Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 العلم، الدين والرأسمالية

العرب أونلاين

12 أغسطس 2008 

حسن المصدق

 حسن مصدق*: فى الواقع ليس من تحليل علمى مقبول لدى علم الاجتماع فى تفسير تنامى ظاهرة المعقولية وارتباط الحداثة بالقضاء على التفسيرات القدرية والأسطورية وتوارى التفسيرات السحرية للكون واندثارها، إذا تجاهلنا ميلاد الرأسمالية، فهى بمثابة الإطار التاريخى ـ الاجتماعى الذى تندرج فيه المدنية الحديثة، غير أن استعمالنا لمصطلح الرأسمالية، لا نريد من خلاله تعظيم دور الاقتصاد فى الرأسمالية على غيره من العوامل الأخرى كما هو عليه الحال، لكن ثمة حقيقة كبيرة مفادها بأنه يلعب دورا هاما فى التحكم فى مصيرنا.

ومن ثم لا يمكن اختزال الرأسمالية فى نموذج إنتاج أو نسق اقتصادى فحسب، بل علاوة على ذلك، فهى كناية عن ثقافة ونمط حياة ورؤية كونية وفلسفة حياة، بل الأكثر من ذلك مشروع للعالم. والحال أن كلا من كارل ماركس وماكس فيبر شددا على ربط ميلاد الحداثة الغربية بـ" الرأسمالية".

إذ لا يخفى أن نشأة الحداثة الرأسمالية فى الغرب، كان وما يزال بمثابة امتداد لمسار ثقافى وفكرى "تيولوجي، فلسفى وعلمي" بعينه، استمد روحه من أن << الميتافيزيقا كانت دائما كالقرد المقلد للرياضيات>>، بل من المعروف أن أفلاطون لم يسمح لطالب فى الفلسفة بأن يقبل فى الأكاديمية، ما لم يكن قد تلقى تدريبا فى الهندسة.

مما جعل أفكار العديد من الميتافيزيقيين مستمدة فى كل زمن من الرياضيات. والحق أنه كل ما تهاوت البديهيات الهندسية الخاصة بزمن ما، تهاوت معها البديهيات الميتافيزيقية، فهى صور مقلدة لها، ما يجعل مصيرها ملحقا بها.

ولا غرابة إيضا إذا أسند ديكارت للهندسة أن تلعب دور مرشد للفلسفة، منه ما يقول الفيلسوف بليز باسكال: << إن معرفتنا بالمبادئ الأولى، مثل الفراغ، والزمن، والحركة، والعدد، يستوى تأكيدها مع أى معرفة نكتسبها بالتفكير. وفى الواقع أن هذه المعرفة التى تزودنا بها قلوبنا وغريزتنا هى بالضرورة الأساس الذى يبنى عليه استنتاجنا بواسطة العقل>>.

بطبيعة الحال تغير الأمر كثيرا بعد غلبة النزعة التجارية واعتبار المجتمع مجتمع مبادلات قبل أن يكون شيئا آخر، فالقياس الرياضى أصبح الميزان الوحيد للمشروعية فى الحداثة الرأسمالية التى لا تعنيها سوى موازين القياس التجارى والحسابى والإحصائي، حتى لو فقد الإنسان كرامته وتم طمس آدميته، ليصبح إنسانا اقتصاديا، أى الإنسان الاقتصادى من حيث هو مسير بمنافعه الاقتصادية دون اعتبار آخر، لا غير.

ومما لا جدال فيه أن الكون برمته، قواه وطاقته وعوالمه لا يعدو فى نظرها أن يكون مجرد سوق موسعة، ما يفسر ارتباط الرأسمالية بظواهر سلبية صاحبتها منذ ميلادها كالاغتراب وتسيد الصنمية والتشيؤ والنزعة الاستهلاكية المحمومة، الأمر الذى يفيد بتحويل مجموع أشياء الواقع الوجودى إلى أشياء مصنفة ومحسوبة وفق قيمتها فحسب.

