Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الوسطية.. مشروع نهضة حضارية (2)

 

 

رفيق حبيب

إسلام أونلاين

26 أغسطس 2008

 

Image
الدكتور رفيق حبيب
عندما نعرف الحضارة الإسلامية بأنها حضارة الوسط، ونقصد من ذلك أنها حضارة التكامل بين الروح والجسد، ورفض الثنائية أو التناقض بينهما، عندئذ تصبح الأمة الإسلامية كلها تنتمي لهذه الحضارة الوسطية، ولكن عندما نتكلم عن الوسطية بوصفها مشروعا حضاريا فنحن نتكلم عندئذ عن فعل النهضة داخل الحضارة الإسلامية، حضارة الوسط، وبنفس المعنى فإن كل فرد في الأمة ينتمي للحضارة العربية والإسلامية، والمسلم هو من ينتمي للعقيدة الإسلامية، كما ينتمي للحضارة الإسلامية، والمسيحي من أبناء أمتنا ينتمي للعقيدة المسيحية، كما ينتمي للحضارة العربية والإسلامية.

ولكن في المقابل يمكن أن نعرف الإسلامي بأنه من يتبنى مشروعا للإصلاح والتغيير من داخل المنظومة الحضارية الإسلامية، وهو من يؤمن بأهمية تطبيق النموذج الحضاري الإسلامي في المجال العام والنظام السياسي والاجتماعي.

وبهذا يكون الإسلامي هو من يتبنى المشروع الإصلاحي الحضاري الإسلامي، وكذلك الوسطي، فهو الإسلامي الذي يتبنى الخيار الوسطي في المرجعية الحضارية الإسلامية، ويحوله إلى مشروع للإصلاح والتغيير والنهضة.

نقصد من هذا أننا ننتمي جميعا لحضارة الوسط، ومشاريع التغيير الجذري والعنيف تنتمي أيضا لحضارة الوسط، ومشاريع التغيير المتشددة، أو التي تميل للتطرف، تنتمي أيضا إلى حضارة الوسط، أعني الحضارة الإسلامية.

ولكن الوسطية هي مشروع آخر ينتمي أيضا لحضارة الوسط، فهي مشروع للنهوض من خلال الحفاظ على ميزان الوسطية في حضارة الوسط؛ أي أن الوسطية في تصورنا هي محاولة للنهوض من خلال الحفاظ على السمات الأساسية والجوهرية لحضارة الوسط الإسلامية.

ويحتاج الأمر لبعض التوضيح، فنحن نعرف الحضارة الإسلامية الوسطية بأنها تقوم على التوازن بين الروح والجسد، وتنظيم العلاقة بينهما بصورة تنفي التعارض، على قاعدة الالتزام بأحكام الدين كوسيلة أساسية ونهائية؛ لإزالة التعارض بين الروح والجسد، وتحويل تلك الثنائية إلى كيان واحد، هو الإنسان الذي يبغي الكمال، أي يتوق للاقتراب من الكمال الذي حددته الرسالات السماوية، وبهذا تصبح الحركة الوسطية هي محاولة للحفاظ على هذا التوازن والتكامل خلال عملية الإصلاح المجتمعي والسياسي وعملية الإحياء الديني.

فالوسطية هي اختيار حركي وفقهي وفكري داخل حضارة الوسط الإسلامية، وهي ليست مجرد حركة، ولكنها في تصورنا الحركة التي تقود للنهضة؛ لأنها محاولة لاكتشاف أهم نقاط القوة في الحضارة الإسلامية، وتحريك نقاط القوة في أي حضارة هو بداية استعادتها لنهضتها وقوتها وقدرتها على مقاومة الهيمنة الخارجية، والتردي والتدهور الداخلي.

