Arabic symbol

 

 

 

 

فلاسفة العرب

الأصول الثقافية للمعرفة العلمية

 
بحث مخصص
 

 

 شوقي جلال

مجلة العربي الكويتية - أول فبراير 2006

(إلى أي مدى يتأثر إدراكنا للعالم بخلفيتنا الثقافية?) كيف ندرك العالم? ما دور الثقافة الاجتماعية في تحديد معالم وشروط إدراكنا للعالم? وفي صوغ صورة العالم? وما دور الثقافة في تحديد ما نعرفه? وما ندركه? وأيضًا ما لا ندركه?!.

تعتبر الثقافة الاجتماعية في تطورها عاملاً رئيسيًّا محدِّدًا للإدراك والمعرفة معًا, أو لنقل للتوجه الإدراكي والمعرفي للإنسان. ويتجلى هذا في مدى وطبيعة التباين بين الثقافات الاجتماعية, ومن ثم تباين الأطر الإدراكية واختلاف صورة العالم والتعبير عنه والرمز إليه وكذا اختلاف الواقع النفسي المرتهن بصورة التعبير عن الإدراك.

تعددت وتكثفت بحوث العلماء التي تناولت بحث مثل هذه الأسئلة. وبرزت أسماء أعلام لهم نظريات متميزة. نذكر من هؤلاء بياجيه وشومسكي. وخلق الجميع ما يمكن أن نسميه إطارًا عامّا أو اتجاهًا رئيسيّا للتفكير في هذا الموضوع. ولكن شاء عالم أن يسبح ضد التيار ويقدم نظرية جديدة, هو ميشيل توماسيللو المدير المشارك لمعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا المتطورة في ليبزيج, وله أبحاث ومؤلفات عديدة, وصدر له أخيرًا عن جامعة هارفارد كتاب (الأصول الثقافية للمعرفة البشرية), الذي يتضمن نظريته في هذا الشأن.

هدف الكتاب منذ البداية واحد محدد: الكشف عن الجذور الثقافية للمعرفة البشرية, تمييزا لها عن المعرفة عند الرئيسات الأخرى. وتعددت في سبيل ذلك مناهله ومراميه ومجالات تأثيره وأصداؤه. ووصولا إلى هدفه, عمد المؤلف إلى تقديم:

- تفسير تطوري دينامي للمعرفة البشرية في ضوء أبعادها التطورية التاريخية للنوع والتطورية الفردية.

- الجمع بين النظرة التطورية وعلم النفس الثقافي.

- بيان أن جذور القدرة البشرية - على توافر ثقافة الرمز والنمو النفسي الذي يجري في إطارها المتطور - كامن ضمن عنقود أو مركب من قدرات معرفية ينفرد بها البشر وتظهر بوادرها في باكر الطفولة.

ويمثل الكتاب إسهاما جليل الشأن في ضوء الحوارات والصراعات الفكرية النظرية العلمية والعملية المعاصرة, بشأن قضايا محورية جامعة ومثارة بإلحاح الآن: الرمز - اللغة - العقل - الذكاء الطبيعي - الذكاء الاصطناعي - الفهم - المعرفة - المعنى وشروطه - التراكم المعرفي وأسباب ومظاهر ونتائج اطراده - الثقافة والتكوين التاريخي الاجتماعي لها - التمييز بين المعرفة البشرية والمعرفة عند الرئيسات الأخرى.

لذلك نراه في بحثه ومنهجه وحصاده دراسة علمية متعددة الأبعاد. ويهيئ لنا مددا علميا وتجريبيا للنظر في العديد من المشكلات التي تؤرقنا, ويضع أيدينا على رؤى وحلول مبتكرة ليست نهائية حقًا ولكنها نهج جدير بالتأمل والمتابعة, فضلا عن أنه يتجه بأفكارنا وجهة جديدة تحفزنا إلى المزيد من البحث. من ذلك مثلا قضايا الهوية الثقافية والتراث والحضارة, وأسباب الاختلاف الثقافي بين المجتمعات في التاريخ. ويلقي الكتاب ضوءا غير مقصود على قضية مثل العولمة والتجانس الثقافي بين الشعوب, أو هيمنة ثقافة باعتبارها الثقافة الأسمي, وجوانب الوهم في مثل هذه الدعوة, ومن ثم تمثل رؤاه أساسا علميا للمناقشة والحوار.

