حقها من هذا التحول الكبير، ولم تستفد من ريعيته أيضاً.
في هذه المدينة بدأ منذ عام تقريباً تحول أكبر باتجاه الفعل الثقافي، مع أننا ندرك تماماً أن النشاط الثقافي لا يمكن أن يكون ربحياً، إلا أن نتائجه علي المدي البعيد سوف تنعكس استثماراً بشرياً في وعي وفاعلية الأجيال القادمة، وفي دينامية علاقاتها، مع التأكيد علي أن هذا التحول لم يأت بقرار مركزي أو إداري، بل هو نشاط خاص بمديرية الثقافة، يتكيء علي دعم وتجاوب كل الفعاليات المدنية والاجتماعية في هذه المحافظة، بدءاً من المحافظ أحمد شحادة خليل وانتهاءً بالمثقفين، مروراً بكل التشكيلات الاجتماعية والعشائرية التي تتباري في تقديم الوجه الايجابي لها، وجه دعم المشروع الثقافي، ودعم التحولات الايجابية في هذه المنطقة.
ربما تكون الندوة الدولية لحوار الحضارات التي أقيمت ما بين 25 و30 آذار/مارس المنصرم في عاصمة الرشيد، تتويجاً لهذا التحول، بقيمتها المعرفية، وأهميتها في سياق السجال السياسي والثقافي الراهن، مع أنها لم تلق الاهتمام الإعلامي المناسب بالقياس إلي ما يُكتب أو يُنشر ويبث يومياً عن تظاهرة حلب عاصمة الثقافة الإسلامية .
هذه المقارنة لا تنطلق من فراغ، لأن هاتين الفعاليتين تزامنتا في لحظة الانطلاق تقريباً، وإن استمرت حلب في احتفالاتها عاماً كاملاً. إلا أن النشاطين ينطلقان من ذات البواعث، ويصبوان إلي ذات الأهداف، إذ يشكلان تحركاً لملاقات المتغيرات في السياسة الدولية ما بعد أحداث أيلول/ سبتمبر، والتي وضعت المنطقة العربية والإسلام معاً في خانة الإرهاب، وما تبع ذلك من تداعيات علي مختلف الصُعد السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتعبيرات كل ذلك أيديولوجياً وثقافياً.
إلا أن هذين النشاطين يتباينان في الرعاية والتمويل وفي الطابع العام لكل منهما. فعلي حين انطلقت حلب عاصمة الثقافة الإسلامية بقرار من منظمة المؤتمر الإسلامي، ورعاية المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم، ونظيرتها العربية، مع تمويل محلي شاركت فيه الحكومة السورية بقيمة 100 مليون ليرة سورية، ومثلها من محافظة حلب، إضافة إلي 70 مليونا من وزارة الأوقاف و10 ملايين ليرة رُصدت من وزارة السياحة لحفل الافتتاح فقط.
بينما لم تتمتع ندوة الرقة بأي دعم مركزي باستثناء رعاية المحافظ أحمد شحادة خليل المشكورة، واحتضان أهلي ومدني كبير لهذه الندوة وضيوفها.
بالمقابل نجد أن فعاليات حلب عاصمة الثقافة الإسلامية ركزت علي الجانب الاحتفالي، مع ثماني ندوات دولية تتوزع علي مدار عام 2006، إلا أنها لم ترق لمستوي ندوة الرقة، إضافة لبعض المحاضرات والمعارض وطباعة عدد من الكتب، وفي مجمل النظرة لهذه النشاطات نجد أنها تنطلق من رؤية ماضوية لمدينة حلب، كتراث عمراني ورصيد ثقافي وفني، قائم علي التسامح الديني والاعتراف بالآخر ضمن إطار الحضارة الإنسانية الشاملة، بينما ندوة الحضارات امتازت في محاولة التأسيس لإعادة طرح علامات استفهام اللحظة، وتأسيس منطق الحوار حولها باتجاه فهم مستقبلي، وإن تباينت وجهات النظر حول هذا الموضوع وزواياه.
