Arabic symbol

 

 

 

 

فلاسفة العرب

«الخلاص».. بين وعود الإسلاميين والعلمانيين
 
بحث مخصص
 

 

المفكر فهمي جدعان يناقش أزمة الاختلاف الفكرية لدى العرب والمسلمين:

* الزواوي بغوره *

جريدة الشرق الأوسط - 22 فبراير 2007

لم يفقد المفكر العربي الدكتور فهمي جدعان، في كتابه الأخير «في الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين»، لا الأمل ولا الرجاء في النظم المشكلة للثقافية العربية، لأنه يراهن على تحولها وتغيرها وعلى إمكانية تقاربها وتواصلها. فعبر تحليل تضافري معرفي وتاريخي، تأتي المساهمة الجديدة للمفكر فهمي جدعان مشدودة إلى «الخلاص» بوصفه مأزقا ومخرجا، وهما وإمكانية، نهاية وبداية، انسدادا ومخرجا، مطبا ومطلبا، ذلك ما تعكسه خطه الكتاب، وتناوله المتن بالتحليل والنقد في فصوله الثاني والثالث والرابع، لنظم الخلاص في الثقافة العربية، نظام الإسلاميين ونظام العلمانيين ونظام الليبراليين، وطرحت في الفصل الأول والخامس بديلها الممكن، الذي يؤذن بتيار فكري جديد، ويعلن عن قيام نظام ثقافي عربي جديد مأمول ومرجو.
أجرى الدكتور فهمي جدعان عمليات فصل لمختلف الخطابات الثقافية العربية، ففصل ما بين خطاب إسلامي صلب متمحور حول فكرة الحاكمية وتطبيق الشريعة، وما بين إسلام مرن إصلاحي، إسلام المقاصد والعدل والإنصاف والرحمة والمصلحة، كما فصل في خطاب العلمانية، ما بين علمانية دوغماتية اقصائية، وما بين علمانية حيادية قائمة على استقلال العقل، وفصل أخيرا في خطاب الليبرالية، ما بين ليبرالية متوحشة وليبرالية إنسانية. ومن خلال هذه العملية المنهجية والمعرفية، لا يكشف الدكتور فهمي عن مستويات الخطاب فقط، وإنما يعمد إلى ربط الصلة والعلاقة مع ما يراه قابلا للتحويل والتركيب والحوار والتواصل وتشكيل أرضية مشتركة، بين مختلف نظم الثقافة العربية، ويأذن بالخروج من حالة الانسداد التي تعرفها الثقافة العربية المعاصرة التي أصبحت رهينة الفكر المتصلب.

* في نظام الإسلاميين بعد تحليل للتجربة التاريخية للإسلام بمختلف تياراته القديمة والحديثة، يتوقف المفكر العربي عند حركة الإخوان المسلمين وحزب الدعوة الشيعي، لأنهما يمثلان، فهما للخلاص (لا يجيء إلا من باب (الدولة الإسلامية) أي من باب (السياسي) النضالي). وبالتالي فإن الخلاص لا يأتي إلا من خلال (مقاتلة الدولة الجائرة «الكافرة»)، والعمل على استبدالها بالدولة الإسلامية والانفصال عن العالم وتأسيس هوية خاصة وخالصة، تعتمد المجابهة والعنف طريقة ووسيلة. ومع الإقرار بالاختلاف في مستويات الحركات الإسلامية السياسية، إلا أنها تتميز بثلاث خصائص أساسية هي: الاستخلاف والتكليف والحاكمية، قصد تحقيق الخلاص بواسطة التغيير. إن هذا الخلاص الموعود، في نظر صاحب كتاب: «المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام»، يعد وعدا تحريفيا، (يخرج عن حدود الغائية الكبرى والمركزية التي أرادها الإسلام لنفسه، وذلك بما هو دين قد جاء رحمة وهدى للعالمين بالحكمة والموعظة الحسنة، وبما هو شرع يتوخى أولا وأخيرا وبإطلاق، تحرير الإنسان من العبودية وإقامة مبدأ (العدل) على الأرض). وبذلك تكون مقالة الإسلاميين، مقالة القلة في مقابل «التيار الأغلبي» او التيار الحضاري، مقالة تصطدم بالدولة الوطنية والتيارات الليبرالية والعلمانية والبيئة الدولية الراهنة، وأدت إلى إشاعة صورة عن الإسلام والمسلمين قوامها نزعة عدوانية تدميرية تنشر في كل مكان أسباب التوجس والخوف والحذر والكراهية، لكل ما يرتبط بالإسلام والمسلمين. فما المخرج من هذه الحالة الانسدادية المتميزة بالتصلب؟ يرى المفكر فهمي جدعان، انه من الضروري إحداث نقلة في الفكر والسياسة، وتحول من مبدأ تطبيق الشريعة إلى مبدأ مقاصد الشريعة وغائية العدل والمصلحة والرحمة، وذلك بالاستناد إلى مرجعية إسلامية، تمثلها مجموعة مهمة من علماء الإسلام منهم، الماوردي والغزالي والشاطبي والعز بن عبد السلام.. الخ.