سباحة ضد التيار

ويدرك المؤلف أن بحوثه سباحة ضد تيارات عديدة سابقة عليه لها رواجها. ولكنه يدرك أيضا أنه امتداد لمدرسة علمية متطورة بدأت تكتسب زخما جديدا في المرحلة الأخيرة, وهي المدرسة التطورية. ويبدو الكتاب ساحة لحوار علمي خصب بروح علمية ملتزمة المنهج العلمي تأييدا أو معارضة.

يعمل المؤلف على تطوير وتعديل نظريات بياجيه, إذ نراه يقول: هذا الشكل الذي ينفرد به البشر للمعرفة البشرية التي تتحول إلى ثقافة من خلال التفاعل المتبادل عبر الاتصال الرمزي والتعاون والتعلم الاجتماعي, لا يتعلق بفهم الآخرين كمصادر حية للحركة والقوة حسبما افترض جان بياجيه. إذ إن هذا نمط متوافر لدى الرئيسات, وإنما الأصوب أن نقول إن هذا الشكل الجديد للمعرفة الاجتماعية يختص بفهم أن الآخرين لهم اختياراتهم التي يحددونها من إدراكهم وأفعالهم, وأن هذه الخيارات توجهها عملية التمثيل أو التصور الذهني لنتيجة ما مرغوب فيها, أي التصور الذهني للهدف. ويتجاوز هذا حدود فهم الحيوانية.

ويعارض نظريات تتحدث عن مكونات معرفية فطرية أساسية أو معيارية لدى البشر. وأشهر أصحاب هذه النظريات من المعاصرين ناعوم شومسكي. ويرى توماسيللو أن شومسكي وأترابه يعبرون بنظريتهم هذه عن قصور في تقدير نتائج العمليات التاريخية ـ الثقافية البشرية, أي عمليات التكوين التاريخي الاجتماعي التراكمي sociogenesis, أو لنقل التفاعل الاجتماعي داخل وفيما بين الأجيال, والتعديلات المطردة على مدى الزمان التاريخي وانتخاب نمط جديد أيسر وأصلح. ويرى توماسيللو أن كل هذا يتم على أساس مهارات معرفية كلية مشتركة, ويوضح أن المهارات المعرفية للغة والرياضيات كمثال هي نتاج تطورات تاريخية وتطور فردي معا, وتعمل جميعها تأسيسا على مجموعة متباينة من المهارات المعرفية البشرية الموجودة مسبقا.

ويرفض توماسيللو, بنص كلامه, أنواع الحتمية الجينية السطحية أو الساذجة التي تغشى مجالات واسعة من العلوم الاجتماعية والسلوكية والمعرفية. حقا إن الجينات مكوّن جوهري في قصة التطور المعرفي البشري, وربما تعتبر من وجهة نظر البعض المكوِّن الأهم في هذه القصة مادامت هي التي دفعت الكرة وحركتها, ولكنها ليست هي كل القصة, كما أن الكرة تحركت على مدى طريق طويل منذ أن بدأت حركتها الأولى.

ويقول: (جماع القول إن المقولات الفلسفية العتيقة البالية التي تُحدِّثنا عن الطبيعة مقابل التنشئة, وعن الفطري مقابل المكتسب, بل وعن الجينات مقابل البيئة, ليست على مستوى يؤهلها لأداء المهمة المنوطة بها ـ لأنها فلسفات سكونية - استاتيكية - وأخلاقية. إنها دون المستوى مادام هدفنا الوصول إلى تفسير تطوري دينامي للمعرفة البشرية في ضوء أبعادها التطورية التاريخية والتطورية الفردية).

ويؤكد توماسيللو في هذا الصدد ما ذهب إليه الفيلسوف فيتجنشتين, وعالم علم النفس الثقافي فيجوتسكي من أننا بشر كبار ناضجون, إذ نبحث ونتأمل الوجود البشري لا نستطيع أن ننزع عن عيوننا نظاراتنا الثقافية ونرى العالم متجردا من الثقافة, أي عالما غير مصبوغ بثقافتنا, وذلك حتى يتسنى لنا مقارنته بالعالم كما ندركه ثقافيا.

