Arabic symbol

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

العرب والفلسفات التي اختاروها

 
بحث مخصص
 

 

عبد الله الجسمي

مجلة العربي الكويتية - الأول من إبريل 2007

Alarabi_logo

     

     

في فترة النهوض الثقافي العربي التي بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر واستمرت حتى نهاية الستينيات تقريبًا من القرن العشرين، تأثرت الساحة الثقافية العربية والعديد من رموزها بالفكر والثقافة الغربية من جوانب مختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية وفلسفية وفكرية.

          شهدت هذه الفترة ذروة الاهتمام بالفلسفة والتفكير الفلسفي وولادة رموز عدة لها كتابات فلسفية وترجمات أثرت الساحة الأكاديمية والثقافية العامة وجذبت كتاباتها الكثير من القرّاء والمتابعين للأمور الفكرية والشأن الفلسفي.

          وهناك بعض التيارات الفلسفية التي استهوت العديد من المثقفين والمفكرين على وجه الخصوص، عوضًا عن الأكاديميين من أساتذة الفلسفة وبعض المهتمين بالشأن السياسي، وقد ساهمت أسباب عديدة في انتشار بعض الفلسفات أو الاتجاهات الفلسفية بشكل واسع بينما حالت بعض الأسباب دون انتشار غيرها.

          وقبل الحديث عن ذلك، تجدر الإشارة إلى أن أسباب ظهور الاهتمام بالتفكير الفلسفي في تلك الفترة تعود إلى عوامل عدة. فمنذ الفلاسفة الإسلاميين الكبار أمثال ابن رشد وابن سينا والفارابي وصدر الدين الشيرازي وغيرهم تراجع الاهتمام بالفلسفة والتفكير الفلسفي على مستوى العالمين العربي والإسلامي، وتعزز ذلك مع حكم الدولة العثمانية الذي استمر قرابة أربعة قرون، وتميز بالتسلط والانغلاق إلى أن جاء القرن التاسع عشر وشهد ظهور حركة الإصلاح الديني، ومن ثم الحركة القومية العربية مع بدايات القرن العشرين، فحدث نوع من التحول والانفتاح على العالم الخارجي فرضته الدعوة إلى التغييروالتطوير لواقع ساده الجمود والتراجع فترة طويلة من الزمن. هذا الأمر استدعى البحث عن نماذج سياسية واقتصادية وفكرية ممن سبقونا في العلم والحضارة، فكانت أوربا الوجهة التي اتجه إليها معظم مفكري ومثقفي تلك الفترة خصوصًا بعد تراجع حركة الإصلاح الديني وبدأ التفكير في إقامة المجتمعات المتقدمة. وقد تزامن مع ذلك البعثات الدراسية الأولى التي سافرت إلى أوربا خصوصًا فرنسا وبريطانيا ليجد المتعلمون هناك عالمًا يختلف عن عالمهم، فكان الطموح هو نقل العلم والفكر والثقافة والفنون التي شاهدوها هناك والسعي إلى طرح أفكار تدعو للتغيير والإصلاح، ولعل أسطع مثال على ذلك المرحوم رفاعة الطهطاوي ومن تلاه. ومع نشاط الحركة الثقافية، والتحولات المدنية في المجتمع العربي وظهور الجامعات بُدئ بإرسال البعثات الدراسية إلى أوربا لدراسة الفلسفة فتخرج جيل حمل خلاصة الفكر الفلسفي الغربي وتطوره وكان الجيل الأكثر طموحًا في التغيير والنهوض الفكري والثقافي، فنشطت حركة الترجمة للكتب الفلسفية وقام العديد من أساتذة الفلسفة بمخاطبة القارئ العادي لرفع مستواه الفكري، ونقد مظاهر التفكير التي لا صلة لها بالعصر والدعوة إلى الإصلاح، فاتسعت رقعة الاهتمام بالفلسفة والتفكير الفلسفي، وأصبحت هناك حركة فكرية حقيقية ذات طابع فلسفي لم يقف تأثيرها على المختصين في الفلسفة بل امتد للعديد من الرموز الثقافية الذين نهلوا من التراث الفلسفي وكتبوا عن الفلسفة، واستعان الكثير منهم بالأدوات والمناهج الفلسفية في عرض أفكارهم ونتاجهم الأدبي والثقافي. وبالعودة إلى أبرز التيارات أو الفلسفات التي لاقت رواجًا في تلك الفترة بين عدد لا بأس به من الأكاديميين والمثقفين والقرّاء وبعض السياسيين سنجد الفلسفة الماركسية والفلسفة الوجودية، والوضعية المنطقية بينما لم تلاق فلسفة التحليل، وهي الفلسفة التي تسيدت العالم الغربي في تلك الفترة، ذلك الرواج نتيجة لأسباب سنذكرها لاحقًا.

