Arabic symbol

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

الفلسفة العربية... عوائق التفاعل والتأثير

جريدة البديل

10 سبتمبر 2015

ماهر الشيال

 image

لا يمكننا أن نغض الطرف عن تلك العواقب الوخيمة التي حاقت بالمجتمع العربي جراء غياب الفلسفة، ولا يمكننا أن نعزو ذلك إلى قصور داخلي حدا بها للانزواء بعيدا داخل أروقة المحافل العلمية المتمثلة في أقسامها المهجورة داخل جامعاتنا التي أصبحت تقبع خارج الزمن العلمي.

هناك أيضا أسباب أخرى يعزى إليها هذا الأمر تختص بالمجتمع الذي يشتبه كثيرا في كل ما هو فلسفي، ربما بسبب جنوح نحو التبسيط بما يتماشى مع الذهنية الشعبية المنشغلة دائما بالآني، دون النظر إلى الزمن التاريخي ببعدي ماضيه (الحدث المتقدم والمعنى اللاحق) وببعدي مستقبله (المعنى المتقدم والحدث اللاحق) بحسب أبي يعرب المرزوقي.

قبل أن نحاول البحث عن تلك الأدوار الهامة التي كان من المتوجب على الفلسفة أن تلعبها في مجتمعاتنا العربية، علينا أن نتمهل قليلا لنبحث في أمور عديدة تتعلق بمعوقات حقيقية حالت بينها وبين التفاعل ومن ثم التأثير، فمثلا يعتبر البعض اللغة العربية أداة فلسفية لا تقوم على الجدة، كون الفلسفة في الأصل إغريقورومانية، وأن اللغات خرج العائلة الهندوأوربية لا تستطيع حمل المعنى الفلسفي إلا من خلال الترجمة التي تبتعد بها في الغالب عن مراميها الأصيلة؛ لذلك يرى فتحي مسكيني “أن التفلسف بالعربية تطعيم مضامين إغريقورومانية داخل لغة تقيم خارج انفراج المعنى المحض للعائلة الهندوأوربية”.

إن هذه الإشكالية تتمثل في أن فعل الترجمة للنص الفلسفي إلى العربية، لا بد أن ينطوي على شيء من الازدواجية، نقصد ازدواجية اللغة، وحسب الأصل اللاتيني فإن “مزدوجا تعني -أيضا- ماكرا ومخادعا وخؤونا يخلف الوعد”.

ومما يمكن اعتباره توضيحا لما سبق، وكون اللغة العربية بالأساس لغة غير طيعة لعملية التفلسف، هو تلك الصرامة الواضحة في وضع التعريفات، والفصل الحاد بين المعاني المختلفة، تلك القطعية كما يرى مسكيني، يمكن اعتبارها فعلا معاديا للتفلسف، يبتعد بالنص الفلسفي عن الأبعاد غير اللغوية التي تعتبر بمثابة الشرط الضروري لفهم اللغة.

وإذا كانت هذه المخاطر قد تعلقت جمة بعملية نقل النصوص الفلسفية إلى العربية والتي بدأت منذ أوائل القرن الثالث الهجري على يد الكندي، فيلسوف العربية الأول، وليس انتهاء بموت ابن رشد، آخر فلاسفة العربية في نظر الكثيرين، وإسهامه الأهم في حفظ التراث الفلسفي الأرسطي، واعتبار ذلك من أجل الخدمات التي قدمها العرب للغرب وفق آلان دوليبيرا، الفيلسوف الفرنسي، إذ يقول: “نعم إنِّني أقولها صراحة: لقد لعب العرب دورًا حاسمًا في تشكيل الهوية الفكرية لأوروبا، ولا يمكن لأحدٍ أن يعترض على هذا الكلام إلا إذا أراد أن ينكر الحقيقة، إنَّ النزاهة الفكرية تفرض علينا القول بأن علاقة الغرب مع الأمة العربية تمر -أيضًا- عبر الاعتراف بالإرث المنسي للعرب”.

إلا أن الإشكالية الكبرى ربما تتعلق بمحاولات إنتاج نص فلسفي عربي متجاوز لكثير من العوائق التي أشرنا إليها آنفا وأهمها اللغة، التي يؤكد مسكيني أن تلك النصوص “لم تبارك –كما يبدو- فلسفيا إلا من باب الشفقة فحسب، ليست عملية نقية ولا أصيلة، وإنما هي في كل مرة الثمرة المحرّمة لجهد خفي لمحاولات منفردة وغير متوقعة، في رحم لغة فقدت يناعة التجارب المستجدة للتفكير العظيم منذ زمن بعيد”.