غير أن تدهور علاقات الفضاء الاجتماعى والبيولوجى الذى صاحبت استغلال الإنسان للطبيعة هى فى واقع الأمر ظاهرة تعود إلى العصر الحجري، إلا أن حدتها تزايدت فى ظل الرأسمالية بشكل حرن، حالت دون عمليات التجدد والإحياء لموطن سكنانا، تاركة الأرض تموت ببطء شديد وأحيانا دون أن تلتقط أنفاسها المبخورة! ما يؤكد أن أحد مسؤوليات العلم الأساسية تتجلى فيما وصل إليه الإنسان الحديث من أزمات بيئية واجتماعية، ثم ما يعرفه من تنافر فى القيم وتضاربها تضاربا شديدا.

هذا فى الوقت الذى ساهم فى إيجاد مشروعية فكرية وأخلاقية لمنطق الموت والتحلل، على إثر غلبة نزعة الوضعية العلموية، ما جعل من العلم صنما غاب على إثره عدم وجود رؤية علمية نقدية بشكل عام، فالعلم على الرغم من التقدم الهائل يبقى دائما نتاج ظرفه الزمنى ولا يخلو من أيديولوجية اجتماعية تلازمه بالضرورة. بيد أن فضل العلم فى الرأسمالية أهم ما يميزه صيرورة إلغاء النزعة السحرية وإبطال مفعول القدرية فى التفكير والمعتقد.

ومن دون شك إذا كان ديكارت من وضع أساسه وظوابطه الفلسفية، فانطلاقا من نيوتن تم القبول بأن الطبيعة والمجتمع عبارة عن كتاب رياضيات يجب فك رموزهما الهندسية "..."، لأن مصطلح "désenchantement=Entzauberung" تعنى كونا غير سحرى تغيب فيه الآلهة والأرواح والأوهام، من حيث أنه انتهى من كونه عالما متعاليا، إلى عالم حى له روح تنبض أو آلاف من المحركات تشتغل بطاقات يعج بها.

لكن هذه الرؤية فى صراعها مع الأسطورة والشعوذة لا تعنى أن العلم الحديث أو مباحث هؤلاء الذين يتطلعون إلى فهم آيات الكون بطريقة رياضية وفيزيائية، قد استطاعوا النفاذ كليا بمناهجهم إلى أسرار الكون المستعصية فى كثير من جوانبها، بيد أنه لا يعزى سبب هذا القصور إلى طبيعة العلم كعلم بل إلى الطبيعة البراديغمية، أى شكل النموذج العلمى المتبنى أو إذا شئنا قلنا النماذج المتحكمة فى رؤاه ووسائله المنهجية، حيث يرجع الفضل إلى توماس كوهن فيلسوف الإبستومولوجيا الأمريكى استعمال مفهوم البراديغم ـ الفصقل أو النموذج ـ فى كتابة تاريخ العلوم ووضع مقارنة بين سائر المدارس العلمية ومنطلقاتها الفلسفية.

والحال أن هذا المفهوم مركزى جدا بالنسبة لنا، لأنه عادة ما يعتبر العلم فى العالم العربى غائبا وقاصرا على إمداد الإنسان العربى بكل الأجوبة، ما يفسر الحضور الطاغى للشعوذة والقدرية والتفكير الخرافى السحرى فى عقلية الكثير منا.

لذلك نبادر للقول ليس القصور فى العلم، بل فى طبيعة التصور الذى يتم تبنيه فى هذا المدرسة العلمية أو تلك. ومن ثم تجدر الإشارة إلى أن تاريخ العلم ليس مجرد تاريخ تراكم معطيات وفق خط زمنى تعاقبي، لها بداية علمية تؤدى إلى نهاية علمية أخرى. فالعلم بدوره يمر دائما بمراحل أزمة ـ يمكن أن نسميها ثورات علمية ـ متعددة يختبر عبرها صدقية فصاقله "نماذجه العلمية"، أى مناهج بحثه ومفاهيمه وموضوعاته ويعرضها للمحك.