الإفراط دفاع والتفريط استسلام

حتى نكتشف طريق الوسطية في حضارة الوسط الإسلامية علينا معرفة بعض الاتجاهات الأخرى لنعرف من خلالها خيار الوسطية، ففي كل حضارة يظهر التطرف في أكثر من اتجاه، والتطرف في عمومه، يمثل خيارا وقتيا أو مرحليا؛ لأن التطرف يعني البعد عما هو شائع في الحضارة عبر معظم تاريخها وفي معظم أماكنها، أي أن التطرف هو البعد عما هو شائع في معظم الزمان ومعظم المكان.

وقد يكون التطرف أيضا هو استدعاء لموقف في غير زمانه أو غير مكانه، أو تشدد في غير موضعه، أو مرونة في غير موضعها، أي اختلال في تقييم الواقع، وتحديد الموقف منه.

والتطرف في النهاية يمثل فعلا لا يؤدي إلى تحقيق الغايات العظمى لقيم ومبادئ الحضارة، فهو محاولة قد تؤدي إلى الخروج من قيم الحضارة، أو تؤدي إلى تعظيم الجمود والركود الحضاري.

فالتطرف في غالبه رد فعل على الواقع، ولكنه رد فعل غير مبادر، لا يستطيع تغيير الواقع، فيقع أسير الواقع، أو يقع في الانغلاق ليحمي نفسه من الواقع.

لهذا نتصور أن الإفراط هو نوع من حماية الذات، وهو تماد في التدين، أو تزيد في التدين، يهدف أساسا لحماية الذات الحضارية من الواقع المحيط بها، ولكن هذا الإفراط، والذي قد ينجح في حماية الذات من الأخطار التي تهدد هويتها وقيمها، لا ينجح في الخروج بالأمة من حالة التراجع الحضاري إلى حالة النهضة، بل يضع الأمة داخل إطار من التشدد يحميها، ولكنه في الوقت نفسه يمنعها من الحركة والحراك، وبالتالي يمنعها من فعل النهضة.

وفي المقابل نجد أن التفريط هو نوع من الاستسلام للواقع بقدر ما، وهذا الاستسلام ينتج من عدم القدرة على مواجهة الواقع، ومن الرغبة في تسيير شئون الحياة رغم الواقع الصعب، ونجد هنا توجهات تميل إلى قبول قدر من الواقع الغريب عن هويتنا وحضارتنا، حتى تستطيع من وجهة نظرها الحفاظ على الجوانب الأخرى التي تميز حضارتنا، واتجاهات أخرى تحاول جعل حضارتنا متصالحة مع الأوضاع المفروضة علينا، حتى يمكن التكيف مع الواقع.

 وهنا تغيب الحضارة بوصفها إطارا مرجعيا ليصبح الواقع هو الإطار المرجعي، الذي تعرف حضارتنا وفقا له، وفي كل الحالات سنجد أن اتجاه التفريط يحقق قدرا من التكيف الوقتي مع الواقع، ولكنه قد يخرج تدريجيا أو نسبيا عن القيم والمبادئ العليا لحضارتنا، أي يفشل في تحقيق الغايات النهائية لهويتنا الحضارية.

هنا تصبح الوسطية هي استعادة الهوية الحضارية والدينية للأمة، لا لتحافظ على نفسها من الواقع المحيط بها، بل لتغير الواقع ليعبر عن قيمها ومبادئها، وتصبح الوسطية هي محاولة للتعايش في الواقع لإصلاحه، وليس للتكيف معه.

فالوسطية إذن هي استعادة هوية الأمة والالتزام بها دون إفراط أو تفريط، وهي موقف لإصلاح الواقع دون إفراط أو تفريط أيضا.

ولهذا نعتبر الوسطية مشروعا يقوم على التمييز بين الثوابت والمتغيرات في انتمائنا الحضاري والديني، بحيث لا يتم التمادي في الثوابت، والذي هو نوع من الإفراط، ولا يتم تعظيم المتغير على حساب الثوابت، والذي هو نوع من التفريط.