الندوة الدولية لحوار الحضارات أقيمت علي ست جلسات مسائية وبمشاركة 21 باحثاً ومحاضراً جاؤوا من ثقافات وانتماءات متباينة، من فرنسا وتركيا ومن العراق وتونس ومصر وفلسطين إضافة لسورية، توزعوا علي محاور ومواضيع، لكنها في كل الحالات حاولت أن تؤكد علي ثقافة الحوار، الحوار مع الآخر والحوار مع الذات، كما قال الأستاذ حمود الموسي مدير ثقافة الرقة في تقديمه لهذه الندوة الدولية، مؤكداً علي أهمية الحوار في فتح سبيل جديد أمام خبرة إنسانية تغني الجدل وتثري العقل وتطرح آفاقاً ملحة أمام شعوبنا لتعيد صياغة نظمها السياسية والاقتصادية وبناها الثقافية، كي ترقي بإنسانها إلي مستوي المواطن الذي يستطيع أن يقول كلمته كخطوة أولي لتأسيس خطاب جديد. كثير من الملاحظات خلصت إلي هذه النتيجة مع أنها تباينت معها في التبريرات والمنطلقات، فالدكتور بسام بليبل من سورية طالب بالحوار الداخلي عربيا ـ عربياً أو محلياً في كل دولة علي حدة، لتحويل الرعايا عبر الممارسة الديمقراطية والحوار إلي مواطنين قادرين علي الصراع مع الآخر، لكن الأستاذ بليبل طالب بهذا الحوار بديلاً عن الحوار مع الحضارة الغربية المتمثلة بأمريكا ذات الرؤية الأحادية والثقافة والسياسة الأحادية التي ترفض الاعتراف بالآخر، لذلك هو يعتبر الدعوة لحوار الحضارات دعوة غير موضوعية يستعيض عنها بتقوية الداخل ـ عبر الحوار والديمقراطية وتنمية حس المواطنة من أجل الصراع مع تلك الحضارة الغربية.
هذا الطرح وجد تأسيسه المنطقي والمعرفي عند الكثير من الأكاديميين المشاركين في هذه الندوة، فالدكتور غسان علاء الدين من جامعة تشرين /سورية يؤكد أن مصطلح الحوار هو تكتيك تلجأ إليه الحضارة القوية كي تصل عبره لمآرب واقعية علي الأرض، فإذا تمكنت من تنفيذ أغراضها من خلال استخدام ذلك التكتيك شرعته نظرياً، وإلا فإنها تستبدله بصراع علني ومكشوف في مواجهة الحضارات الأخري. هنا تزاح الصورة الأخلاقية التي يتقنع خلفها الحوار لتفسح مكانها للصورة السياسية والاقتصادية التي تتجسد فيها القوة السافرة في إطار ومقولات الصدام أو الصراع الحضاري.
لذلك يدعو الدكتور علاء الدين إلي رفض الحوار مع تلك الأمم التي تسعي لاستعبادنا، ولا بأس لو وجد حوار فيما بين الدول العربية والإسلامية التي يجمعها تاريخ مشترك، وثقافة مشتركة. كما طالب بداية بإعادة النظر في المقولات التي ترفعها الأمم والحضارات شعاراً لها، كالحوار والصدام والصراع من حيث إمكانية تعيّنها في الواقع الذي تباشره، متجاوزين دلالاتها النظرية الخادعة، والتي بمجرد أن نقف عندها ـ نكون قد ساهمنا من حيث لا ندري ـ في التآمر علي الواقع المعاش، لمصلحة مفاهيم نظرية تنطوي علي جملة من الأوهام ليس إلا.
وإن كان الدكتور علاء أطلق علي محاضرته عبارة وهم الحضارة ذلك الوهم الذي لم يبتعد عن إطاره الدكتور طيب تيزيني من جامعة دمشق، الذي رأي في أحداث أيلول (سبتمبر) فعلاً أمريكياً داخلياً، والنظام العالمي الجديد نظاماً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً يسعي لابتلاع الطبيعة البشرية وهضمها وإنتاجها سلعاً.
ويتابع الدكتور تيزيني ان الاتجاه الحاسم الذي يتحرك وفقه صراع الحضارات راهناً هو المحور الديني، باعتبار النظرة الأمريكية عند هنتنغتون للحضارة تساوي مكونها الديني، وهذا الاستنتاج يقود هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات إلي استهداف كل من الحضارتين الإسلامية والصينية .