          علمًا بأن معظم المختصين بتدريس الفلسفة بالجامعات أظهروا تنوعًا في تبني الاتجاهات الفلسفية بقديمها وحديثها.

العرب والفلسفة الماركسية

          شهدت الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى وانتصار الثورة البلشفية وظهور الاتحاد السوفييتي انتشار الأفكار الماركسية وما تمخض عنها من تصورات مختلفة حول مفهوم الاشتراكية في أنحاء شتى من العالم. ولم يكن العالم العربي آنذاك بمنأى عما يدور في العالم، فقد لاقت هذه الأفكار في بداية الأمر انتشارًا عند عدد من السياسيين والمفكرين ونفر قليل من القائمين على تدريس الفلسفة، لكن ما لبث أن اختلفت الصورة بعد الحرب العالمية الثانية حيث لاقت هذه الأفكار رواجًا كبيرًا ساعد على انتشارها الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، فساهمت فيه عوامل عدة منها ما هو سياسي وفكري وثقافي، فانتشرت الأفكار اليسارية عمومًا بين المهتمين بالفلسفة وكذلك القارئ العادي.

          فقد وجد الكثير من المفكرين والسياسيين العرب في الماركسية أجوبة عن أسئلة عديدة كانت بحاجة إلى إجابات، منها كونها طريقة تفكير علمية، حسب المنظور الماركسي، وتشكل نظامًا سياسيًا ذا طبيعة اقتصادية متميزة وتعبر في نهاية الأمر عن نظام عادل نتيجة للقضاء على الطبقية في المجتمع. فبالنسبة للجانب العلمي قدّم العديد من المنظرين الماركسيين الماركسية على أنها نظرية تسترشد بالنظرة العلمية في تفسير العالم والمجتمع قائمة على أسس مادية تضمنتها أبرز مكوناتها المادية التاريخية والمادية الجدلية. فالأولى تتحدث عن مراحل تطور المجتمع الإنساني بدءًا من المشاعية وحتى الاشتراكية، أما الثانية فكانت تطرح قوانين التطور التاريخي التي قدمها ماركس وإنجلز والتي بناء عليها سيتطور المجتمع الإنساني بطريقة مادية وبشكل حتمي، وصولاً إلى مجتمع الاشتراكية العادل. هذا الطرح المغلف بالعلمية لاقى رواجًا في ثقافة يغيب عنها التفكير العلمي فتبناها العديدون واستعملوها كأداة لتفسير الواقع والأمور الاجتماعية وغلبت على التحليلات السياسية استنادًا إلى قوانين التطور التاريخي.

          ومن جانب آخر، سد التصور السياسي فراغًا حول شكل أو نظام الدولة. إذ اتخذت بعض الأحزاب والقوى اليسارية نموذج الدولة السوفييتية القائم على دكتاتورية البروليتاريا ومحاكاته كنظام سياسي قائم على أساس اقتصادي طبقي تحتك فيه الطبقة العاملة مع السلطة بحزبها الحاكم مطبقة نموذج الديمقراطية الشعبية كبديل للديمقراطية الغربية. وسلم العديد من هذه القوى بأن هذا النظام يقوم على أسس عادلة تلغي كل جوانب الظلم واللاعدالة السائدة في المجتمع ويحارب في الوقت نفسه الفقر والبطالة وينشر التعليم وغيره من أمور لا تتوافر في ظل العديد من الأنظمة السائدة آنذاك. بمعنى أن نموذج الدولة السوفييتية كان حلاً في نظر هؤلاء لأشكال الظلم والاستغلال واللاعدالة والفقر وطريقًا لمحاربة الجهل والأمية والتخلف والنهوض بالمجتمع.