الحياة في عالم من اللغة ـ الرمز

ويستطرد قائلا (يعيش البشر في عالم من اللغة (صاغته اللغة ـ الثقافة) والرياضيات والنقود ونظم الحكم والتعليم والعلم والدين ـ وهذه جميعا مؤسسات ثقافية مؤلفة من مواضعات وتقاليد ثقافية. إن الرمز يعبر عما يرمز إليه وفقا لاعتقادنا بشأنه بحيث نفكر فيه هكذا, أو نظنه هكذا. وإن هذه الأنواع من المؤسسات والمواضعات والتقاليد نشأت ويجري الحفاظ عليها بفضل سبل معينة من التفاعل والتفكير بين جماعات البشر).

والمعرفة البشرية شكل محدد متمايز من التكيف المعرفي عند الرئيسات ولها خصائصها. ولن يتأتى لنا فهم المعرفة البشرية على حقيقتها دون فهم هذه الخصائص والأطر التي تطورت من خلالها تاريخيا:

- نشوء نوعي تاريخي, أي لها نشأتها التاريخية المميزة للنوع. وقوام هذا التكيف قدرة على التوحد مع أفراد النوع وفهمهم باعتبارهم كائنات لها قصد وهدف وقدرة ذهنية, أي عقل يفكر في ضوء الهدف المنشود والأفكار, شأنهم في هذا شأن الذات.

- خاصية تاريخية: وتعني إمكان ظهور أشكال جديدة من آليات التعلم الثقافي والتكوين الاجتماعي أي التجدد والتطور بفضل التفاعل الاجتماعي مع الزمن, ويتجسد هذا في صورة ثقافة, أي رموز لسانية ومصنوعات فنية ثقافية وتقاليد سلوكية تراكم تعديلات على مدار الزمن. ويعني هذا ضمنا أن مجتمعا يفتقر إلى سياق التكوين الاجتماعي النشط, أي يفتقر إلى التفاعل الهادف والمشترك بين عناصر يتعذر عليه تطوير المعارف ويكرس تخلفه.

- الخاصية الثالثة أن أفراد البشر يكتسبون المعارف والمهارات والتمثيلات المعرفية ويستخدمونها حسب الأطر والرموز, أي حسب السياق الثقافي الذي يولدون وينشأون فيه, ثم تهيأ لهم بفضل هذا الاستيعاب وتغير السياق الاجتماعي قدرة على التعديل والتطوير والانتقاد, ليتمثلها أو يتبناها المجتمع بعد ذلك لما فيها من جدوى ونفع. وهنا صورة للتفاعل بين ابتكار الفرد والنتاج المجتمعي, وكذا الإضافة المتواترة إلى الموروث عن السلف ضمانا لدينامية الحركة الاجتماعية. وهكذا تتراكم الإضافات والتعديلات والتي نراها مجسدة ثقافيا, أي مجسدة في مظاهر الثقافة من رموز لسانية ومصنوعات فنية ومادية. وتتجلى هنا ما يسميه توماسيللو وآخرون ظاهرة الترس والسقاطة التي تسمح بالحركة إيجابا لا سلبا, أي إضافة وتعديلا وتطويرا وليس ردة, شأن ترس السقاطة الذي يتحرك في اتجاه واحد, وهذا عكس الرئيسات الأخرى التي لديها قدرات معرفية أساسية, ولكنها تفتقر إلى التفاعل الاجتماعي وإلى تراكم الابتكارات والتعديلات وإلى الذاكرة التي تحتفظ بما نسميه تراثا ثقافيا اجتماعيًا, يبني على أساسه المجددون, إنما قد نجد أحد القردة مثلا يبتكر وسيلة جديدة للحصول على غذائه ويموت ابتكاره بموته إذ لا تفاعل ولا تراكم.

معنى هذا أن أطفال البشر يولدون ويلتقون ويتفاعلون مع عوالمهم الطبيعية والاجتماعية بشكل كامل إلى حد كبير, من خلال عدسات وسيطة هي الثقافة الموجودة قبلهم, بما تحتويه هذه الثقافة من مقاصد مبتكريها من السلف. ومن ثم فإن المعرفة التي يكتسبها الأطفال رهن المعارف المتراكمة في ثقافاتهم الاجتماعية وانتقالها إليهم عبر الرموز اللسانية.

