المسيري: الرحيل الاخير
2008/07/20

المسيري: الرحيل الاخير

سيار الجميل

"الصهيونية تمتلك مضامين خطيرة "
المسيري
مقدمة
كنت قد نشرت قبل سنوات فصلة من كتابي " نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية " والتي خصصتها عن الاخ الراحل عبد الوهاب المسيري .. واليوم وقد سمعت انه قد رحل رحلته الابدية ، اذ توفي فجر يوم الخميس 3 يوليو/تموز 2008 بمستشفي فلسطين بعد صراع طويل مع مرض السرطان، وشيعت جنازته ظهرا من مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر بالقاهرة. وهنا اود ان اشارك في تأبين هذا " الرجل " الذي جمعتني به المعرفة وتباينت عنه في التفكير السياسي .. ويسعدني ان استعيد ما نشرته عنه ، وما وجدته فيه من خصال ومواقف .

المسيري : المفكر والسياسي
هذا المفكر الهاديء والواثق من علمه والمتخصص في القضايا اليهودية والصهيونية الذي يكاد يكون العربي الوحيد الذي اطمئن الي كتاباته الدقيقة بشؤون اليهود وديانتهم بعد العلامة العراقي الراحل احمد سوسه .. ان للمسيري جهوده واعماله المتميزة التي يقف علي رأسها موسوعته الشهيرة التي صرف من زمنه طويلا لانجازها .. يشكّل قيمة عربية لا تقدر بثمن .. وهو صاحب خطاب تحليلي مصري ، وطابعه اسلامي في اخطر شؤون الامة وانه يعرف طبيعة الحركة الصهوينية التي له رؤيتها الخاصة لها اذ يراها تضرب جذورها في التوراة والتلمود والتقاليد الدينية والاثنية معا عند اليهود . انني اعرف الاخ المسيري عالما مفكرا واستاذا باحثا ، ولم اعرفه سياسي بين ركام السياسيين المصريين .. اعرف مكانته في تيار " كفايه " المعارض ، ولكن دوره لم يكن يشغلني ابدا ، بحجم ما تشغلني كتاباته . لقد بقي المسيري طوال حياته منتميا الي الاخوان المسلمين ثم انتمي الي اليسار المصري، وشغل منصب المنسق العام لحركة كفاية، التي تأسست في نهاية 2004 للمطالبة باصلاح ديمقراطي في مصر، وقد تعرض للاعتقال من قبل السلطات المصرية أكثر من مرة .
في يناير 2007 تولي منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) وهي الحركة المعارضة لحكم الرئيس محمد حسني مبارك وتسعي لاسقاطه من الحكم بالطرق السلمية ومعارضة تولي ابنه جمال مبارك منصب رئيس الجمهورية من بعده.
المسيري والصهيونية
لقد نجح المسيري في الكشف عن هياكل داخلية للظاهرة الصهيونية فضلا عن كشفه لابعاد مجهولة من التاريخ اليهودي وخصوصا من الناحيتين الاجتماعية والثقافية . انه يري اليهودية في نطاق معين من التاريخ ، ويري الصهيونية في نطاق معين آخر . يري اليهودية عالما كلاسيكيا شرقيا قديما لم نعد نجده الا في ما تبّقي من تقاليد كنسية وترديد لعبارات تلمودية او توراتية في حين يري ان الصهيونية : ظاهرة غربية استعمارية استيطانية احلالية ، ونجح المسيري كما يري العديد من المحللين والنقاد في تفسير سلوكيات صهيونية متنوعة في دراسته للكلاسيكيات اليهودية التقليدية القديمة . وعليه ، فانه يري بأن الصهيونية ذات جذور غربية ، ولكنها مزركشة بديباجات يهودية مع وجود عبارات غامضة في المضامين لا يمكن حل الغازها بسهولة ! ولكن البعد اليهودي يبدو في معظم الاحيان زخرفي تبريري شكلاني .. استخدم طويلا لاغراض التعبئة التاريخية.

المسيري .. من يكون ؟
لد الاخ الدكتور عبد الوهاب المسيري في دمنهور بمصر عام 1938 ، ونشأ ودرس فيها ثم حصل ليسانس آداب- أدب إنجليزي- في جامعة الإسكندرية 1959م ، ثم حصل علي الماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة كولومبيا Columbia University- بالولايات المتحدة الأمريكية 1964م ثم علي الدكتوراه في الأدب الإنجليزي والأمريكي والمقارن في جامعة رتجرز Rutgers University- الولايات المتحدة الأمريكية 1969م وهو خبير الشؤون الصهيونية بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام حتي العام 1975م . وعمل عضوا في الوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدي هيئة الأمم حتي العام 1979م . وهو - ايضا - أستاذ بجامعة عين شمس وجامعة الملك سعود وجامعة الكويت حتي العام 1989م وأستاذ غير متفرغ بجامعة عين شمس 1989م-حتي الآن . والمسيري هو المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي 1992م-حتي الآن . ايضا عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بواشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية 1997م-حتي الآن .