الوسطية بين الثابت والمتغير

نتصور أن الثوابت هي القيم العليا والغايات النهائية، والمتغيرات هي الوسائل والأدوات والأنظمة والقواعد التي تستخدم لتحقيق الغايات النهائية، والقواعد التي لا تقبل التغيير هي الأحكام الدينية الجزئية، والتي جاءت بنصوص قطعية الدلالة والثبوت، فإذا قلنا إن حضارة الوسط الإسلامية تقوم على قيمة العدل، بوصفها القيمة المركزية المنظمة للحياة، وبوصفها قيمة مطلقة، بهذا تصبح غاية النهضة الإسلامية هي تحقيق النظام العادل، فإذا مال اتجاه لتحقيق هذا النظام بصورة مستمدة من التاريخ كما هي، كان ذلك تثبيتا لجانب متغير، وإذا رأى البعض أن العدل بمفهومه المطلق لا يمكن تحقيقه واستبدله العدالة النسبية به، كان ذلك تغييرا لثابت من ثوابت الحضارة.

لهذا نقول إن الوسطية هي عملية جهاد مع النفس ومع العقل ومع الواقع؛ لأنها محاولة مستمرة للإصلاح، ومحاولة مستمرة للتمسك بطريق الوسطية، ومحاولة مستمرة للتمييز بين الثابت والمتغير.

وعبر تجربة الإصلاح، والتي يقوم بها من ينتمي للوسطية كمشروع للإصلاح والنهضة، سوف نجد المسار يصحح نفسه تدريجيا باكتشاف ما اعتبر ثابتا وهو من الجوانب المتغيرة.

وسنلاحظ في الحضارة الإسلامية خاصة أن الاتجاهات الوسطية تتحرك في موجات تميل هنا أو هناك أحيانا، وهي في الواقع تحاول تحقيق توازنها الداخلي، والتوازن بين الثابت والمتغير، والتوازن بين التعايش في الواقع وإصلاحه.

التقليد والتجديد

نتصور أن الوسطية بوصفها مشروعا لنهضة الحضارة العربية الإسلامية تواجه العديد من التحديات، ففعل النهضة هو فعل تطوير وإصلاح وتغيير لمختلف جوانب الحياة، من أجل بناء واقع جديد.

وفعل النهضة هو بناء جديد لانتماء أصيل، فإذا كانت الحضارة الإسلامية كغيرها من الحضارات تقوم على منظومة قيم أساسية تمثل جوهر الحضارة، فالنهضة الحضارية هي بناء جديد يعبر عن تلك القيم، هنا تظهر ضرورة التجديد الحضاري، بوصفها العملية الأساسية لتحقيق النهضة.

وفي المقابل نجد أن الاتجاه التقليدي، ونعني به تقليد السوابق الحضارية، يعرقل فعل النهضة، وأحيانا كثيرة يكون تقليد السوابق الماضية نوعا من الحفاظ على القيم الأصيلة، ولكن هذا التقليد يدخلنا في عملية استعادة الهوية والحفاظ عليها، أي الدفاع عن الهوية في قالب جامد.

والاتجاه التقليدي، أي تقليد السلف، يمثل مرحلة من مراحل الجمود الحضاري، وقد يمثل مرحلة بداية استعادة الهوية، أو مرحلة الدفاع عن النفس تجاه الغزو الثقافي والحضاري الخارجي، ولكن الاتجاه التقليدي لا يستطيع تحقيق النهضة؛ لذا تصبح عملية التجديد هي المحرك الفاعل لفعل النهضة، والمحك الأساسي لنجاح عملية التجديد الحضاري، يتمثل في القدرة على تحقيق القيم الحضارية الأصيلة بطرق جديدة، تكون أفضل وأنجح من أي طرق استخدمت في الماضي.

ونتصور مثلا أن التوصل إلى تصور عن النظام السياسي الذي يحقق العدل بوصفه القيمة العليا في المنظومة العربية الإسلامية، ويحقق الشورى بوصفها القيمة المهمة التي غابت عن جزء كبير من التاريخ العربي الإسلامي، يعد خطوة مهمة لتحقيق نموذج سياسي جديد يقدر على تحقيق تطلعات الأمة، ويحقق لها التقدم في مختلف الميادين.