ثقافة الجمود وثقافة الفعالية الاجتماعية

وجدير بالملاحظة هنا أن المجتمعات البشرية تتمايز فيما بينها على أساس كم ونوع المعارف المتراكمة والسياق الذي تجري فيه عملية التغذية أو التلقين المعرفي والتنشئة بعامة. وطبيعي أن المجتمعات الراكدة حصادها أو رصيدها المعرفي أقل من حيث الكم, وجامد ومتخلف من حيث النوع. ذلك لأن تزايد وتنوع وتطور الحصاد المعرفي رهن الفعالية الاجتماعية النشطة, ومن ثم تطور اللغة. وتتصف ثقافة المجتمعات الراكدة بالجمود والتعصب للقديم وعدم التسامح مع تعديل أو تطوير جديد على عكس مجتمعات الفعالية الاجتماعية النشطة, فإن سياقها الثقافي يتصف بالدينامية والمرونة والقدرة على التكيف السريع مع المتغيرات, وهو ما يهيئ لها فرصا أفضل للبقاء والتقدم والمنافسة.

وتختلف آليتا التعلم والتنشئة في هذه المجتمعات عن تلك. ويوضح توماسيللو أن التعلم والتنشئة الثقافية آليتان ناتجتان عن التطور وتمثلان استراتيجيتين مجتمعيتين للبقاء حسب الرؤية الثقافية السائدة. والملاحظ أن هدف آليتي التعلم والتنشئة في مجتمعات الثقافات الجامدة هو كفالة تكرار الذات على صورة السلف; بينما في مجتمعات الثقافة الدينامية والفعالية النشطة فهو اكتساب أكبر قدر من المرونة والقدرة على الفعل المستقل في تكيف مع المتغيرات. إن التعلم والتنشئة الثقافية - كما يرى توماسيللو - حالتان خاصتان بالتطور التاريخي الفردي الممتد extended ontogeny. ويتفق في هذا مع ريتشارد دوكنز في نظرته إلى النمط الظاهري أو النمط الفيني الممتد extended phenotype إذ يرى هذا النمط امتدادا للنمط الجيني في مسيرة التطور, حفاظا على بقاء النوع. ولهذا لا مجال في رأي توماسيللو لافتراض تعارض مزعوم بين الطبيعة والتنشئة, أي الطبيعة مقابل التنشئة, ذلك لأن التنشئة الثقافية شكل من أشكال كثيرة ابتكرتها الطبيعة وتتخذها لنفسها, إنها امتداد متطور لها.

ولنا أن نمضي بهذه النظرة بعيدا إلى عالم التربية أو التنشئة الثقافية للصغار والكبار بعامة من بني البشر, إذ تكشف لنا هذه النظرة عن أن التنشئة تختلف باختلاف ثقافات وفعاليات المجتمعات. وإذا كان الأطفال يتغذون على ثقافات مجتمعاتهم بداية, عبر الرموز اللسانية, فإن هذا يعني أن أطفال البشر يلتقون ويتفاعلون مع عوالمهم الطبيعية والاجتماعية من خلال عدسات وسيطة هي الثقافة: المصنوعات والرموز الموجودة قبلا, أي الموروثة بما تحتويه من مقاصد مبتكريها من السلف. ثم بعد هذا التطور الفردي تتهيأ للمرء بعد استيعاب ثقافة مجتمعه, قدرة على التعديل والتطوير, ليتمثلهما المجتمع كآلية التكيف لما تحققه من جدوى إزاء ما يواجهه من مشكلات.

الهوية بين الفعل والكلمة

وطبيعي أنه في حالة غياب عنصر الفعل النشط الفردي والاجتماعي الإنتاجي تأخذ الكلمة صورة الاستقلال الذاتي المتوهم باعتبارها وعي الروح الفردي المثالي. ويدور الحديث والجدل في صورة تهويمات كلامية تحلق في فراغ من المجردات والتخييلات الذهنية التي تقطع كل صلة بالواقع الحي, وتقطع الطريق دون الحركة والتغيير والتطوير. وتشكل الثقافة ـ اللغة بذلك قيدا على أبناء المجتمع وتئد قدراتهم الإبداعية منذ التنشئة الباكرة.