لقاءان مع الرجل
حتي العام 2001 ، لم التق بهذا الرجل الا مرة واحدة وكان لقاء رائعا عابرا في زمن قصير ولكن كانت له معانيه العميقة عندي وعنده .. كنا نجلس في حفل عشاء رسمي كبير بواحد من فنادق الهيلتون بمدينة العين في دولة الامارات العربية المتحدة .. ولم اكن ادري بأن الاخ المسيري موجود في ذلك الحفل ، فكل مجموعة قد اتخذت لها دائرة معينة واصحابها يتحاورون في امر معين .. فجأة ربت علي كتفي الدكتور وسام فرج ، وقد وقف علي رأسي ليقول لي بأن المسيري كان يبحث عنك ويريد رؤيتك . قلت له : اين هو ؟ قال في مكان ما من هذا الحفل . فسسرت لوجوده ، وفعلا كان الرجل يريد رؤيتي ومتشوق لي ، فتلاقينا وهو يقول لي : انني اعرف كل شييء عنك من خلال متابعتي لاعمالك التاريخية والفكرية ، واضاف : ان ما زاد من شوقي لرؤياك ما حدثتني به طالبتي في الدكتوراه التي اقوم بالاشراف علي اطروحتها في الدكتوراه .. ! استغربت وقلت : من هي ؟ قال : الا تعرف السيدة فاطمة بلقاسم وهي من الجزائر ؟ اطرقت برأسي مستعيدا ذكراها الطيبة ، واجبت ونعم الطالبة النجيبة التي درستها قبل سنوات طوال في جامعة السينيا بوهران . قال : انها اليوم طالبة دكتوراه عندي وطالما حكت لي عنك وعن تجربتك ومحاضراتك وفضلك .. فشكرته علي هذه الرسالة المعنوية الرائعة التي تحمل معاني انسانية عالية المستوي من لدن استاذ فاضل قام كلانا بتأهيل طالبة علم عربية من جيل جديد .. وشكرت لهذه السيدة الجزائرية العربية اخلاصها ووفائها لاستاذها القديم وتمنيت لها كل التوفيق والنجاح . لم يطل اللقاء اذ كان كل مّنا علي سفر ، فذهب كل منا الي سبيله بعد ان تبادلنا العناوين علي امل ان يكون لنا لقاء اخر في يوم من الايام .

اللقاء الثاني
بعد عامين او اكثر تقريبا ، التقيت بالراحل المسيري في دولة الامارات ، وفرح كل منّأ بالاخر ، وكانت لي معه جلسة مطولة في بهو فندق ميراج بالاس بالجميرا ، واخذنا الحديث عن مصر اولا ثم عن متغيرات المنطقة بعد سقوط النظام العراقي السابق .. كان يخشي ان يدلي برأيه بصدد الانقسامات الاجتماعية العربية طائفيا ومذهبيا وتدخلات ايران .. انه يعتقد بأن العدو الحقيقي ( للامة الاسلامية ) اسرائيل ومن وراء اسرائيل .. حدثّني عن عمله الموسوعي عن اليهود واليهودية والصهيونية ، فباركت جهده ، واختلفت الرؤية بيني وبينه عن اساليب التحديث والعلمنة وتجديد المناهج التربوية . لم اجد منه جوابا شافيا عن تجربة تركيا الحديثة . بدا لي ان الرجل قد تعمّق كثيرا في دراسة الصهيونية ، بحيث غطّت علي كل التجارب الاخري في منطقة الشرق الاوسط .