* في نظام العلمانيين ان القول في العلمانية هو بالضرورة قول له علاقة بالدين، لذا ينطلق صاحب كتاب: «رياح التغيير: قضايا مركزية وحوارات كاشفة»، من ضرورة مراجعة العلمانية التقليدية، وتحليل حالة العلمانية في الوقت الحاضر، مع التأكيد على بعض التحديدات المعرفية منها، أن العلمانية لا تشير إلى واقع معين وإنما إلى علاقة، وهي علاقة الدولة بالدين، وهي تعبير سلبي عن غياب الدين عن الدولة، وأنها تتميز بالتغير والتطور، من هنا يمكن القول أنها نسبية وسلبية ومتغيرة، وأن قيمها تتمثل في حرية الضمير، والمساواة بين جميع المواطنين ونشدان الخير أو النفع العام، وتحرير المجال العام من كل سلطة تمارس باسم الدين، وبالتالي التمييز بين الحقل العام والحقل الخاص، ولذا لا يمكن فصل العلمانية عن الكنيسة والتاريخ السياسي والاجتماعي الغربي، الذي يبين أنها مرت بثلاث مراحل أساسية، المرحلة الاطلاقية والمرحلة الجمهورية والمرحلة الراهنة، التي تتصف بحرية التعبير الديني، باعتبارها حرية أساسية.

* علمانية أم علمانيات؟

وتعتبر العلمانية من بين التيارات الأساسية في الفكر العربي، التي عبر عنها نخبة من المفكرين منهم عبد الوهاب المسيري الذي ميز بين علمانية شاملة وأخرى جزئية، الأولى رؤية شاملة ومادية للحياة والثانية تكتفي بفصل الدين عن الدولة، وعزيز العظمة الذي يرى ان العلمانية عملية تاريخية، تؤكدها مختلف عناصر الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي أصبحت علمانية، وعادل ضاهر الذي حلل العلمانية من منظور ابستمولوجي معرفي، يرى فيه الدكتور فهمي جدعان، انه أعمق وارسخ تحليل، عرفته الأدبيات الفكرية العربية المعاصرة في جدل العلمانية والدين والدولة، لأنه ركز على (الاستقلالية الابستمولوجية للعقل الإنساني). يلاحظ الدكتور فهمي على الفهوم العربية الثلاثة للعلمانية، أن (جميعها يقيم تعارضا بين العلمانية وبين الدين، بما هو حامل لغائية سياسية، إما على جهة التناقض، وإما على جهة الطرد وإما على جهة الفصل). لذلك ينتقد طرح المسيري، باعتباره ينطوي على استراتيجية ايديولوجية تنشد في نهاية المطاف إضفاء خصائص سلبية على العلمانية، في فضاءات لا ترتاح أبدا للنزعات المادية، هي الفضاءات العربية والإسلامية1. واما مفهوم عزيز العظمة، فيتجاهل عودة الديني الذي تعرفه العلمانية الغربية، معبر عنه في النزعة الجماعية، ليخلص إلى أن العلمانية يجب أن تفهم على أنها (فصل وحياد) وأنها في نهاية المطاف (موقف أساسه العقل والعقلانية). وأنها في الفضاءات العربية يجب أن تتخلى عن صيغتها الراديكالية، أي عن كونها فصلا إلى وجوب الأخذ بصفتها الحيادية المتفتحة (المتوافقة مع نظام سياسي حر يعتمد الديمقراطية، بما هي تكنولوجيا سياسية ذات قيم ثقافية مصاحبة، وأن يوجه مبدأ «استقلال العقل الإنساني» بحيث يعترف في هذا «الاستقلال» بشرعية «الأوامر» و«المطالب» و«الحقوق» التي تلزم بها القوى«الانتربولوجية» الأصيلة في الإنسان..).

