Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 الإصلاح من المدخل الكلامي

 

 

 

 

 

 جريدة الإتحاد الإماراتية

7 ديسمبر 2008

د. السيد ولد أباه

عبد النور بدار فيلسوف فرنسي مسلم شاب (تلقى الإسلام من والدته التي اعتنقته عن طريق المتصوفة)، أصدر مؤخراً كتاباً مثيراً للجدل بعنوان "الإسلام من دون خضوع :من أجل وجودية إسلامية ". يريد "بدار" في كتابه أن يؤسس لنزعة إنسانية جديدة في الإسلام تنسجم مع خط "الإسلام الذاتي"، الذي خصص له كتاباً آخر من قبل هو نمط من السيرة الذاتية الفكرية.

والفكرة الرئيسية التي يدافع عنها "عبدالنور بدار"، هي أن عبارة "إسلام" ارتبطت في الأذهان بمقولة الاستسلام والخضوع، مما انعكس كلامياً وأيديولوجياً في أخلاقيات الخنوع والانغلاق، في الوقت الذي يمكن أن نقرأ آيات الاستخلاف من حيث كونها تؤسس لإسلام الحرية والكمال الإنساني، أي قيم الذاتية التي حدت منها السلطات العصبية والمذهبية التي حولت الدين إلى نسق اعتقادي مقنن، في الوقت الذي هو تجربة إيمانية فردية حرة.

قد لا نوافق عبدالنور في كل آرائه التي يطرحها بصفته مسلماً أوروبياً معاصراً، يجمع بين هويته العقدية المسلمة والمنظومة التنويرية الحديثة المستمدة من ثقافته الغربية دون إحساس بالتناقض، معتبراً أن "الإسلام الأوروبي "، فرصة سانحة للفكر الإسلامي للتجدد والانفتاح.


المبحث الكلامي، وإنْ كان حقلاً موضوعياً للإصلاح الديني، فإن الفكر الإسلامي الراهن، لم يتمكن من توظيفه في ديناميكية تجديد ونهوض تخرجه من إطار الدراسات الأكاديمية المتخصصة.

فما يهمنا في أطروحة "بدار"، هو التنبيه إلى جانب رئيسي من جوانب النزوع الإصلاحي الراهن، هو ذلك الذي يتعلق بالجانب الميتافيزيقي - الكلامي، أي اعتبار أن الشرط اللازم للإصلاح الديني والفكري في الإسلام، هو العمل على مراجعة بنيته العقدية نفسها من حيث مرتكزاتها المؤسسة (نظرتها للإلوهية والإنسان والطبيعة)، بدل الاكتفاء بالتجديد في القواعد والأحكام الفقهية.

لم يكن الموضوع غائباً تماماً عن الإصلاحيين الأوائل، الذين اكتفوا في الغالب بالتخلي عن العقيدة الأشعرية الذين اعتبروها نزعة مغالية في النقلية النصية، وبالانفتاح على المعتزلة من حيث هم أنصار العقل ودعاة العقلانية والنزعة الإنسانية الحرة. فالإمام محمد عبده لا يخفي انتصاره لنظرية خلق الأفعال ومذهب التحسين والتقبيح العقليين من منظور اعتزالي، وتلميذه مصطفى عبد الرازق، هو من أعاد الاعتبار للفكر الاعتزالي وعرف به، واعتبره الأساس العقدي المطلوب لنهضة الإسلام والمسلمين. ولا يخفي أحمد أمين تعاطفه مع المعتزلة وانتصاره لمواقفهم في موسوعته التاريخية للفكر الإسلامي.

ولا يسجل اهتمام كبير بالمسألة الكلامية لدى الحركات الإسلامية، التي انتهت في الغالب إلى الاقتراب من الأطروحات السلفية الرافضة للتأويل والقول بالرأي في أمور الاعتقاد.

بيد أن الاهتمام بالمدخل الكلامي تجدد في العقدين الأخيرين، من منظور مشاريع قراءة التراث التي برزت لدى العديد من الكتاب الإصلاحيين، الذين انتشرت أعمالهم على نطاق واسع.