وإذا ظهر فى سياق الحداثة الرأسمالية والحركة الفلسفية التى نشأت فى حضن أحد تيارات النهضة فى القرن السادس عشر والسابع عشر، علم بمواصفات معينة، لا يمكن أن نخلص إلى أنها فرضت نفسها دون تناقض ومقاومة نماذج علمية أخرى لها. فعراك الفصاقل أو النماذج ـ البراديغم _ هى أحد الخصائص الأساسية فى تاريخ العلوم، حيث تتيح فهم مدى معقولية كثير من الإشكاليات والاختيارات فى البحث.

والحال أن المعركة ضارية اليوم بين نموذج علمى صاحب ميلاد الرأسمالية وحداثتها، وهو ذو مواصفات علموية " تمجد العلم" وضعية ومادية وضع أسسها غاليليو ونيوتن وديكارت من جهة، فى حين بدأ يظهر نموذج "براديغم ، فصقل" بديل يمتح أسسه من فضاء قيمى مغاير يبحث عن معانى جديدة للحياة، حيث يتابع مقاصد جديدة من جهة أخرى.

وهذا النموذج الذى نطلق عليه على غرار الآخرين اسم<< الفصقل الجديد= البراديغم الجديد>> يمتلك ماضيا ويراهن على مستقبل تاريخى فى نفس الوقت. إذ نشأ فى الواقع مع بداية القرن العشرين إثر ما عرفه القرن من تجاوز للإشكاليات والطرق المنطقية المسدودة ومفارقات الميكانيكا النيوتينية التى بلغ أوجها فى نهاية القرن التاسع عشر "ولو استمر بعض معتقداتها حية اليوم فى التمثلات الاجتماعية= منطق الثنائيات الذى يقسم العالم إلى أبيض وأسود على وجه التعميم".

والحال أنه قبل أن يصبح نموذج التطور الرأسمالى نموذجا عالميا، كانت الحداثة الغربية والنموذج العلمى الذى صاحبهما فى الواقع نتاج الغرب، ومن ثم حصل بحسب الاقتصادى والمؤرخ إيمانويل فالرستاين سليل مدرسة فرناند بروديل الماركسية الجديدة، ما يطلق عليه اليوم << اقتصاد عالم ـ رأسمالى >> "économie-monde".
فالعولمة الحالية ورديفتها العولمة المالية تشدد على الدينامية الكونية التى لا تقف عند حدود سياسية أو جغرافية، لأن العالم أصبح يخضع لنسق عالمى ـ النسق "Système-monde" أبرز ما يميزه وحدة النظم والمعايير والقوانين.

إذ لا سبيل للإنكار أن النظم هى نفسها تقريبا فى جميع بقاع العالم من جراء سيطرة النظم والمعايير السائدة فى النسق الغربى "Système-Occident". فانتشار القيم والمعايير الغربية فى العالم، هو أكثر من أن يكون أحد تأثيرات الرأسمالية فحسب، بل إنه فى حقيقة الأمر يمثل أيضا فى الواقع أحد شروط توسعها. لذلك علينا أن نحذر الأيديولوجيات التى تتقمص أفكارا أو أفعالا تريد فرض نفسها على مستوى الكوكب برمته، ما دام أنها تتطلع إلى أن تخفى قناع سيطرة قيم بعينها على مسار التنمية قيد الإنجاز فى عالمنا العربي.

إذ يعمد البرازيلى ليوناردو بوف "Léonardo Boff" أحد كبار شخصيات لاهوت التحرير فى مقاله القيم:<< ما بعد الحداثة وبؤس العقل التحرري>> إلى طرح مشروع الحداثة الرأسمالية الغربية: << على أنه مشروع يمكن إجماله كإرادة قوة/هيمنة/ غنى كما تتصوره ذاتية الرجل الأبيض الغربية، المسيحية، علاوة على أن إسقاط النزعة الموضوعية "objectivation" على ما تبقى من القطاعات سواء بإخضاعها أو بتدميرها، أو حتى بجعلها مرآة للغرب ، يعنى إخضاع الآخر "..." لإمبريالية المنطق الغربى وسلطة الأوروبى ومصالح قراءته للعالم>>.