* في نظام الليبراليين وبذات الطريقة والمنهجية في التحليل والنقد، يرى صاحب «أسس التقدم عند مفكري الإسلام»، أن الليبرالية تنتمي إلى الحداثة والفكر الحديث، وأنها تشارك في عملية علمنة السياسة، وترفض ربط السياسة والاقتصاد بالأخلاق، وأن تنظيم السلطة يخضع للدستور، وانه يجب تقليص السلطة، باسم الحرية، فاصلا بين ليبرالية راديكالية وأخرى تؤمن بالعدالة الاجتماعية.

وبعد تحليل الليبرالية في الفكر العربي من خلال أعلامها، ولمعالم الحرية في التراث العربي، يتقدم الدكتور فهمي جدعان بتأويل لابن خلدون، يرى فيه ممثلا لـ«رؤية حداثية ليبرالية صريحة». وبعد مناقشة لآراء رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، والمصلحين أمثال الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين، ومن يسميهم بدعاة الليبرالية الصريحة كالأستاذ لطفي السيد وطه حسين وإسماعيل مظهر، يؤكد انه «لا يشك احد من المفكرين العرب اليوم في أن الحرية شرط ضروري وحيوي لإدراك نهضة عربية جديدة، وفي أن قدرة العالم العربي على مواجهة مشكلات العولمة ومخاطرها مرهونة بمدى انحسار الاستبداد وبمدى تقدم قضية الحقوق والحريات الأساسية»

* فصل المقال لقد كان هدف المفكر منذ البداية، هو العمل على إيجاد تركيب «متناغم يكون موضوع قبول أو نقاش أو تداول بين المعنيين بمسألة الخلاص النهائي أو غير النهائي». من هنا لم يكتف صاحب «الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية»، بالتحليل المعرفي والتاريخي لتيارات الفكر العربي، ولم يكتف ببيان أصولها التاريخية وتعدد اتجاهاتها وسلبياتها وايجابياتها، وإنما أضاف إلى كل هذا بديلا فكريا قائما بذاته يؤذن بتيار فكري، علاماته الحوار والتواصل والموضوعية والنقد والتفاؤل، وهو ما قدمه في الفصل الأول، وفصل القول فيه، في الفصل الخامس من الكتاب. يرى الدكتور فهمي جدعان، انه مهما بدت صورة الخطاب الإسلامي غامضة ومتنوعة، إلا أنها تشير إلى حدوث تقدم في وعي الإسلاميين، إذ أنهم تحرروا من «الميثي» والأسطوري، وتعلقوا بالواقع المشخص. رغم أن هذا الخطاب الإسلامي، ما يزال يغفل عن واقعة جوهرية وهي «أن التجربة الرسالية هي تجربة فذة بالمعنى الدقيق للكلمة، أي أنها تجربة معززة بالوحي نفسه، وأنها بذلك تفارق كل المفارقة أي تجربة إنسانية». فليس المطلوب هو تكرار تلك التجربة، وإنما المطلوب هو التجديد. من هنا، فإنه لن يكون هنالك أي مخرج ما لم يتحول الإسلاميون إلى الديمقراطية، بما هي تقنية وبما هي قيمة وثقافة لها فضائلها الخاصة.