وهنا يصبح من الضروري التنبيه على خطورة نوع آخر من التقليد، وهو تقليد الآخر، خاصة تقليد الآخر المتقدم، فلا يمكن أن نحقق مشروعا للنهضة يعتمد على تقليد الغرب في مشروعه السياسي أو في نظمه وقوانينه.

والتقليد هنا يختلف عن التعلم والاقتباس، فالأدوات الديمقراطية مثلا تمثل عناصر مهمة يمكن أن تحقق لنا أنسب وسيلة لاختيار الحاكم ومساءلته، وأنسب وسيلة للتداول السلمي للسلطة، ولكن علينا التنبيه أن فكرة استيراد أدوات العمل الديمقراطي كما هي ثم تطبيقها، دون النظر في كيفية تطويرها لتناسب طبيعة مجتمعاتنا، قد يؤدي إلى عدم فاعلية النظام الديمقراطي في تحقيق الهدف منه، بهذا يصبح التجديد ضروريا، والبعد عن تقليد الآخر أو السلف مهما.

 فعملية التجديد هي حركة نحو المستقبل تقوم أساسا على القدرة على الابتكار والبحث عن طرق وأساليب جديدة؛ مما يؤدي في النهاية إلى تحقيق إنجاز جديد، فأي حضارة تنهض، كما حدث في كل تاريخ البشرية، تكون مصدرا لرؤى وتطبيقات وإنجازات جديدة، ولم تنهض حضارة بأن قلدت غيرها، ولكن لم تنهض حضارة أيضا دون أن تستفيد من الحضارات الأخرى.

لهذا نرى أن الوسطية هي الميزان الذي يجعلنا نستفيد من تجاربنا وتجارب الآخرين، وفي نفس الوقت نجدد دنيانا من خلال مرجعيتنا العليا، الدينية والحضارية.

المعركة المزدوجة

تلك هي معركة مشروع الوسطية، مواجهة التردي الحضاري الداخلي، ومواجهة الاستبداد السياسي، ومقاومة العدوان الخارجي، ومواجهة مشاريع الهيمنة الخارجية ومشاريع التغريب والعلمنة.

لهذا نرى أن مشروع الوسطية، هو معركة من أجل النهضة، وسنلاحظ حجم العداء لهذا المشروع من كل القوى التي تريد الحفاظ على الواقع الحالي؛ لأنه ببساطة يملك بديلا آخر للمستقبل.

واتجاه الوسطية في حضارتنا يقوم على إنهاض جوهر حضارة الوسط، أي أنه مشروع يقوم على الإحياء الحضاري والديني، وهو بهذا مشروع تكاملي، يربط بين إحياء الدين وإصلاح السياسة والمجتمع، وتلك خصيصة مهمة؛ لأن بعض الحضارات تنهض من خلال تطوير الجانب المادي فقط، وتحقق نهضة مادية متقدمة.

والبعض قد يتصور إمكانية تحقيق النهضة العربية الإسلامية من خلال الإحياء الديني فقط، ولكن الوسطية والتي تقوم على الحفاظ على التوازن الداخلي لحضارة الوسط الإسلامية بوصفها حضارة الدين والدنيا، تمثل مشروعا متكاملا للنهوض الروحي والمادي معا.

ولهذا ستظل الوسطية هي مشروع للمستقبل والنهضة، وستظل تواجه أشد التحديات.

هل تنتصر الوسطية؟

يمثل تيار الوسطية الإسلامية عنوانا مهما في الحركة الثقافية والفكرية والدينية والسياسية، وله العديد من الرموز والحركات المنتمية له.

وتلك بادرة تؤكد نمو تيار الوسطية من داخل المنظومة الإسلامية؛ ليقدم نفسه بوصفه مشروعا للإصلاح والنهضة، ولكن مصير هذا التيار وما حققه وسيحققه يرتبط بالمناخ المحيط به، وكيفية تعامل المنتمين لتيار الوسطية مع التحديات التي تواجه مشروع النهضة الإسلامية.