ولعل مدى فهمنا طبيعة النزعة العلمية التى سادت منذ غلبة فيزياء غاليليو ـ نيوتن، يمكننا الإمساك بخيوط مساهمة العلم الحالية فى تبرير النظام الرأسمالي، حيث نجد الفيلسوف ريبن درى "Rubén Dri" أحد ممثلى مدرسة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية يشير إلى هذه العلاقة بهذه الكلمات:<< إن المنطق الرياضى الذى يسميه هيغل الإدراك "entendement" يتجاهل المعنى، فهو يهيمن بطريقة مطلقة على الكمي، مادام الواقع برمته يتم اختزاله فى الكمية، أى ما يمكن قياسه، بالإضافة إلى اعتباره منسجما كليا.
والحال أنه بمثابة أبلغ تعبير عن الوعى الذى صاحب المؤسسة الرأسمالية أينما حلت وارتحلت، لأنها ظلت مؤسسة تهتم بالنجاعة والحسابية فحسب، لأن ما يهم: كم يلزم لكى نربح أكثر؟ وما هى عدد الساعات الضرورية كى تستمر المؤسسة فى وظيفتها؟>> " ترجمة شخصية".

وتجب الإشارة إلى أنه إذا كان قدر النموذج القديم أن يكون مرتبطا بالحداثة الرأسمالية الذى غذته أشكال الهيمنة الرسمية للثقافة الأوروـ أمريكية، فإن النموذج الجديد يمكن أن يتم تبنيه من قبل الثقافات الأخرى فى العالم، بما فيها الثقافات التى لم تعقد حلفا مع العقلانية الأداتية ذات الطبيعة الكمية المؤمنة بالنزعة الوضعية، لكن إذا أردنا أن تكون لهذه النماذج الجديدة معقولية فى مختلف ثقافات الشعوب والجماعات فى العالم، فمن الضرورى الخروج من وهم أيديولوجيا النخبة الحاكمة التى تعتقد أن الحداثة تفترض بالضرورة تبنى قوالب القيم الغربية.

والواقع أنه يجب أن نعتبر هذه الأخيرة شكلت حجرة عثرة فى انبعاث دول العالم الثالث بتقسيمها الدولى للعمل، بل ظلت عقبة فى وجه حداثة علمية ذاتية المنشأ لأن فلسفة العلوم الوضعية والعلموية كما نقلتها حركة التغريب تم اليوم تجاوزها وتفكيكها فى الغرب ذاته " انظر مساهمات الفيلسوف هابرماس، دريدا، بودريارد، رورتى النقدية". كما أنه إذا أردنا مثلا، أن نقدم عرضا للمفاهيم الجديدة والصيغ والبدائل الذى تعرضها الفصاقل ـ البراديغم ـ الجديدة فى اللغة العربية وفى الخيال العربى الإسلامي، من الضرورى الرجوع إلى التراث " العقلانى والروحي" الغنى للحضارة العربية الإسلامية فى شتى تراكيبه الفلسفية، الصوفية، التيولوجية، العلمية، القانونية والفنية...الخ.

فإعادة تقويم هذا التراث على ضوء القيام بعملية حداثة ذاتية المنشأ وإطلاق الطاقات للإبداع معتمدة على وعى الأفراد، هو الشرط لأن يتمكن العرب من إنتاج فلسفة كونية وأنتروبولوجيا ذوات أبعاد عربية إسلامية تمتح أسسها من البراديغم الجديد للعلم الحديث. إذ أن هذا التحدى من نفس الطينة الذى طرح على كل من الهنود والصينيين وسكان أمريكا اللاتينية، كى يصبحوا ذواتا تاريخية حرة ويحصلون على استقلالهم السياسى وتحقيق نمو اقتصادي.