المنظور نفسه يحكم قراءة الدكتور عبد الحسين شعبان /العراق إلي حوار الحضارات في ضوء العلاقات الدولية الراهنة حيث استعاد الموضوع في علاقته مع مفهوم الإرهاب الدولي والقرارات الدولية التي شرعت ما بعد أحداث أيلول/ سبتمبر لآليات مكافحة الإرهاب باعتبارها معركة أمريكية بامتياز ضد ما يمكن أن يشكل تهديداً للولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الإمكانية تنطلق من رؤية أيديولوجية مسبقة تعتبر أن الإسلام خطر حقيقي لأنه يحض علي الإرهاب، ولا بد من القضاء عليه باعتباره العدو الأساسي بعد انهيار الشيوعية .
ثم تطرق لانعكاس هذه السياسة علي حالة حقوق الإنسان والحريات المدنية والتي دفع فواتيرها السلبية ـ بشكل خاص ـ العرب والمسلمين نتيجة إجراءات تعسفية للغرب، والتي تنطلق من تفرد في الهيمنة الأمريكية علي القرار الدولي مقابل استخفاف بالرأي العام وحتي بالقوانين الدولية.
هل يمكن لحضارة يعترف الجميع بنكوص نخبها جميعاً إلي نفي إمكانية الحوار بين أبنائها أن تطالب غيرها بالحوار؟ هذا هو السؤال الأساسي عند الدكتور أبو يعرب المرزوقي من جامعة تونس الأولي، والذي سعي لتحديد أطراف الحوار وشروطه، إذ يحلل بلغة إسلامية عناصر التدافع وعناصر الحوار في مكونات هذا الواقع الإسلامي ونخبه التي لا يتردد عن وصفها بالنفاق، ثم يؤكد علي تلازم عمليتي الحوار والتدافع باعتبارهما من السنن الإلهية التي تؤيدها التجربة التاريخية، لكنه يعيد تأكيد أولوية للحوار والتدافع الداخلي كشرط للتدافع والحوار الخارجي ليتمكن المسلمون من لعب دورهم التاريخي، لأنه لا يمكن للمسلمين أن يحاوروا أحدا دون الحوار فيما بينهم لتحرير أنفسهم وأمتهم، حتي تصبح قادرة علي المشاركة في التدافع الكوني بالحوار وبكل الوسائل البديلة عنه في مسيرة البشرية نحو تحديد آفاق وجودها المقبل .
الدكتور محمد السعيد إدريس من مصر وهو خبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ينطلق في قراءته للنظام العالمي الجديد من مقولة إن ما تهدف إليه الولايات المتحدة الأمريكية ضمن مشروعها الإمبراطوري هو فرض السيطرة والهيمنة علي الشرق الأوسط، وبما يضع نهاية حقيقية لأي فرص لحوار حقيقي ومشترك وفي ضوء ذلك يقرأ مشروع الشرق الأوسط الكبير باعتباره مجالاً للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية ويستنتج عبثية الحوار المفتوح أو المحكوم بطرف واحد يفرض شروطه أو أطراف أخري متلقية عليها أن تنخرط في تلك المنظومة المتكاملة من القيم والمفاهيم التي تحملها أيديولوجيا العولمة وفق المنظور الإستراتيجي الأمريكي .
ويضيف ان حالة العرب والمسلمين في الاندفاع وراء دعوة حوار الحضارات كانت أشبه بحالة استجداء القبول من طرف آخر لا يعرف غير إملاء الشروط . ثم يؤكد علي أهمية الحوار الفاعل مع الذات العربية والإسلامية وإعطائه الأولوية علي الحوار مع الآخر.
الانطلاق من فهم العلاقة بين الحضارات باعتبارها حصيلة توازن قوي، كان يحكم جلّ المحاضرات السابقة، ويؤدي إلي رفض مقولة حوار الحضارات بانتظار ديمقراطية داخلية، أو بانتظار مشروع نهضوي إسلامي يعيد بناء القوة التي تؤهل للدخول في علاقات صراع أو حوار للحضارات، حسب مقتضيات اللحظة، وهو ما تابع فيه المفكر المصري الدكتور حسن حنفي معتبراً أن صراع الحضارات أو حوار الثقافات، ومصطلحات نهاية التاريخ والعولمة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان كلها مفاهيم موجهة، غير بريئة، في ظاهرها الفكر وفي باطنها السياسة . ثم يقول الصراع الآن لم يعد بين نظم سياسية وقوي اقتصادية بل صراع حضارات والمتفوق في السياسة والاقتصاد يكون متفوقاً بالضرورة في الحضارة .