فإذا عرفنا تيار الوسطية بما يتميز به من اعتدال في المنهج، فسنعرف بداية أهم التحديات التي تواجه مشروع النهوض الوسطي؛ لأنه يواجه في الواقع قوى مسلحة تتمثل في أنظمة الحكم الاستبدادي في الدول العربية والإسلامية، كما يواجه قوى عدوانية مسلحة تتمثل في قوى الهيمنة الخارجية المتمثلة في المشروع الأمريكي الصهيوني للهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية، وتلك أول التحديات.

وإذا عرفنا تيار الوسطية بأنه التيار الذي يحاول الحفاظ على تكاملية المشروع الإسلامي، من حيث ما يمثله من مرجعية شاملة للحياة، وما يتطلبه ذلك من العمل على تحقيق الإصلاح الشامل، نكون بصدد تحد آخر يواجه تيار الوسطية.

وإذا عرفنا تيار الوسطية بأنه محاولة للتوازن بين الأصالة والتجديد، وبين الثابت والمتغير، وبين القديم والجديد، وبين المحافظة والتغيير، فنكون قد عرفنا سببا آخر يجعل التحديات التي تواجه تيار الوسطية تمثل في الحقيقة تحديات الخروج من التردي الحضاري إلى النهضة الحضارية، ففعل النهضة يمثل عملا يتجاوز الواقع لواقع أفضل؛ ولذا فهو تحد لكل واقع التردي والانهيار والاستعمار من أجل التقدم والنهضة والاستقلال.

ولكن إذا أضفنا لكل هذا العديد من المؤشرات التي تؤكد استهداف تيار الوسطية من قبل القوى الخارجية التي تريد الهيمنة على المنطقة ومن قبل القوى الحاكمة في معظم البلاد العربية والإسلامية لما يمثله من قدرة على حشد الأمة داخل مشروع واحد للنهضة، سندرك حجم ما يواجهه تيار الوسطية.

والحقيقة أنه يواجه تحديات أكبر من تلك التحديات التي تواجه الحركات الإسلامية المسلحة، والتي تستخدم السلاح بدلا من السياسة والعمل المجتمعي والدعوي في عملية التغيير، أي التي تستخدم السلاح في مواجهة الأنظمة الحاكمة، وتستخدمه ضد أعداء الأمة، ولكن خارج ميدان المواجهة العسكرية، أي خارج الأرض الواقعة تحت الاحتلال العسكري.

فالمواجهة المسلحة للقوى التي تعترض طريق استعادة الأمة لهويتها وحضارتها ومرجعيتها الدينية تمثل حرب استنزاف بين طرفين.

وتتصور القوى الخارجية المهيمنة، أي الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني، والقوى المستبدة الداخلية، أي الأنظمة الحاكمة، أن تلك الحرب هي فرصتها في شن عملية تدمير شامل لكل المشروع الحضاري الإسلامي؛ لأنها تملك قوة عسكرية ضخمة إذا قورنت بالقوة التي تملكها الحركات المسلحة.

كما أن الحركات المسلحة التي تنخرط في صراعات داخلية بين أبناء الأمة، وتستخدم السلاح في معارك داخلية، تفقد التأييد الشعبي لها وتنزلق إلى الحروب والنزاعات الأهلية، والتي ترى فيها قوى الهيمنة الخارجية وقوى الاستبداد الداخلي فرصة لتعميق النزاعات الداخلية لتحمي نفسها من أي مواجهة معها.

أما تيار الوسطية، والذي يتبنى الإصلاح السلمي داخليا، والمقاومة المسلحة في وجه العدو على الأرض المحتلة، فيحقق قدرا واضحا من التأييد الجماهيري، مما يجعله تيارا شعبيا.