فى نقد العلم

إذا كان نقد النزعة الوضعية التى تقوم على الاختزالية ـ الإطار المفاهيمى القديم للعلم ـ قد شكل إجماعا بين من يتبنون نموذج العلم وكيف يمارس اليوم، فهذا لا يعنى مطلقا أن التوجه الأخير منسجم فى توجهاته الفلسفية. بل فى الواقع إن فحصا متأنيا لمواقف الحركات الفكرية الخاصة بمختلف الفرقاء يمكن أن يساعدنا على الإحاطة بتوجهين فلسفيين، لكل منهما منطق مختلف تمام الاختلاف. مرد هذا التحول أن المشكلة على العلوم الفيزيائية أن تواجهها هى مشكلة اختراع منظومة من المبادئ يمكن أن نستنبط منها نصوصا نستطيع أن نحسب بها النتائج إذا كانت الترتيبات العلمية تفيدنا بمعلومات عن ذلك.

وعلى أية حال، يندرج المنطق الأول فى نقد النزعة الوضعية تحت رؤية تنضوى تحت لواء التنظيم الذاتى "auto-organisation"، بينما الرؤية الثانية تتقمص صورة اللا اكتمال "Incomplétude" فى أى نظرية علمية مهما كانت قوتها، حيث يظل القصور حاضرا فى أقوى النظريات العلمية كيفما كانت. ذلك أننا أمام طريقتين يؤكد من خلالهما البراديغم الجديد شرعيته أمام غلبة النزعة العلموية فى الماضى القريب، بيد أنه حين نقف على مستوى الأشخاص، ثمة فرق ضروري، حيث يمكن أن نمر من منطق إلى آخر، بل يمكن أيضا أن نربط بين المنطقين فى رؤية واحدة للعالم، إذ أن ما يجب فهمه يتعلق بالأرضية التى تستند عليها فلسفة العلوم.

فى الواقع، يحدد هذان التوجهان المعرفيان صيغا مختلفة للوصول إلى العالم، هذا فى الوقت الذى يحددان فيه معا إلى حد ما، أفق المعنى الذى ينبغى على البحث العلمى أن يتجه نحوه. والحال أن القول بتحول منطق "التنظيم الذاتي" فى أى منهج علمى جديد تحت شعار المحايثة "Immanence" لا ينافى الصواب، حيث أن فى اختلافها مع النزعة العلموية لا يعنى أنها منغلقة على ذاتها، بل منفتحة وقادرة على الخلق وقبول التعقيد "Complexité" الموجود فى الكون.

لنضرب مثلا يخص علم البيولوجيا: إن الحياة هى أحد تعبيرات وجود تنظيم ذاتى ونتيجة أيضا لتعقيدات المادة المتزايدة. إذ يشترك كل من العالم إيليا بريغورين الفائز بجائزة نوبل فى الكيمياء وعالم الأعصاب الشهير فرانسيسكو فاريلا وعالم الاجتماع إدغار موران والبيولوجى هنرى أتلان فى هذه المدرسة الفكرية، يريان أن الواقع فى نظرهم عبارة عن نظام معقد، مفتوح ويحبل بالعديد من الإمكانيات.

أما ما يعرف << عدم الاكتمال>> فى أى نموذج علمى جديد، فيتم عرضه فى إطار المتعالى الذى يبقى خارج إدراك "المعرفة الحسية". لكن عدم الاكتمال فى أى منهج، هو بعينه ما نطلقه على "الفجوات" وتلك "الأخطاء" التى تقدم لنا صورة على محدودية وصفنا العلمى للواقع كيفما كان نوع المدرسة الفيزيائية والرياضية أو الكيميائية المعاصرة التى نتبنى. وإذا شئنا استعمال كلمات الفيزيائى برنارد إسبانيَا "Bernard Espagnat" أحد ممثلى هذا التيار الفلسفى المعروف بـ <<اللا اكتمالية>>، يمكن القول إن واقعية ملاحظة الظواهر الفيزيائية علميا لا تستنفذ الواقع الذى يظل دائما محاطا بحجاب ومستعصيا علينا، لدرجة أن الفيزياء الكوانطية نفسها ساهمت بكثير فى إضفاء قيمة على هذه الإشكالية ولو ظلت بداخلها العديد من التأويلات فى هذا الباب.