          ويقف وراء ذلك، في حقيقة الأمر، عوامل فكرية وثقافية هي التي ساهمت بتبني الأفكار الماركسية. فبالنسبة لشكل الدولة يتلاءم ذلك مع طبيعة الثقافة العربية التي تسود فيها قضية الخضوع للسلطة وإدارة الحكم بطريقة دكتاتورية.. وقد اتضح ذلك في طريقة إدارة الأحزاب الشيوعية واليسارية وعمومًا الغالبية الساحقة من الأحزاب بطريقة خضوع المرءوس للرئيس وحصر القرار والمعرفة بيده أو من والاه. أما الجوانب الفكرية الأخرى فيمكن إيجازها فيما يلي: قدمت الماركسية مذهبًا شموليًا لتفسير الواقع والحياة والمجتمع من زاوية معينة ويغلب على منهجيتها طابع التعميم. وقد تلاءم ذلك مع الرؤية الشمولية عند الكثير من المثقفين والسياسيين العرب للواقع، وساعد على ذلك بساطة الواقع والحياة التي يكاد أن يغيب عنها التعقيد. فتفسير الأمور والواقع كان يتم بطريقة شمولية وتعميمية واستنادًا إلى منظور واحد. وقد نتج عن هذا الأمر النظرة المسيسة لكل شيء، التي اشتهر بها المنظرون الماركسيون، فكل مظاهر الثقافة وقيم المجتمع وحتى العلم تم تسييسها ووضعها في خدمة مصالح الطبقة العاملة. وهذا الحال يتماشى مع معظم أنماط التفكير السائدة التي تسيّس كل شيء أو تنظر لكل موضوع من زاوية أحادية الجانب وسياسية بالدرجة الأولى.

تشابه الخطاب العربي والماركسي

          ونتيجة لما سبق أصبح التنظير والقطعية أو الدوجماطيقية ضمن الأمور السائدة في طريقة التفكير والتي لاقت رواجًا وقبولاً في الثقافة العربية. فالطابع المذهبي الشمولي للماركسية مثّل أرضية خصبة للتنظير، وتفسير العالم من منظور واحد انطلاقًا من مسلمات تم التسليم بصحتها المطلقة لا تخضع لأي نقاش أو جدال للتشكيك فيها. وقد وجد الكثير من المنظرين العرب ضالتهم في ذلك. فالخطاب السياسي العربي في أغلبه خطاب إنشائي يفتح المجال للسرد والتنظير والتراشق اللفظي الذي يبتعد معظمه عن الواقع وتحليله بشكل واقع نقدي. والذي يعبر عن عجز الكثير عن تحقيق الأمور بشكل عملي في الواقع وبانتظار ما يحمله القدر من مفاجآت (أو كما كان شائعًا بأن الأوضاع، تستوي على نار هادئة)، وستأتي لحظة التغيير الموضوعية عندما يحين وقتها. أما بالنسبة للقطعية أو التفكير الدوجماطيقي فهو سائد في العقلية والثقافة العربية الدارجة الناتجة من الانطلاق من مسلمات بديهية لا تقبل الشك أو النقد.

          ولم تلق تلك العقلية صعوبة في هضم الأفكار الماركسية التي تتلاءم فكريًا معها من هذا الجانب والانتشار والتغلغل في أذهان العديد من السياسيين والمثقفين ونشرها بين العامة، لكن هذا لم يلغ وجود نخبة محدودة من المفكرين والعاملين بالفلسفة من اليساريين الذين كانت لهم أطروحات اختلفت عن النمط الدوجماطيقي السائد. وآخر ما يمكن الإشارة إليه فيما يخص انتشار الماركسية هو ذلك الموقف السياسي المعادي للولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربا الغربية التي كانت في حلف الناتو نتيجة للإرث الاستعماري السابق، وممارساته في معظم الدول العربية التي تم استعمارها وكذلك الموقف من القضية الفلسطينية الداعم لإسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ساهم هذا في تبني العديد من التنظيمات السياسية الأيديولوجية الماركسية، وأفضل مثال على ذلك معظم الفصائل المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية، وقطاع عريض من الأحزاب العربية اليسارية الأخرى.