وهنا تبرز مشكلة تيار الوسطية، في عين أعدائه؛ لأنه تيار قادر على الوصول للحكم من خلال الديمقراطية وعبر صناديق الانتخاب؛ لذلك يصبح هذا التيار هو البديل الشعبي الذي ينمو يوما بعد يوم، مما يؤهله لقيادة الأمة في نهاية المطاف، ويؤهله بهذا لتحقيق مشروع النهضة، والذي سيكون نهاية للاستبداد والفساد الداخلي، ونهاية لمشاريع الهيمنة الخارجية، ونهاية للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين.

مأزق المنهج السلمي

أول مأزق لتيار الوسطية والذي يواجه كل هذه التحديات قد يأتي من منهجه، فهذا التيار يقوم على النهج السلمي، ولكن حدود سلمية العمل قد تقيد حركة تيار الوسطية، وتحرمه من القدرة على الدفاع عن الأمة وعن مشروع النهضة، فالنهج السلمي يجب ألا يكون إلا نهجا نضاليا وكفاحيا، يعمل على مواجهة الواقع وصد سلبياته، والدفع نحو تغييره، والنهج السلمي النضالي يحتاج لأدوات وأساليب تجعله فاعلا في مواجهة الحصار الذي يتعرض له تيار الوسطية.

وتأسيس إستراتيجية للنضال السلمي أمر ضروري لجعل سلمية المنهج ليست على حساب قدرته على التأثير.

ويتبع ذلك ضرورة الربط بين المنهج الإصلاحي المتدرج وبين القدرة على تحقيق إنجازات على أرض الواقع، فمنهج تيار الوسطية يعتمد على التدرج، وهي سمة لعملية بناء النهضة من داخل الأمة، وهي سمة ضرورية؛ لأن فعل النهضة يبدأ من القاعدة للقمة، أي يتأسس على قاعدة الأمة أساسا، ولكن التدرج يضع تيار الوسطية في تحد؛ لأن القوى المعادية للأمة، والتي تسيطر على مقدراتها، تحاول هدم كل ما يتحقق على أرض الواقع من وعي بالهوية، ورغبة في النهوض الحضاري؛ ولهذا يواجه التدرج في عملية الإصلاح عملية تدرج أيضا معاكسة تحاول هدم كل ما يحدث من تغيير على أرض الواقع.

مأزق غلبة التجديد

لأن تيار الوسطية يقوم من أجل تحقيق النهضة، والنهضة فعل يقوم على التجديد، فإن أحد مشكلات التجديد الحضاري هي تجاوز أصول الحضارة بعملية تجديد تخرج عن إطارها، فالتجديد الذي يتجاوز قيمة أساسية من قيم الحضارة العربية الإسلامية، يخرج عن منظومة قيم الحضارة، ويخل بتوازنها الداخلي، ويفقدها اتساقها الداخلي.

وعملية التجديد في حد ذاتها نوع من المغامرة الفكرية والثقافية والحركية؛ ولذا فهي عملية تحتاج للمراجعة، كما تحتاج للعمق الحضاري، حتى تتأسس على أسس قوية مستمدة من منظومة القيم الحضارية.

وعلى سبيل المثال من يرفض فكرة حقوق الإنسان؟ ولكن مسألة قبول نظريات حقوق الإنسان الغربية كما هي - كنوع من تأكيد التجديد الحضاري والمعاصرة - يصل بنا في النهاية إلى ترويج نظرية عن حقوق الإنسان غير مستمدة من قيم الحضارة العربية الإسلامية، بل مستمدة من قيم الحضارة الغربية، وبهذا نصل إلى فكرة هي ليست تجديدا بل تقليدا.

وإذا كنا نرى أن التقليد النمطي لنماذج من تاريخنا يتعارض مع فعل النهضة، فإن تقليد الحضارات الأخرى يتعارض مع فكرة التجديد الحضاري، فالتجديد الحضاري هو نوع من تكوين نظم ومفاهيم وأنظمة جديدة ومناسبة للعصر، ولكنها في نفس الوقت تمثل أدوات لتحقيق قيمنا.