فكما يحصل الجدل حول أن تتمتع أى نظرية علمية تستحق النظر على تنظيم ذاتى محكم فى نموذج العلوم التى هيمنت طوال القرن 18 و19، أصبحنا نتحدث عن صفة << اللا اكتمال >> فى أى علم من العلوم التى سادت مناهجها فى نهاية القرن العشرين. مفاد هذه النظرة أننا لسنا على أرضية وصف رياضى للواقع الفيزيائي، بل على أرضية وصف فلسفى وقراءة أنموذجية للنتائج التى تنجم عن ممارسة تلك المدارس العلمية، ويبقى بطبيعة الحال فى هذا المجال عدة قراءات أخرى ممكنة. ومن ثم، إن النموذج العلمى الجديد لا يتوفر على طريقتين منها فحسب. بل علاوة على ذلك، إنه يتيح باستمرار "تجديد ـ إحياء" التصور السابق والسائد.

لذا سنأخذ على محمل الجد قضية للفيلسوف وعالم اللاهوت ستانيسلاس بروتون"Stanislas Bruton"، إذ يقول:<< هل بإمكان المتمرس بالعلوم أن يكون أفلاطونيا جديدا "Néo-platonisme"؟ حيث إذا استمعنا إليه جيدا، سنجد على وجه التقريب: فى الواقع تقدم الفيزياء الكلاسيكية الشروح عن طريق عدد من المواضيع ولو كانت جد صغيرة كالنقاط مثلا، بينما الفيزيائى المعاصر لم يعد بحاجة إلى الموضوع "كأنه شيئ"، بل إن الموضوع توارى خلف ما نسميه اليوم الجُسيم "Particule" الذى يعنى خسارة الشيء لوجوده، بحيث لم يعد له من مكان فى جميع المقولات: الزمن، المكان...

لذلك وبهذا المعنى أجرؤ على الحديث مجازا وبطريقة محتشمة عن << فيزياء سلبية>>، ما دام تجاوز الموضوع يعتبر إشارة قوية فى الوقت الحاضر إلى فكر انحصر فى البحث عن المبدأ وليس عن الموضوع؟ ومن ثم، هل أصبحت الفيزياء أبعد من أن تكون متعارضة مع الفلسفة، بل ممارسة فلسفية؟>>بامتياز.

ولعله من نافل القول إن الرؤية "الأفلاطونية الجديدة" فى العلم الحديث ومن يدافعون عن "الفيزياء السلبية" هى خط من يدافعون عن <<اللا اكتمال >> فى أى نموذج علمى جديد، لأنهم هم من يحاولون استخلاص الدروس المعرفية والفلسفية من تحول المادة إلى طاقة، أى الخروج من نفق قراءة موضوعية مغالية لما يجرى على مستويات الواقع المجهرى إلى أفق أكثر رحابة.

ومن ناحية منهجية، تظهر الرؤية عبر-المناهجية " Transcdiciplinarit" كإحدى الممارسات الأكثر أهمية التى تحول دون الاعتماد على رؤية أو نموذج علمى بعينه قد يتحول صاحبه إلى "مناضل" جديد يناصر علْموية جديدة: فبعد خطأ التعلق بالنزعة الوضعية فى القرن التاسع عشر الماضى بطريقة مغالية، خاصة عندما <<أصبحت>> بحوزة العلم الوسائل لأن يحاول إعادة سؤال المعنى "réenchantement" للعالم وتجديد بنيان الثقافات وبناء علاقة جديدة بين الطبيعة والعالم، مما خوله أن يصبح بمثابة الأفق الوحيد للمعرفة.