وحتي عندما يعرض الدكتور حنفي لبعض المظاهر الإيجابية لصراع الحضارات،إنما يعتبرها مسألة ظاهرة فحسب، ولا تهدف إلا لخدمة الغرب في المركز أكثر منها لصالح شعوب الأطراف، ومن ذلك أن حقوق الإنسان الفردي تعمية وغطاء لانتهاك حقوق الشعوب، ثم يتساءل عن الثقافة العربية التي روجت للمفاهيم السابقة حول العولمة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني بعد أن تلقفتها من الغرب، أين هي من أجندتها الخاصة وما هو موقفها من قضايا التحرر العالمية؟
أين هي قضية الوحدة وهم يخططون لتفتيتنا لتصبح إسرائيل الأكبر والأقوي؟ وجملة أخري من علامات الاستفهام التي تفضح زيف وأحادية تلك المفاهيم.
حتي الدكتور رشيد الحاج صالح من جامعة حلب /سورية ينطلق من السؤال هل التحديات الداخلية، أي الفقر والبطالة وانعدام الديمقراطية، هي التي أدت إلي التحديات الخارجية، تحديات عرض المصالح والسيطرة، أم العكس؟ .
ويذهب الدكتور صالح في استنباط جوابه إلي أن مقولة صراع الحضارات التي أطلقها هنتنغتون في تسعينيات القرن الماضي والتي ترسّم الدول العربية والإسلامية كبؤرة إرهاب لأسباب ديمغرافية، ونتيجة الفقر والبطالة والفساد، مضيفاً ـ أي هنتنغتون ـ أن الدين الإسلامي في طبيعته يحض علي العنف، وهنا يتهم الدكتور الصالح الغرب بالاحتيال الأخلاقي، إذ يتستر بالدوافع الأخلاقية ليبرر استخدامه للعنف، مدعياً الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما المعادلة بالنسبة له أن الأقوياء يميلون إلي الصراع وأن الضعفاء يستنجدون بالحوار، وبالتالي علي هؤلاء الضعفاء أن يتخلصوا من ضعفهم أولاً وبالتالي من تحدياتهم الداخلية ليتمكنوا من مواجهة التدخل الخارجي ومنعه من تحقيق أهدافه. ولم يخرج الدكتور فائق بولوط عن هذا الفهم، حتي وهو يقدم لحديثه عن الاستشراق بالقول: ان من لا يتعلم من التاريخ، سيعيشه مرة أخري وبالتالي إذا لم نفهم الاستعلاء الغربي والتعجرف الأمريكي اللذين يواجهاننا فإننا سنظل نجتر ذلك مراراً وتكراراً والشاهد علي ذلك عدم اعتذارهم عن الكاريكاتير الذي أساء إلي الرسول الكريم... بحجة حرية التعبير عن الرأي، مع أن مفهومهم لهذه الحرية قاصر، كذلك مفهومهم للديمقراطية التي هي مشروع متكامل في الثقافة والمجتمع بينما الغرب حصرها في حقل السياسة، بغية استخدامها كمبرر لعدوانه المستمر علي الشعوب الأخري.
وأشار بولوط الي أن الأصولية الدينية متعددة، ولا تقف عند دين واحد، فمنها الأصولية الإسلامية والأصولية المسيحية والأصولية اليهودية، وهذه الأصوليات بخلاف ما تدعي تهتم بالحياة الدنيوية أكثر من اهتمامها بالحياة الأخروية. وهي جزء من الإمبريالية العالمية. لكنه ورغم مفهومه حول المركزية الأوروبية التي تقزم الآخرين وتنظر إليهم بازدراء، إلا أنه اعترف بوجود آخرين في الغرب يتقبلوننا حواراً ومعرفة، ولا بد أن نحاول عبر المعرفة والتفاهم والتآخي أن نوسع الدائرة لتتسع لحوار حضارات حقيقي بين الشعوب.