* ماذا على العلمانيين؟

والأمر نفسه، فيما يتعلق بنظام العلمانيين، فعلى العلمانيين ألا يعتبروا اللحظة التاريخية، لحظة أبدية، وإنما عليهم أن يدركوا التحولات التي أصابت فكرة العلمانية، وخاصة ما تعلق بالحق في المعتقد. من هنا يرفض صاحب «الطريق إلى المستقبل: أفكار ـ قوى للأزمنة العربية المنظورة»، رفضا تاما ومطلقا العلمانية الدوغماتية، لأنها تقع في تناقض منطقي صريح حين تقرر أنها ديمقراطية، وأنها في الوقت نفسه ترفض أية مشاركة وأي دور لما هو ديني أو لمن لهم غايات دينية في الحياة السياسية وفي الدولة ومؤسساتها. ليؤكد على أهمية العلمانية بما هي حياد، لأنها ذات نزعة إنسانية وديمقراطية، ولأنها تحقق استقلال العقل الإنساني. وللأستاذ فهمي جدعان، وجهة نظر في العقلانية، مبنية على العقلانية التكاملية، وذلك ضمن منظور شامل للإنسان، لا يتحدد بالعقل فقط، بل يتحدد كذلك بالذاكرة والإرادة والحساسية والرغبة، وهذا ما يجعل من هذه العقلانية، عقلانية متفتحة وتواصلية، بعيدة عن الأحادية والإقصائية، وبهذا الفهم، يكون اقرب إلى فلاسفة ما بعد الحداثة منه الى فلاسفة الحداثة والتنوير. ومن الناحية السياسية، يدعو الدكتور فهمي جدعان الى ضرورة الجمع بين الخير الفردي والخير الجماعي، وبين الحرية السلبية والايجابية، وفي ان يكون للدولة دور فاعل في الحياة، ، بتعبير آخر: الذهاب إلى «تركيب» يتكثف في فلسفة اجتماعية ـ سياسية يتم فيها الجمع بين «الفردي» وبين «الجماعي» على نحو متكامل لا جور فيه لأحدهما على الآخر. وهو ما يؤدي إلى نوع من الليبرالية الضاربة «في نزعة جماعتية تضامنية ذات مضمون ديمقراطي اجتماعي صريح، هي ليبرالية «معقولة» في حدود الفضاءات العربية».

وتستند قراءة المفكر فهم يجدعان، للفكر العالمي والعربي، إلى تعدد وتنوع في المرجعية، ونص الخلاص النهائي، في شكله ومضمونه، في مبناه ومعناه، في لغته وفكره، إعلان لقيم الاعتدال والإنصاف والحوار والتواصل، وترفع عن الأحكام المسبقة وحرص على الإبانة والوضوح. وهو نص يبعث برسالة إلى الفكر العربي مفادها بأن التجديد لا يتم بالركون إلى الرأي والتبسيط والاختزال، وإنما يتطلب البحث والمتابعة والإنصات والحوار والنقاش، من هنا جاءت قراءة الدكتور فهمي لنظم الثقافة العربية، قراءة فاحصة اعتمدت على التحليل ألمفهومي والتاريخي والنقد الموضوعي المنصف.

على أن ما نلاحظه على هذه المقالة النقدية، هو اللبس في استعمال لفظ النظام، فلسنا ندري إن كان القصد منه قصدا معرفيا ابستمولوجيا أم قصدا سياسيا عمليا، وفي الحالتين فإنه لا يؤدي في تقديرنا وظيفته المعرفية والسياسية، ذلك أن النظام في معانيه الأكثر عمومية يشترط التناسق والوحدة والعلاقات بين عناصره المختلفة، وعليه كيف يمكن أن يشكل خطاب الإسلاميين أو العلمانيين او الليبراليين نظاما، إذا ما استرجعنا درجات الاختلاف والتعارض داخل كل نظام؟ بل إن الآراء التي حللها داخل كل نظام تصل في بعض الأحيان الى درجة التناقض، وبذلك لا يمكن وصفهم بالنظام؟ ومما لا شك فيه أن الثقافة العربية المعاصرة، قد استحسنت كلمة النظام منذ فترة، لتصف وضعيتها القديمة او الحديثة، وهي فكرة نقرؤها عند أصحاب المشاريع الفكرية العربية التي ينأى عنها الدكتور فهمي بعيدا، من هنا نعتقد أن فكرة النظام عند الدكتور فهمي هي اقرب إلى التيار والتوجه والايدولوجيا، منه إلى النظام أو النسق بمعناها الابستمولوجي.