فالقول بأن شكل الدولة يتغير عبر الزمن قول صحيح، ولكن إذا وصلنا للمرحلة التي نتصور فيها أن كل أشكال النظم السياسية تصلح لنا، وأن كل نماذج الدولة تصلح لنا، وأنه يمكننا استيراد نموذج دولة من الخارج لنستخدمه دون إدراك لمنظومة القيم الحاكمة لحضارتنا، والتي تحدد نظاما للواجبات والحقوق ينبع منه تصور محدد لتوزيع الأدوار والمسئوليات بين الأمة والدولة، نكون بذلك قد جعلنا من عملية التجديد عملية تقليد أيضا.

معيار عملية الاقتباس والتعلم

من الضروري التأكيد على أهمية امتلاك معيار لكل عمليات الاقتباس والتعلم من الآخر؛ لأن هذا أحد مآزق علمية التكيف مع الواقع، أو عملية التطوير التي تهدف للتكيف مع العصر، فإذ بها تتكيف مع معايير الحضارات الأخرى.

والعصر ليس هو الغرب، بل هو الزمن الراهن بكل متغيراته وعناصره، وبكل متطلباته واحتياجاته ولوازمه، وعندما نستفيد من الحضارات الأخرى، خاصة الحضارة الغربية المتقدمة، نحاول التوصل لخلاصة ما وصل له الإنسان من معرفة وتجارب، نستطيع أن نبني عليها مستقبل نهضتنا المنشودة، ولكن إذا تحولت معايير النظام الغربي إلى معايير نقيس عليها تقدمنا، سقطنا مرة أخرى أسرى لعملية تقليد الحضارة المتقدمة.

والبعض يجعل من النموذج السياسي الغربي، أي الدولة القومية الديمقراطية العلمانية، معيارا لأي فكر أو تصور سياسي، وتختلط عناصر النموذج الذي نتعلم منه، فنخلط بين القيم والأدوات، ونحاول تقليد النموذج كاملا، وبهذا نعيد إنتاج حضارة الآخر، وكل عملية لتقليد حضارة الآخر وإعادة إنتاجها هي نوع من التقليد، والتقليد فعل مضاد لفعل النهضة.

إلا القيم

القيم تميز الحضارات عن بعضها البعض، وهي صلب بناء الحضارة، والحضارة العربية الإسلامية، أي حضارة الوسط، تمثل نموذجا متميزا من القيم، يختلف عن قيم الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات، وأي عملية تجديد تستفيد من التجارب الأخرى ولكنها تتمادى فتنقل لنا قيما من حضارة مغايرة، هي عملية تقليد وليست تجديدا، وهي عملية تساهم من حيث لا تدري في التغريب.

وإذا اخترق الفكر الوسطي من قبل عملية التغريب فأصبح قناة تسهل وصول ونشر بعض القيم الغربية في مجتمعاتنا، فسوف تتحول المنظومة الوسطية إلى كيان غير متسق مع نفسه، بدرجة تجعلها تفشل في تحقيق الإصلاح والنهضة المنشودة.

فالديمقراطية التي نحتاجها مثلا هي تلك التي تحل مشكلة اختيار الحاكم، وتحقق مبدأ أن الأمة مصدر السلطات، وهي المشكلة التي تكررت كثيرا في التاريخ العربي الإسلامي، وبهذا تصبح الديمقراطية وسيلة لاختيار الأمة للحاكم.

والدولة التي نحتاجها هي التي تحل قضية المؤسسية بصورة تجعل الحكم عملية جماعية في الأساس، ويخضع للمساءلة والمحاسبة من الأمة، وبهذا تكون الدولة أداة لتحقيق النظام المؤسسي القائم على الدستور والقانون، ولكن الديمقراطية في الغرب، وأيضا الدولة، لها وظائف تحققها من أجل الوصول إلى قيم بعينها، فنجد النظام الليبرالي العلماني يقوم من أجل تحرير المجال العام من سلطة الدين، أو تحريره من وجود الدين.