إذا كان الفكر الأكاديمي العربي قد انتهي بأغلبيته إلي رفض الحوار بين الحضارات، فإن الفكر الديني قد ذهب أبعد من ذلك قليلاً، فرأينا الدكتور عبد الرحمن العوفي البصري الجزائري يتحفظ علي مصطلح الحضارة الإسلامية ، مبيناً أن الحضارة إنسانية وشاملة، لأن المفاهيم أو المصطلحات لا تساوي تماماً ما تعبر عنه، إنها تمثله فقط والمفهوم يقصر عما يدل عليه. وبالتالي لا يمكن للحضارة أن تتصارع، بل هي فعل إنساني تكاملي.
كذلك الدكتور محمد حبش من سورية تحدث عن دين واحد وحضارة واحدة، مؤكداً أن الحوار مع الآخر ليس فعلاً فلسفياً، بل معاشاً يومياً، والعالم اليوم يختلف جذرياً عما كان عليه، والتسارع الحالي يفرض علينا الحوار، ولكن ليس حوار النخبة، مضيفاً أننا مقابل مشروع صدام الحضارات الأمريكي علينا البحث عن المشترك الإنساني والديني، بل هو يذهب إلي نفي حوار الحضارات، لأنه لا يوجد سوي حضارة واحدة، مستشهداً بالكثير من المعطيات التي تؤكد وجود تعاطف غربي مع قضايانا وتفهم عميق رغم سياسات النخب الحاكمة في تلك الدول.
كذلك أشار الدكتور جواد الخالصي من العراق إلي الملامح الموحدة للحضارات الإنسانية مع تفاوت في حضور هذه الملامح بين حضارة وأخري، ومن هذه الملامح عدّد الثقافة وقيمة الإنسان، والنظرة الإنسانية الشاملة والنهضة في كل جوانب المجتمع، مضيفاً أننا لم نتعرف علي الحضارة الغربية من خلال ثقافتها بل من خلال احتلالهم لبلادنا، والحضارة الحقيقية لا تقتصر علي القوة العسكرية بل تشمل مناحي حياة المجتمع كلها، ليخلص إلي أنه في المجتمع الأمريكي القوي عسكرياً جوانب ضعف غير منظورة ستعمل علي تفكيك هذه الإمبراطورية مستقبلاً، وسيعجل احتلال العراق بهذا الانحلال.
كذلك المترو بوليت بولس يازجي مطران حلب واسكندرون وتوابعها للروم الأرثوذكس تحدث في هذه الندوة عن دور الأديان في مستقبل الحضارات، فأشار إلي عودة مكثفة للتدين، وهي ليست أصولية بمعني الانغلاق علي الآخر، فالتثاقف عملية تتم في حركة بين الانفتاح علي الآخر وبين العودة إلي الذات، تؤكد علي ما هو إنساني عام وخير، ثم يستحضر القول الدين لله والوطن للجميع باعتبارها حقيقة يجب أن نعترف بها، لأن تأكيد الذات لا يتم بالانتماء إلي الموروث المغلق الطائفي، أو إلي دين دون سواه، بل هو بناء الذات انطلاقاً من الدين والمذهب والثقافة الموروثة، انطلاقاً من فهم كل مطلق وخير في خبرات الآخرين، بحيث يحافظ دين المستقبل علي الهوية ويلاقي بالمقدار ذاته الأوّل بالآخرين.
*****
الاتجاه الآخر في الندوة عبر عنه قلة من المحاضرين فالدكتور فلوريال ساناغوستان اعتبر أن احتكاك العرب بالشعوب والأمم الأخري أفرز تجليات عدة لحوار الحضارات، توقف عند نموذج أبي الريحان البيروني في كتابه عن الهند حيث حاول أن يدرس الحضارة الهندية من الداخل وبكثير من الموضوعية، ولولا ذلك لاعتبرنا محاولته مجرد تأثير وتثاقف. لذلك استعرض الدكتور غوستان سيرة الكاتب وعصره والظروف التاريخية المحيطة به، ليستخلص المنهج الذي سار عليه البيروني، مبيناً أنه اشتغل علي العلوم العقلية، متجاوزاً التيار الذي اشتغل علي العلوم النقلية في الحضارة الإسلامية. وكان منفتحا علي الآخر في سلوكه ومعتقداته وأفكاره.