الفلسفة الوجودية

          كانت الفلسفة الوجودية من بين أكثر الفلسفات انتشارًا بين جمهرة من الأكاديميين والمثقفين والقرّاء. وقبل الحديث عن الأسباب التي أدت إلى انتشارها في الوطن العربي، تجدر الإشارة إلى أن الوجودية لاقت رواجًا كبيرًا خصوصًا في أوربا في الفترة ما بين الحربين العالميتين والفترة التي تلت الثانية مباشرة نتيجة للحروب والدمار الذي خلفته، ودخول الشرق والغرب في صراع نووي بين القطبين الرئيسيين. أما بالنسبة لانتشارها عربيًا، فقد لعبت مجموعة من العوامل في ذلك، يمكن إيجازها فيما يلي. تفتقر الفلسفة الوجودية إلى أداة أساسية للتحليل الفلسفي ألا وهي المنهجية. فهي ليست كالفلسفات الأخرى، التي تستند إلى منهج فلسفي يستخدم إما في التفسير والتحليل، ويمكن من خلاله الوصول إلى معرفة معينة تختص بالمنظور الذي ينطلق منه الفيلسوف. وقد لاقى هذا الأمر رواجًا في الساحة الفكرية والثقافية العربية لكون العقلية السائدة تفتقر إلى أدوات منهجية في الوصول إلى المعرفة. فتكوّن المعرفة يتم على أسس ذاتية لكون الموضوعات الأساسية الدارجة في الثقافة العربية تتمثل في الكثير من القيم، التي تمثل أبعادًا ذاتية، ولا يتم تعلمها عبر مناهج معرفية أو فكرية. يقابل ذلك غياب الثقافة العلمية المبنية على أسس منهجية تجريبية وعقلية. لذا وفرت البيئة الثقافية العربية الأرضية لانتشار هذا النمط من التفكير الفلسفي بين الكثيرين. وكان لغياب المنهجية في طرح وتحليل الأفكار أن استعار الفلاسفة الوجوديون بالأدب كوسيلة للتعبير عن أفكارهم وتوصيلها للآخرين. فمن يتصفح نتاج معظم الفلاسفة الوجوديين، سيجد أن القصة والرواية والمسرح والشعر طغت على الكتابات الفلسفية والفكرية.

          فالنتاج الأدبي لـــ«جان بول سارتر» و«البيركامو» و«جابريل مارسيل» وغيرهم خير دليل على ذلك. وقد ساهم في الانتشار الكبير للوجودية والعديد من أفكارها بين المتخصصين والمثقفين وعامة القرّاء في معظم أنحاء العالم. أما ما دفع إلى الاهتمام الكبير بهذه الكتابات عندنا فهو كون التراث العربي والإبداع القديم والمعاصر يعتمد على الأدب بالدرجة الأولى. فقد كان الشعر والنثر الوسيلتين اللتين استخدمتا للتعبير عن الكثير من الأفكار والقيم، وكان الأدب بشكل واسع الأداة الأساسية للتعبير عن مكونات الثقافة العربية وطرق التفكير السائدة فيها منذ القدم وحتى الآن تقريبًا. فهو وسيلة للتعبير وحفظ الأحداث وتصوير طرق الحياة، ويدخل في صلب المعتقدات السائدة. كل ذلك جعل من انتشار النتاج الأدبي أمرًا في غاية اليسر لتلاؤم ذلك مع طريقة التفكير السائدة ومكوناتها الثقافية، فحظيت الوجودية باهتمام كبير على جميع مستويات القرّاء والمثقفين والمشتغلين بالفلسفة، وأصبحت قضاياها وأفكارها تتداول بشكل واسع، وقام عدد من المشتغلين بالفلسفة بتبنيها، والكتابة عنها نظريًا، وحاول البعض الآخر محاكاة أسلوب فلاسفتها في الكتابة الأدبية والشواهد على ذلك متنوعة.