ولقد تميز حسن حنفي بمحاولته لإعادة بناء علوم العقيدة في كتابه "من العقيدة إلى الثورة"(5 مجلدات)، الذي تأثر فيه بمنهج حركة "لاهوت التحرر"، التي ظهرت خلال الخمسينيات في الوسط الكاثوليكي بأميركا اللاتينية. وتذهب هذه الحركة المتشبعة بالأيديولوجيا الثورية الماركسية إلى تضمين النشاط العمومي والدفاع عن المضطهدين في صلب المنظومة اللاهوتية .وغني عن البيان أن هذا المنهج رفض بقوة من الفاتيكان (خصوصاً من البابا الحالي الذي اتهم هذا التيار بتحويل المسيح إلى مجرد ثائر متمرد).

فما يريده حنفي هو التأثير بقوة في صلب المنظومة العقدية التراثية لتحويلها من "الانشداد للغيب والسماء" إلى التمسك بالأرض والإنسان، من خلال عملية خلخلة مفاهيمية شاملة، لا ندري كيف تترتب عليها آفاق عملية عينية، بالنظر للانزياح الواسع بين النظر التأويلي للفيلسوف ومسارات التشكل العقدي الجماعية. ولقد ولدت محاولة "حنفي" ردة فعل رافضة في الوسط الإسلامي إجمالاً، بما تضمنته أحياناً من ألفاظ واصطلاحات خرجت عن مألوف الحقل الديني.

وتقترب هذه المحاولة من فكر الكاتب الإيراني علي شريعتي (اغتيل عام 1977 قبيل انتصار الثورة)، الذي كان له تأثير واسع في الساحة الإيرانية، التي تشهد اليوم انتعاشاً ملموساً للدراسات الكلامية. وقد برز في هذا السياق تيار تأويلي باسم "علم الكلام الجديد"، من أهم ممثليه الفيلسوف عبد الكريم سروش، الذي عرف بنظريته "القبض والبسط"، التي تقوم على التمييز بين الدين بصفته نصاً مقدساً، والمعرفة الدينية التي هي خطاب بشري تاريخي، معتبراً أن الشريعة صامتة يستنطقها المؤمنون بحسب سياقاتهم الثقافية والقيمية، مما يفسح المجال أمام القول بالتعددية الدينية، أي التمييز بين الجوهر المعنوي الثابت في الدين والعرضي، الذي يشمل الشرائع الاجتماعية (أطروحة الصراطات المستقيمة). وقد أصبح لهذه النظرية تأثير واسع في الحوزات الدينية، وإن كانت ُتحارب من المؤسسة الرسمية، وترى فيها الوقود الفكري لحركة الاحتجاج الليبرالي الرافضة لنظام ولاية الفقيه.

وفي المقابل، نلمس لدى بعض الكُتاب الإصلاحيين اتجاهاً لإعادة الاعتبار للعقيدة الأشعرية بنفي الاتهامات الموجهة لها في آن واحد من أنصار الاعتزال والسلفية، في مقدمتهم الكاتبان التونسي أبو يعرب المرزوقي، والمغربي طه عبدالرحمن. من هذا المنظور تبدو عقلانية المعتزلة وهماً ما دامت تختزل الوجود في ضرورات الفكر، كما تبدو نزعتها الإنسانية قاصرة بافتراضها سلطة عقلية للقيم يتساوى في الامتثال لها الإله والإنسان. فالعقل الأشعري أقرب للمنهج العلمي الحديث برؤيته الذرية الاسمية ونزوعه التجريبي، وأقرب للفلسفات الإنسانية بمنظوره القيمي، الذي يربط الأخلاق بالذات الحرة لا الوجود العقلي..

والملاحظ أن محمد أركون الذي بدأ دراساته الإسلامية الأولى بنفسٍ أكاديمي يراهن على قدرة العلوم الإنسانية المعاصرة على تجديد الدين وإصلاحه، رجع في كتابه الأخير "الإنسانية والإسلام" إلى المباحث الكلامية من أجل بناء موقف تنويري تحديثي يصالح المسلمين مع عصرهم ، بعد أن يئس من سحر الأبستمولوجيا والدراسات الفلسفية- الاجتماعية الجديدة. إلا أنه لم يتجاوز في الواقع الرؤية الكلاسيكية للاعتزال باستنتاج خلاصة متعسفة من مذهب خلق القران (القول بطابعه البشري النسبي ).

إنما نريد أن نخلص إليه، هو أن المبحث الكلامي، وإنْ كان حقلاً موضوعياً للإصلاح الديني، إلا أن مأزق الفكر الإسلامي الراهن، يكمن في كونه لم يتمكن من توظيفه في ديناميكية تجديد ونهوض تخرجه من إطار الدراسات الأكاديمية المتخصصة، التي هي مجال صناع المعرفة لا صناع الرأي.