ويكون همُّ هؤلاء الحفاظ على اللغة ـ الرمز ـ الكلمة, برسمها ومبناها دون تغيير بدعوى الحفاظ على الهوية, لأن اللغة هي الهوية اللازمانية واللاتاريخية المجردة من الفعل, ولأن اللغة هي الخاصية الحضارية دونها يغدو الوجود في نظر هؤلاء صفرا من كل شيء, كأن الحضارة هنا رسوما أو صياغة كلامية ومضامين تقليدية لا تاريخية الدلالة وليست الحضارة فكرا وقيما ونشاطا إبداعيا وتعبيرا لغويا يجسد الفكر والفعل مرحليا, وأن هذا كله مُجْتَمِعًا يؤلف معا الإنسان أو خطاب الإنسان مع الطبيعة والمجتمع, ويمثل طبيعة إضافية متجددة ومعارف وثقافة, ننظر ونتعامل عبرها مع الوجود, وترثها الأجيال للتطوير وإضافة المزيد.

ولهذا يكون أبناء هذه الثقافات الشفاهية عادة اسميين, بمعنى أنهم يعرفون الكلمة, أو أسماء الأشياء لا الأشياء ذاتها, ويحلقون بخيالاتهم مع أسماء القصص الموروث التي لا ظل لها في الواقع, ويكونون كذلك عادة غير عمليين, إذ يعتمدون على النظر المجرد دون الفعل التطبيقي النشط, ويعانون من مسافة فاصلة بين الفكر النظري المجرد والعملي التطبيقي. إنهم يعرفون في واقع حياتهم اسم شيء ما ويجادلون بشأنه, ولكنهم لا يعرفونه إذا رأوه في الواقع والطبيعة.

وتعتمد مجتمعات الثقافات الشفاهية على التلقين أساسا, وعلى التفسير من شخص كبير ناضج هو الحجة, وغالبا ما يكون التفسير لغويا ويعتمد على برهان لغوي, ويكون للإطار أو للمنظور اللغوي المكانة العليا في المجتمع. ونظرا لاختلاف رصيد ونوع المعرفة باختلاف الثقافات التي تنتقل عبرها المعارف, لذلك نجد انتقال المعارف والمهارات قد يكون عبر عمل وممارسة أو فعالية نشطة يؤديها الأطفال, وتكون الفعالية الذاتية خصيصة مميزة لهم في حياتهم. وقد يكون الانتقال نظريا تلقينيا, كما هو الحال في المجتمعات التقليدية الشفاهية. ويدعم هذا النهج خصيصة التبعية والتراتبية. ولهذا ينشأ الأطفال في مجتمعات الثقافات الشفاهية ملزمين عمليا بمراقبة الكبار والتعلم منهم, عن طريق ملاحظة أدائهم لبعض الممارسات والمهارات وانتظار المعلومة أو التعليمات منهم, كمصدر للمعرفة ومرجع معتمد مع الخوف من الجنوح.

الإبداع وتجدد الموارد الثقافية

ويخلص الكتاب إلى نتيجة في هذا الصدد تفيد أن الكائنات الحية ترث بيئاتها بقدر ما ترث الجينوم الخاص بنوعها, وتولد مهيأة للحياة في هذه البيئة. كذلك البشر مهيأون للعمل في بيئة اجتماعية من نوع خاص, هي بيئة ثقافية متطورة تاريخيا بفضل عمليات التكيف الاجتماعي أو الثقافي المطردة, أو هي الموطن الملائم, أو لنا أن نقول هي الثقافة الملائمة للنمو واطراد البقاء والمنافسة. ويولد البشر ولديهم قدرة موروثة بيولوجيا تمكنهم من الحياة حياة ثقافية ملتزمة بالثقافة. وهذه القدرة هي فهم أفراد النوع كعناصر فاعلة قصدية / ذهنية, مثلها مثل الذات, وهي أساس حياة المعاشرة الاجتماعية والتكافل والتفاعل بقدر أكبر من المرونة والكفاءة, وتمثل أساس حياة الاجتماع الذي أدى إلى ظهور شكل الوراثة الثقافية البشرية كعملية مطردة متطورة, ومن ثم تجميع وتراكم الموارد المعرفية تاريخيا.