          ومن جانب آخر، مثلت الوجودية ملاذًا لشريحة ليست بالسهلة ممن عاصروا فترة التحولات، التي حدثت في بنية المجتمع العربي، والتحوّل من العيش في مجتمعات يغلب عليها الطابع الريفي إلى مجتمعات مدنية حديثة، والذي تزامن معه تغيرات ثقافية جديدة فرضها واقع المجتمع المدني الحديث. ومن أبرز مظاهر ذلك التخلي عن الروح الجماعية، التي فرضتها الطبيعة على المجتمع الريفي إلى الجوانب الفردية والذاتية، التي خلقت صراعًا ما بين المحافظة والتجديد أو التمسك بالقديم أمام ما هو جديد أو مستجد. وبما أن الوجودية تعزز الجوانب الفردية والذاتية، فقد لاقت أفكارها قبولاً عند الكثيرين الذين يرون في تحقيق الذات بشكل حر وفردي أكثر قابلية ومعقولية من الخضوع للسلطة الجماعية والاجتماعية، التي تذيب الفرد وقدراته في الجماعة التي يتبعها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فالتغيرات الثقافية والفكرية التي حدثت آنذاك، ساهمت في تغيير العديد من الاعتقادات والأفكار السائدة في المجتمع، ودفعت الكثيرين إلى التخلي عمّا كانوا يسلمون به من أفكار، والانتقال إلى أفكار أو أيديولوجيات جديدة تحل محلها، وعاش الكثير منهم حال الاغتراب إلى الواقع وثقافته وطريقة تفكيره. وعملية البحث عمّا هو جديد جعل من الوجودية، إما أن تكون مرحلة وسطى أي انتقالية، أو ملجأ للبعض. فالتحوّل من مرحلة التسليم بأفكار معينة، خصوصًا عندما كانت تشكل حياة الفرد وثقافته ومصيره ويذوب فيها بطابعها الجماعي، إلى مواجهة الحياة والواقع بصورة فردية مجهولة المستقبل، وتتعلق بكيان الفرد كوجود إنساني تزيح الآخرين عن عالمه، وتحدد عالمه بحدود أطرافه، يعمق ذلك بشعور الفرد بوجوده ويجعله يبحث في سبل تحقيقها، إما عن طريق اعتناق أفكار جديدة، أو تحقيق ذاته كوجود إنساني. لقد ساهم ما سبق في انتشار الوجودية بين الكثير ممن عاشوا في تلك الفترة لتوافر الأرضية الثقافية، التي تصلح لها، وسهولة انتشار أفكارها في عالم متغير.

الوضعية المنطقية

          يقترن اسم الوضعية المنطقية كاتجاه فلسفي بواحد من بين أبرز المفكرين العرب وهو المرحوم د.زكي نجيب محمود الذي أثرى الساحة الثقافية العربية بالكثير من الكتابات النقدية لواقع الثقافة والمجتمع العربي، علاوة - بالطبع - على كتاباته الفلسفية عن الوضعية المنطقية وفلاسفتها. فقد ساهم في نشر العديد من الأفكار الخاصة بالوضعية المنطقية، ودرّس جيلاً كاملاً، وأثر في العديدين، ومنهم مَن سار على نهجه. وعلى الرغم من الدور الكبير الذي ساهم فيه د.زكي نجيب في نشر الفكر الوضعي المنطقي، فإن القبول والصدى الذي لاقته أفكاره النقدية للثقافة العربية بالاستناد إلى الأسلوب العلمي والعقلاني التحليلي، كان يعبر عن رأي شريحة من جمهور القرّاء والمثقفين والمفكرين الناقدين لواقع الثقافة العربية الذين يرون في العلم ومناهجه وأدواته أساسًا صالحًا لإعادة بناء العقلية العربية مثلما حدث في أوربا وغيرها من بقاع العالم. فالعقلية والثقافة العربية بشكل عام تفتقران إلى نمط التفكير العلمي والعقلاني بروحه التجريبية والواقعية، التي تقوم على الموضوعية والمبنية على أسس منهجية تستخدم في تفسير الواقع وظواهره ومشكلاته الناتجة عنه، ويتم من خلالها الوصول إلى المعرفة وتراكمها، كما يشكّل التفكير العلمي تفكير العصر والأداة، التي استخدمت في تحقيق التقدم المستمر من قبل الآخرين، وفي الوقت نفسه ينبئ بطريقة التفكير عن الصراعات السياسية والفكرية والأيديولوجية، ويبحث في الأمور بطريقة موضوعية مجردة. وهذا هو المنحى الذي اتخذه د. زكي وآخرون ممن ساروا على نهجه، إذ تشكّل أفكارهم استمرارًا لمسيرة التنوير في الثقافة العربية عبر استخدام العلم، ومناهجه، وما نجم عنه من طريقة تفكير عقلانية مجردة.