ذلك أن الرؤية عبرـ المناهجية "Transcdiciplinarité" فى العلم، تمكننا من تفادى السقوط فى نفق علمى مسدود أو الاقتصار على رؤية علمية واحدة، لأن أساسها المنطقى يفترض تجاوز العلم والعودة به إلى مستوى أعلى يتجسد فى الحياة ذاتها. فهى تدافع عن وجود فلسفة أكثر تواضعا، بحيث تختلف عن بين ـ المناهجية لأنها لا تكتفى بحوار بين مناهج مختلفة، بل إنها تتجاوزها بالدعوة إلى ما هو خيالي، أسطوري، علمى وأخذها جميع بعين الاعتبار... كما إن أحد الشروط الضرورية لإفساح المجال للرؤية عبر- المناهجية، هو تجاوز المنطق الذى ساد الفكر الغربى منذ 2300 سنة، بحيث اقتصر أحيانا على الاعتماد على منهج دون غيره أو المزاوجة بين رؤيتين على الأكثر.

إذ أن ما يسعفنا فى تبنى الرؤية عبر المناهجية ليس البحث عن منطق جديد يلغى هذين المنطقين، بل إنتاج منطق له رؤية متكالمة تقوم بإعداد البنيات الذهنية العربية بتكوين العقول وتمثلات صحيحة للواقع العربى وحاجياته.

ولعل الباحث كلير فاغنرـ ريمى "Claire Wagner-Remy" بقولته التالية، يضعنا فى قلب الغاية الأساسية من أجل أى فكر إنساني:<< يرجع الفضل لأرسطو إرساء ثلاثة مبادئ أساسية التى تشكل قاعدة ما نسميه المنطق الكلاسيكى التى يقوم عليها كل صرح المنطق العلمي:

- مبدأ الهوية:<< أ=أ>>، وهى تحصيل حاصل.

- مبدأ اللاتناقض: << أ، لا يمكنها أن تكون "لا أ"، أى <<الشيء لا يمكن أن يكون هو ونقيضه>>. فالأضداد لا يمكن أن تتعايش فى نفس الشيء.

- مبدأ الثالث المرفوع "Tiers-exclu": أن تكون القضية صادقة أم كاذبة، ولا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة فى نفس الوقت>>.

والمنطق الذى يصاحب الرؤية عبر-المناهجية لا يقوم على مبدأ الهوية المعروف " أ= أ"، ولا يقوم على مبدأ اللاتناقض على وجه الحصر أيضا، كما يتناقض كليا مع مبدأ الثالث المرفوع.إذ يشير الفيلسوف جون ـ جاك وينبرغر "Jean-Jacques Wenberger" فى كتابه "المنطق المتضاد" "1992" إلى الخصوبة الخارقة للبدائل المنطقية التى تعتمد مقاربات متضادة فيما بينها، كما هو الحال فى منطق ستيفان لوباسكو " Stéphane Lupasco" المعروف "Trialectique".

إجمالا، ليس هناك من مقابل عربى لهذه الكلمة، لكننا نرجح أن الكاتب يريد الإشارة إلى المنطق الذى يدخل احتمال الحل الوسط بين نقيضين على أساس وجود لامتعين بين الصحيح والخطأ من جراء اللايقين الذى نص عليه هيزنبرغ. إذ يمكن أن نعتبر مفارقة الكاذب مغالطة منطقية يقصد بها الاحتجاج على الصور المنطقية بإظهار تناقض الكلام الواحد. وأبسط مثل على ذلك هو قول الكاذب عن نفسه: أنا كاذب، فإذا صدق كلامه فكلامه كاذب، وإذا كذب كلامه فكلامه صادق، فهو صادق وكاذب معا.


* باحث جامعي، مركز تاريخ أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون
elmossadak@yahoo.fr