على أن الدكتور فهمي لا يكتفي باستعمال مفهوم النظام، وإنما يستعمل كذلك مفهوم النموذج، ليس بوصفه إطارا نظريا يبنى انطلاقا من وقائع، وإنما يتحدد في نص الخلاص النهائي بوصفه مثالا. وفكرة النموذج المستلهم، تؤدي دورا محوريا وتعبر عن حضورها في الثقافة العربية سواء تعلق الأمر بالنماذج القديمة أو النماذج الحديثة، على أن المشكلة المتصلة بالنموذج في نص الخلاص النهائي، هو ارتباطه بالمثال والهدف والغاية والخلاص، فكيف يتحول النظام الى نموذج ومثال وغاية وخلاص؟ كما استعمل مفهوم المنظومة والإيديولوجية والموقف؟ إننا لا نجادل في أن المعنى السياسي للنظام يكون مفهوما، عندما يتعلق الامر بالإسلاميين، اما العلمانيون والليبراليون فلا نظن أنهما يشكلان نظامين سياسيين مختلفين، فحتى تركيا التي لم تكن ديمقراطية فيما سبق، كانت علمانية ليبرالية، لأننا نعتقد أن الكاتب يلمح إلى هذه لتجربة، وإلى تأثر قطاع أو نخبة من العلمانيين العرب بها.

* العلمانية والليبرالية على أن الذي يثير المناقشة حقا، هو الفصل الذي استحدثه ما بين العلمانية والليبرالية، وهو فصل تعسفي، في تقديرنا، ذلك أن المسيرة التاريخية لليبرالية والعلمانية الغربية تؤكد عدم انفصالها؟ وبالتالي فإنه رغم ما قدمه المفكر من حجج، إلا أن الوصل قائم بين العلمانية والليبرالية والديمقراطية، ينطبق ذلك على التجربة الفرنسية والانجليزية والأمريكية مع اختلاف في الدرجة. ان عملية العلمنة مشروطة بالديمقراطية، وان ما أجراه الكاتب من عملية خلخلة للمفاهيم، لا يغير من النظرية والوقائع في شيء، وهو أن الديمقراطية والليبرالية والعلمنة أمور متلازمة، إن على مستوى التاريخ الغربي، أو على مستوى النظرية السياسية. كما أن المشكلة التي تفرض نفسها على المناقشة، هي عملية الفصل التي أجراها المفكر بين الحرية والديمقراطية «اذ أن منطق الديمقراطية ـ كما يقول ـ في ذاتها لا يفترضها بالضرورة، لأن ماهية الديمقراطية تكمن على وجه التحديد في أنها شكل من أشكال «تنظيم الحكم». فكيف يمكن فصل الحرية عن الديمقراطية؟ ألا تشكل الحرية الأساس الأولي لكل تنظيم ديمقراطي؟ كيف يمكن بلوغ مجتمع ديمقراطي من غير أفراد أحرار؟ أليست قيم الحرية معبرا عنها بحقوق الإنسان، هي التي تشكل اليوم القاعدة الصلبة لكل تأسيس ديمقراطي؟ كيف يمكن الاطمئنان إلى ديمقراطية لا تنتشر فيها ثقافة الحرية والتسامح؟

هذا وقد اتخذ المفكر العربي، بعض المنطلقات النظرية في التصنيف، تحتاج في نظرنا إلى مناقشة، منها على سبيل المثال، تقديره ان نظام الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين يحل محل نظام القوميين والاشتراكيين. نعم، قد يكون الأمر مقبولا بالنسبة لنظام الاشتراكيين، إلا أن نظام القوميين يبدي مقاومة محسوسة، ذلك لأنه يستند مثله مثل خطاب الإسلاميين إلى ركيزة رمزية ليس من السهل ولا من اليسير على الفكر العربي أن يتجاوزها أو أن يقلل من خطورتها، ونعني بذلك اللغة وثقافتها. ولعل من وجوه هذه المقاومة هو قدرة القوميين، الذين خاضوا صراعا مع الإسلاميين، بلغ في بعض مراحله درجة العنف، أن يتحالفوا مع الإسلاميين، من دون أن يدلل ذلك على تحولهم على مستوى الفكري، ولسنا ندري بعد، ما هي حدود التكتيك والاستراتيجية في هذه العملية؟

* استاذ فلسفة في جامعة الكويت.