          ويقودنا الحديث عن الوضعية المنطقية إلى فلسفة التحليل، ولكن بشكل معاكس. فعلى الرغم من كون الوضعية المنطقية أحد الاتجاهات التحليلية في فلسفة التحليل المعاصرة، فإنه يبدو أن فلسفة التحليل لم تلق بشكل عام رواجًا بين أوساط القرّاء والمثقفين وعدد من المختصين بالفلسفة على الرغم من انتشارها الواسع منذ بدايات القرن العشرين وحتى عقده السابع في الساحة الفلسفية الغربية، وعلى الرغم أيضًا من وجود تراث لغوي ومنطقي عربي وإسلامي في تناول القضايا المتعلقة باللغة وطبيعتها. وقد يعود ذلك إلى عدد من الأسباب، أبرزها تركيز فلسفة التحليل على تحليل اللغة والمفاهيم والتصورات بالدرجة الأولى، وإهمال عدد من القضايا، التي كانت موضع نقاش في معظم تاريخ الفلسفة، بحيث أصبحت الموضوعات الأساسية في الفلسفة تتعلق بمشكلة المعنى وقيم الصدق والمنطق. وبما أن الواقع العربي بحاجة إلى الدفع بالنهوض به، وبالاهتمام بقضايا أخرى أهم كشكل الدولة السياسي والعدالة وحقوق الإنسان والتفكير العلمي وغيرها، فإن ذلك أدى إلى عدم إعطاء فلسفة التحليل اللغوي القدر الكافي من الاهتمام، فما كان يبحث عنه التفكير هو تلك الفلسفة أو الاتجاه الذي يمكن أن يوفر رؤية أعم لقضايا يومية معيشة بحاجة إلى تناولها بالبحث والتمحيص للتغلب على ما ينتج عنها من مشكلات. كانت هذه الأمور من وجهة نظر العديد أهم بكثير من تحليل اللغة والفكر من أجل الوصول إلى الدقة والوضوح، وإزالة اللبس الذي يعتري الألفاظ اللغوية.

أين نحن الآن؟

          بعد تراجع الحركة الثقافية التنويرية العربية تراجع الاهتمام العام بالفلسفة والفكر بشكل كبير. فبعد هزيمة يونيو عام 1967 بدأت حركة الردة في الثقافة العربية، وتحوّل الشارع العربي تدريجيًا إلى الأصولية والإسلام السياسي، فانتشرت ثقافة انعزالية ذات طابع أصولي معادية لأي نوع من أنواع التفكير الفلسفي والحر، وتم تصفية الأفكار التنويرية، التي عرفتها الثقافة العربية منذ قرن مضى تقريبًا، وحل محلها أفكار هامشية وقضايا شكلية لا تقدم ولا تؤخر ناتجة عن طريقة أو طرق تفكير لا علاقة لها بالعصر وثقافته. ومع الأسف لم تقتصر هذه الموجة على العامة والرموز الأصولية فقط، بل جرفت معها الكثير من الرموز، التي كانت يومًا ما تُنظر للعقل والتفكير الفلسفي أو صاغت أفكارها بأبعاد فلسفية، إذ تم الانسياق وراء الموجة الدينية، وإعلان البعض عن تراجعه عن أفكاره السابقة، ودخل في فلك التراث أو تم تغليف القضايا والمشكلات بطابع عقائدي، كل هذا ساهم في تراجع الاهتمام بالفلسفة. في مقابل ذلك خاض نفر قليل ممن بقي على أطروحاته الفكرية سجالاً مع القوى الأصولية والمحافظة، وغابت تلقائيًا الرموز الفكرية، التي كانت تنقد الواقع والثقافة العربية بأفكار تنويرية.

عبدالله الجسمي