أرى فيما سبق رؤية شديدة التحامل على العربية وفلسفتها والمشتغلين بها؛ غير أنها تحمل فرادة ما تنبهنا إلى فخاخ لا يستطيع المتفلسف العربي تجنبها إذا هو شرع في كتابة نص فلسفي عربي محض لا تصل إليه شبهة الفلسفة الغربية، ولا يقف مقيدا أمام عجزه البادي حيال هيمنة ليست بالهينة، وسطوة -هي في الحقيقة قاهرة- يفرضها نص آخر لا يقبل بالمزاحمة، ولا يرتضي القبول.

وباعتبار أن محنة الفلسفة العربية الكبرى إنما أتت من تغول الديني على الدنيوي فيما يتعلق بمسائل الألوهية والوجود والماهية والحياة ونشأة الكون وغيرها، مما حدا بالكثيرين إلى القول بضرورة فض هذا الاشتباك الحادث نهائيا، إذ لا ضرورة على الإطلاق لجعل الفلسفة والدين قيد المواجهة، كونهما من حيث المدخل متباينين، حيث إن َّ مدخل الفلسفة عقلي (تشككي) بينما مدخل الدين إيماني (يقيني)، ومن ثمَّ فهما حقلان متمايزان لا يصح وضعهما على هذا النحو -لكان من الممكن أن تُدخر جهود كبيرة؛ لتبذل في دفع كلا الحقلين إلى الأمام خطوات واسعة، ولكان ذلك قد خرج بنا من المثلث الذي أنتجته تلك الوضعية غير المناسبة وغير الملائمة لإنتاج فلسفة تكون بمثابة قاطرة لأمتنا العربية، والمقصود بالمثلث هو تلك الفرق الثلاث التي توزع عليها فلاسفة العرب بين توفيقي انتهى إلى التلفيق، والفريق الثاني هو من ارتضى باستقلالية نسبية للنص الفلسفي على مستوى البنية والوظيفة معترفا بهيمنة النص الديني، أما الفريق الثالث فهو الذي رفض الاتكاء على التقية والمراوغة والحذر، وعمد إلى المواجهة جهارًا؛ ناقدًا نقدًا شديدًا، ومتجاوزًا لكل ما هو خارج الإطار العقلي من الصيغ الذهنية، وفي القلب منها الصيغة الدينية، وهذا النوع وإن كان قد وحَّد البنية الفلسفية والوظيفية على نحو واضح، إلا أنَّه قد أوغل في طريق خصومة مُدعاةٍ مع الدين، بحيث بدا -في أحيان كثيرة- هادمًا على نحو صادم.

وبالقطع فإننا لا نستطيع أن نغفل دور السلطة في عزل الفلسفة عن الأدوار المنوطة بها في المجتمع العربي، فمنذ القديم بدأت محاولات الأمراء في احتواء الفلاسفة بغرض استخدامهم في إحكام سيطرة السلطة على مقاليد الأمور، وبالرغم من أن الفلاسفة لا يجنحون -في الغالب- إلى تبني مواقف حدية تجاه الأنظمة، ولا حتى إلى تثوير وعي الجماهير، وربما كان ذلك انحيازا إلى تعميق المفاهيم لديهم للتقدم بهم خطوة إلى الأمام نحو إدراك الحقائق؛ إلا أن ذلك لم يكن مانعا لكثيرين من الأمراء من اضطهاد الفلاسفة والزراية بهم على أبشع ما يكون، ولعل أظهر الأمثلة على ذلك محنة ابن رشد.

وإذا كنا قد وصلنا إلى تحديد تلك العوائق التي تحول دون تفاعل الفلسفة العربية داخل مجتمعنا، ومن ثم غياب التأثير المطلوب لها، فإنه من المتوجب علينا أن نؤكد على أن النص الفلسفي المستحدث لا بد وأن ينبني على أحقية كاملة في اتخاذ الموقف العقلاني الحر الباحث عن سبيل الخروج من حقل الدلالات النمطية للغة العربية، والذي يجعلها ذات أبعاد ثقافية شديدة المحدودية، إلى فضاء فلسفي كوني رحب هو الأقدر على إثارة العقل بشكل يسمح له بالقدرة على إنتاج نص فلسفي عربي محض، قد أصبحنا في أمس الحاجة إليه.

 

 

عودة إلى الخطاب الفلسفي العربي