فيما تحدث الدكتور غالب دوران من تركيا عن دور الإعلام في الحضارة الراهنة، منطلقا من مسلمة أن المنتصرين في التاريخ هم من يفرضون رؤيتهم ويصدرون أحكامهم في النهاية، والآن فإن أمريكا هي أقوي دولة في العالم نتيجة امتلاكها الإمكانيات التقنية والمعرفية والاقتصادية، وبالنتيجة هي مهيمنة علي الإعلام العالمي، ومن يملك الإعلام يملك توجيهه، لذلك نحن ننقل كثيراً عن الإعلام الغربي عموماً والأمريكي، بشكل خاص المفاهيم والمصطلحات، ونستخدم التعابير التي يستخدمونها، حتي أننا نقع بشكل أو بآخر تحت هيمنة الإعلام الغربي ونعبر عنه أحياناًً.
وقد درس الدكتور دوران في محاضرته نموذج الحربين الأمريكيتين علي العراق، في الأولي كنا تحت تأثير(CNN) وفي الثانية درس المحاضر تأثير قناة الجزيرة في تقديم معلومة مغايرة.
الدكتور أحمد برقاوي أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق، اعتبر الإشكالية الفلسفية وراء سؤال صراع الحضارات إشكالية زائفة غير حقيقية، لأن الحضارة عموماً هي جملة الإبداعات الروحية والمادية، وهي تختلف عن بعضها لكن الاختلاف لا يقود بالضرورة إلي الصراع، لأن الصراع لا يقوم بين الحضارات بل بين الدول، وغالباً بين دول تنتمي لذات الحضارة.
والصراع الحقيقي هو الصراع الأيديولوجي بوصفه مفهوماً بديلاً من حيث صدقه علي وصف الصراع بين الرأسمالية المتعولمة الآن وبين دول العالم التي لا تملك إرادة التحرر العملية من عبوديتها للرأسمالية المتعولمة وهذا الإهاب الأيديولوجي يمنح الصراع بين الدول مبرره الأخلاقي.
والقول بحوار الحضارات وفق الدكتور برقاوي لا يقل زيفاً عن الصراع بينها، لأن الحوار يفترض منطقياً طرفين متكافئين بالاختلاف، وإذا وجد تأثير بين الحضارات فهذا لن يكون حواراً، لأن المتخلف هو الذي يتأثر بالمتقدم، والأضعف أسير الأقوي، والأمم العالمية هي التي تؤثر بالأمم المحلية، لكن هذه العلاقة لا تقود إلي حوار بين الحضارات لانتفاء التكافؤ بينها.
أما الدكتور يوسف سلامة من جامعة دمشق فقد حاول بناء رؤية إلي الحضارة من جهة نظر الحداثة باعتبارها تلك اللحظة التي يتم فيها التحول من ثقافة متعالية علي الإنسان تتحدد فيها المضامين بناء علي إرادة خارجة علي إرادة الإنسان ومتفوقة عليه وتحدد أطر تفكيره ومدار سلوكه، إلي ثقافة الإنسان نفسه في لحظة الحداثة، باعتبار الإنسان سيد عمله وسيد العالم من خلال سيطرة العقل وضرورة الحرية، فالحضارات السابقة علي الحداثة كانت تعتمد علي الدين أو الإثنية أو كليهما، غير أن حضارة الحداثة المكونة لمفهومي العقل والحرية لم تقم وزناً للعنصرين السابقين، ومن خلال هذين المفهومين أرست القواعد اللازمة لحوار ممكن بين البشر، لا حوار إثنيات أو أديان ينحاز فيها كل فريق لدينه أو عرقه، لأن العقلاء بالعالم وحدهم من يتمكنون من فتح حوار يجنبهم الويلات وعمليات الصراع.
لكنه يضيف في الإجابة علي عدم تحقق الحوار في حضارة الحداثة حتي الآن، بأن الحداثة التي تعمل علي حل المشكلات تفجر المشكلات في الوقت نفسه، كونها تنزع إلي أن تكون متماثلة عند كل البشر، مع أن العالم حتي الآن لم يصبح قرية واحدة، والتماثل المحدد بالعولمة سيؤدي إلي افتقار الثقافة الإنسانية، لذلك لن نحتاج إلي أن نكون متنوعين وغير مصطرعين في آن واحد، كما نحتاج في الوقت نفسه للانفتاح علي القوي الغربية التي تنظر نظرة قريبة من نظرتنا.