ولكن المنظومة الحضارية الإسلامية تقوم على تنظيم المجال العام من خلال أحكام الدين، وهذا فرق جوهري، إذا ضاع منا في عملية التجديد الحضاري، ضاعت القيمة الأساسية لحضارة الوسط الإسلامية.  

الوسطية التكاملية

أي مرجعية حضارية هي مرجعية شاملة، والقول بأن الحضارة الإسلامية هي حضارة شاملة لكل شئون الدين والدنيا، هو أمر مفهوم؛ لأن الحضارة الغربية تمثل أيضا رؤية شاملة، والمنظومة الليبرالية تمثل رؤية شاملة، ولكن الذي يميز الحضارة الإسلامية ليس شموليتها ولكن تكاملها؛ لأنها منظومة تقوم على التكامل بين الدين والدنيا، وبين الروح والجسد.

وهذا المنحى الحضاري التكاملي، يمثل صلب قوة الحضارة العربية الإسلامية، أي حضارة الوسط، وحضارة العالم القديم.

وتيار الوسطية الإسلامية يواجه تحدي الانزلاق إلى قدر من الفصل بين المجال السياسي والديني بسبب محاولات البعد عن بعض الإشكاليات التي يثيرها نموذج الدولة القومية الديمقراطية العلمانية، ومن تلك الإشكاليات:

قضية التمييز بين المختلفين في الدين، فالنظرة العلمانية ترى أن أي وجود للدين في المجال العام يمثل تمييزا ضد أي مختلف في الدين، مما يؤدي أحيانا إلى محاولة الحد من مرجعية الدين في النظام السياسي كنوع من التوفيق بين المرجعية الإسلامية وقواعد المساواة في الفكر الغربي العلماني، وتلك في الحقيقة مجازفة كبرى، أولا لأنها تؤكد من حيث لا تريد أن وجود الدين في المجال العام يؤدي إلى التمييز، بما يعني أهمية جعل النظام السياسي ومن ثم الدولة محايدة دينية.

وثانيا تمثل تلك الأفكار ضربا لفكرة المساواة في منظومة تقوم على المرجعية الدينية، وكأن تحييد الدين يؤدي إلى المساواة الكاملة، أو أن الدين ضد المساواة، والحقيقة أن المنظومة الإسلامية الحضارية تقوم على المساواة بين الناس، والحفاظ على تميز عقائدهم في الوقت نفسه، فهي منظومة تحافظ على التوازن بين الاختلاف في العقيدة، والاشتراك في الحياة، والمطلوب من عملية التجديد الحضاري، هو تحقيق أفضل النماذج التي تحقق تمسك كل جماعة دينية بمرجعية عقيدتها، وتمسك الأمة كلها في المجال العام بقيمها المشتركة، والتي تعبر عن المشترك الديني للمسلمين، والمشترك الحضاري بين المسلمين وغير المسلمين.

انتصار الوسطية

تنتصر الوسطية بوصفها بديلا حضاريا لتحقيق النهضة بقدر ما تحمي نفسها من التفريط، أي محاولات التعايش مع الواقع، والتي تمس جوهر خصوصية الحضارة الإسلامية، وبقدر ما تحمي نفسها من الإفراط، والذي يجعلها تتقوقع للدفاع عن هوية الأمة وتخشى التجديد.

وتنتصر الوسطية كمشروع للنهضة بقدر ما تجعل من الإصلاح السلمي نضالا سياسيا ومجتمعيا يستطيع التصدي لكل ما يعادي الأمة وهويتها وحضارتها.

وتنتصر الوسطية أيضا بقدر ما تكون مشروعا للمقاومة ضد كل محتل لأراضي الأمة العربية والإسلامية.

فالوسطية هي تيار يعمل من أجل النهضة ويواجه أشد التحديات، ولكن فشل هذا التيار هو فشل للأمة كلها، فالوسطية تحمي الأمة من تطرف يحميها ولا ينهض بها، ومن تجديد يخرجها من هويتها، ولا ينهض بها أيضا.


  كاتب وباحث مصري مهتم بالشئون الإسلامية