ما الذي اراه في المنهج والتفسير ؟
اقول انني احترم المسيري وتجاربه ومنهجه وتخصصه ، ولكنني قد اخالفه في بعض ما يذهب اليه من تفسيرات ومواقف وآراء بحكم اختلاف الرؤية والمنهج والتفكير .. نعم ، انني احترمه عالما مختصا له جهوده العلمية التي يحتاجها تفكير العرب المعاصر عن اليهودية والصهيونية فكرة وتاريخا وبنية حياة . وربما يسألني سائل : لماذا اذن تختلف مع بعض تفسيراته الفكرية والسياسية ؟ اجيب علي ذلك قائلا : ان ذلك ببساطة شديدة نابع بحكم اختلاف التخصص والمدرسة والتفكير السياسي والاتجاه الفكري فالرجل ليس بمؤرخ ، ولكنه دخل ميدان هذه المعرفة من باب اللغات كمتخصص في الاداب الانكليزية والامريكية .. ثم ان له موقفه من الغرب والتغريب ، وبالتالي انعكس علي رأيه في التحديث والحداثة كفلسفة وضرورة .. وقد اوصله تفكيره الي قناعة تقول بأن الصهيونية واحدة من منتجات الفكر الغربي .
ربما التقي مع جملة تفسيرات تاريخية نشرها المسيري عن اليهودية والصهيونية من الناحية التاريخية وحفرياته النقدية الدقيقة فيها ، ولكنني اختلف معه في بعض مواقفه وبعض تفسيراته التي تتخذ لها في بعض الاحيان طابعا مؤدلجا وسياسيا يخلط فيه الظواهر بعضها بالبعض الاخر من دون ان يستكشف اي قطيعة معرفية او تاريخية بينها ! فمثلا لا يمكنني موافقة المسيري علي ان الصهيونية هي افراز عضوي للحضارة الغربية الحديثة بدليل ان اليهود واليهودية كانت معزولة علي مدي قرون في وحداتها ( = الغيتوات : جمع غيتو ) وان اقسي ما تلقاه اليهود الاوربيين كان علي ايدي الكاثوليك ! كما ولا اتقبل هكذا وبسهولة مصطلح " الحداثة الداروينية " ، اي : الحداثة التي ترمي الي تحويل العالم الي مادة استعمالية توظف لصالح الاقوي مقابل الحداثة الانسانية . ثم انني اختلف مع الاخ المسيري في تفسيره مفهوم العلمانية ، ذلك ان مفهومها واحد لا يتجزأ لظاهرة تاريخية في التاريخ الحديث وسيطرت علي العالم منذ ازمان ، فهي واحدة وليست اثنتان فالمسيري جعلها جزئية وكليانية . انني اعرف بأن العلمانية واحدة لها تعريف واحد يعرفه كل العالم هو : " فصل الدين عن مؤسسات الدولة وليس عن مشاعر المجتمع وتقاليده وطقوسه " !
وماذا ايضا ؟ هل كل المفاهيم والظواهر صهيونية ؟
بما لا اوافق بسهولة في تفضيله تسمية " تفكيكية " لما بعد الحداثة قوله انها ليست منهجا بل استراتيجية يسميها دريدا - كما يقول - بلغة الغنوصية : " استراتيجية بلوغ المستحيل .. " ، ويستطرد المسيري بقوله : ان الاهتمام بالمستحيل جوهر الفاشية كما فعلت الصهيونية " التفكيكية " بتحويل اليهود الي مستوطنين والفلسطينيين الي لاجئين ! اعتقد ان الاخ المسيري يفسر كل مستحدثات الغرب ضمن المناخ الفكري الذي سيطر علي ذهنه وتفكيره عشرات السنين ! وهنا لابد لي ان اقول بأنني اعتبر التفكيكية كأي منهج نقدي عالي المستوي له وسائله وادواته الصعبة وليست نظرية صهيونية . ولم يتوقف المسيري علي هذا حسب ، بل ويربط المسيري بين ما بعد الحداثة واليهودية خاصة المفاهيم القبالية ( = اله اليهود : يهوا ) مطلق ويهودي ! وان مفهوم " تناثر المعني " التفكيكي يشبه شفيرات هكيليم ، وان مفهوم " التمركزحول المنطوق" هو صدي الثنائية الحاخامية المتضاربة واكثر التفكيكيين من اليهود بسبب تجربة النفي والاحلال والغربة ولكنهم كانوا وما زالوا من المنبوذين !! ولم يقتصر علي ذلك ، اذ يعتبر اطروحات ما بعد الحداثة الفلسفية الامريكية : نهاية التاريخ والانسان الاخير لفوكو ياما وصراع الحضارات لهانتنتغون دعوات امبريالية وايديولوجية النظام العالمي الاستعماري الجديد . وقد رجحت احداث 11 سبتمبر من كفة هانتيتغتون علي فوكو ياما بحرارته المشميانية التي تعلن انتهاء التاريخ والجدل وبدالية الفردوس الارضي والتاريخ الطبيعي . والطبيعي هنا اميركي ورغم تناقضهما فهما يشتركان في الغاء التاريخ والغاء الانسان كما الغي بعد قتل سلفهما نيتشه الاله من قبل .
وأخيرا : ورحل المسيري رحلة نهائية !
انني اذ اكتب هذا " المقال " لمناسبة الرحيل الاخير للاخ الاستاذ عبد الوهاب المسيري ، ليس لي الا ان اقف وقفة اجلال واكبار امام مفكر اخلص لمبادئه ، وامام عالم اوفي بمنهجه ، وامام استاذ تخرج علي يديه العشرات بل المئات من الشباب . لقد كان الراحل الفقيد يخطو نحو السبعين وقد ابتلي بمرض السرطان الذي صارعه بقوة ، فغلبه في اخريات ايامه ليصبح شبحا ، ثم يتوفاه الله فكان فقيدا لاصدقائه وزملائه وطلبته وكل الذين تابعوا كتاباته واهتماماته .. كما افتقدته كل الجماهير ، رحم الله المسيري رحمة كبيرة واسكنه فسيح جنانه .

Azzaman International Newspaper - Issue 3052 - Date 21/7/2008

جريدة (الزمان) الدولية - العدد 3052 - التاريخ 21/7/2008

AZP09


الاولي
اخبار
الف ياء
اغلبية صامتة
مقالات و كتب
رياضة
قبل الاخيرة
الاخيرة

PDF PAGES

Editor in Chief   Saad Albazzaz
عربية يومية دولية مستقلة
تصويت
ما الذي سيحصل في العراق اذا طبق قانون الاقاليم؟
استقرار العراق
انتهاء العنف
تفتت العراق
انهيار الامن