الدكتور محمد الكبسي من جامعة المنار /تونس، تابع مفهوم الحداثة مع الدكتور سلامة بغية تجاوز أدلجة الحداثة، فليست المسألة مجرد التبشير بأن العالم يلج القرية الكونية، ولكن أن يكون ولوجه حوارياً، تسامحياً، تنوعياً، وليس بالضرورة اختلافياً ورغم كل المجريات والتحولات التي عصفت بالعالم إذ لا يزال الحوار مدخلاً ضرورياً لزمن العولمة، شريطة أن نحسن توظيف الأوضاع الدولية ونجعلها تسمح بإجراء وإدامة هذا الضرب من الحوار، لأن فرص الحوار تصنع ولا نترقبها .
ويضيف الدكتور الكبسي ليس الحوار غاية في حد ذاته، فهو تجاوز للحوارية السجالية نحو خلق حوارية التحالفات، وهذا يكون بضرب من ثقافة للحوار علينا امتلاكها مضيفاً أيضاً أننا ما دمنا بدأنا نطرح الحوار فهذا يعني علامة صحة، لأنا أصبحنا نفهم التاريخ، فليس الحوار مجرد نوع من أنواع الحضور، لكنه بداية الفاعلية .

*****
أخيراً فإن هذه الندوة كما أشرنا جهدت للحوار بين وجهات نظر متباينة أحياناً، ومتفقة أحياناً أخري، متباينة بين من يقبل مفهوم حوار الحضارات ومن يرفضه، وبين من يعتبر أنها إشكالية زائفة أصلاً. كما تباينت وجهات النظر في الموقف من الخارج الغربي والإمبريالي بوصفه عدواناً مستمراً علينا، أو بوصفه حاملاً لمشروع الحداثة، وعلينا أن نتعامل معه وأن نقيم حواراً علي أساس هذه الحداثة. كما تباينت الآراء حول فهم مصطلحات العولمة والمجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية، لكنهم جميعا بدوا مجتمعين علي ضرورة تفعيل المجتمع المدني ومنح الحرية لمكوناته وأفراده معاً، والاعتراف بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب بآن واحد، وصولاً إلي ديمقراطية تبني قوة المجتمع القادر علي حوار الآخر من موقع الند والشريك، وليس من موقع الضعيف، وقد خلصت الندوة إلي توصيات نهائية ركزت علي:
1 ـ إظهار الشخصية الحضارية للأمة العربية والإسلامية بعدة إجراءات منها تدريس مقرر مدرسي (تاريخ الحضارة العربية والإسلامية).
2 ـ فتح أقسام جامعية لتدريس لغات الشعوب من مختلف الحضارات كالفارسية والصينية.
3 ـ فتح أقسام ومعاهد دراسات خاصة تهتم بدراسة حضارة ولغات الشعوب المتعايشة مع العرب وخاصة اللغة الكردية والبربرية. وترجمة الآداب الأجنبية والبحوث وحتي الأفلام السينمائية.
4 ـ عقد ندوات ومؤتمرات وحوارات مع الكتاب والخبراء والمفكرين الأجانب وأعضاء البرلمانات الأجنبية، ومنظمات المجتمع المدني وتقديم منح دراسية مجانية لدارسي اللغة العربية والتاريخ العربي من الأجانب.
5 ـ توجيه نداء للمفكرين والكتاب بفتح نوافذ الحوار مع سائر مفكري العالم، واخذ زمام المبادرة من الأنظمة المقصّرة.
QP10

هل ترغب في التعليق على الموضوع؟

"القدس العربي" ترحب بتعليقات القراء، وترجو من المشاركين التحلي بالموضوعية وتجنب الاساءات الشخصية والطائفية، ولن يتم نشر اي رد يحتوي شتائم. كما ترجو الصحيفة من المعلقين ادخال الاسم الاول واسم العائلة واسم الدولة وتجنب الاسماء المستعارة. ويفضل ان تكون التعليقات مختصرة بحيث لا تزيد عن 200 كلمة.

الأسم:
بريدك الألكتروني:
الموضوع:
التعليق:
in
 
مدخل
أرشيف
مواقع اخرى
الاتصال بنا
مذكرات و كتب

Website Statistics