ولا يملك المرء هنا إلا أن يسأل ما الموارد المتاحة في مجتمع ما? هل هي إبداع ذاتي? أم استهلاك فقط? الإبداع الذاتي يعني فعالية اجتماعية, واستثمارًا للموارد, وتطويرًا لها من خلال الفعل الفردي والاجتماعي معًا. تعلم وتفاعل من خلال الفعل الذاتي وفعل الآخرين, مما يدعم تلاحم المجتمع ووحدة الهدف, وينسق الحركة المجتمعية نحو الهدف. ولكن حين يغيب الفعل الذاتي والهدف الاجتماعي والحركة الموحدة يغيب الحافز إلى محاكاة الآخرين والتفوق عليهم.

الثقافة أداة تكيُّف متطورة

صفوة القول إن الثقافة, كما يرى توماسيللو, مصنوع فني اجتماعي, أو أداة تكيف متطورة تعدل في تفاعلها مع وظيفتها الاجتماعية المتطورة والتي نشأت اجتماعيا لأدائها. واكتساب المجتمع للمصنوع الفني الجديد, أي المتطور أبدا كأداة وكدلالة يمثل حائلا دون التراجع عنه أو نسيانه فضلا عن الإفادة به كأساس للتطوير بفضل الفعالية الاجتماعية. ولهذا تشير الثقافة إلى مواقف التواصل الاجتماعي التي صممت لتمثيلها, كما تشير إلى المشكلات الاجتماعية التي صممت لحلها, وطبيعي أن تتطور بتطور المجتمع. ولكن دون ذلك يظل عقل المجتمع, أسير ثقافة مضى زمانها ويجمد المجتمع خارج التاريخ.

وتجسد الرموز - اللغة اللسانية والمصنوعات الفنية والشعائر والطقوس.. إلخ - ظواهر وقضايا المجتمع الحياتية التي تؤرقه وطرق تشخيصها وحلول مشكلاتها وتغدو الثقافة السائدة دالة على ما يشغل عقل المجتمع أو يحتل مكان الصدارة والأولوية في عقله ويرصد له جهده.

الكتاب ختاما يهيئ للقارئ العربي آفاقا جديدة للتفكير والتساؤل, بحثًا عن إجابات لمشكلات مزمنة نواجهها, حري بنا أن نلتمس لها حلولا علمية بعيدا عن تهويمات تدغدغ الوجدان وتبقينا خارج الزمان التاريخي, ونسمع ضجيجا ولا نرى طحينا. تدور على الألسن عبارات موضوع ذات جدل ساخن عن التراث, الثقافة, الهوية الثقافية العربية, الحضارة العربية, اللغة العربية وقدسية اللغة, إلى آخر ذلك من مقومات الحياة الاجتماعية. ولكن يغيب معها منهج البحث التطوري, وتغيب النظرة الدينامية, وتغيب الفعالية الاجتماعية والإبداع المعرفي المتجدد على مستوى حضارة العصر, ونفقد القدرة على التكيف مع واقع محلي أو عالمي عماده المنافسة والتطور الارتقائي.

ولكن أولى بنا, إن شئنا خلاصا, أن نناقش واقعنا من منظور منهج علمي يحفزنا إلى التماس مصنوع فني اجتماعي بديل, أعني التماس ثقافة ـ ثقافة إبداع الفكر والفعل لا ثقافة الكلمة والشفاهية, ثقافة تصوغنا عناصر فاعلة منافسة, تبدع المعارف وتراكمها في اتصال وانفصال وترابط تطوري جدلي بين الفكر والواقع, وتضع أقدامنا على طريق التجديد والتطوير الخلاق, الذي يؤسس الوجود الاجتماعي المكين, ويؤسس الإرادة والإيمان بالذات فردا أو مجتمعا, أو لنسأل أنفسنا من بين أسئلة أخرى كثيرة عن الجذور الثقافية للمعرفة التي تغذى عليها أطفالنا, أو بمعنى آخر كيف نبني المستقبل?.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

(أحمد شوقي)

 

عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي بين الشرق والغرب - المعرفة العلمية