Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 الإسلام والفلسفة والديمقراطية
الديمقراطية ثمرة ثلاثمائة عام من التنوير الأوروبي

 

 

موقع الراية

27 أغسطس 2008

هاشم صالح

 


بقلم: هاشم صالح .. هناك ثرثرات كثيرة عن الديموقراطية في العالم العربي بل وتشدق سطحي رخيص مضاد للمعني الحقيقي للديموقراطية ولكل الفلسفة السياسية الحديثة التي انتجتها واحتضنتها وولدتها.

 وأخشي ما نخشاه هو ان تتحول الديموقراطية إلي شعار فضفاض يقول كل شيء واللاشيء فيصبح مائعا ويفقد جوهره ومحتواه كما حصل لفكرة الوحدة والحرية والاشتراكية وبقية الشعارات التي فرغت من مضمونها إلي درجة انها اصبحت تبدو مكرورة مجترة لم تعد صالحة للاستخدام بتاتا. ولكن من يستطيع ان يمنع الوصوليين والانتهازيين بل وحتي الطائفيين من السطو علي اجمل المصطلحات وأفضلها ثم تلويثها؟ وحده الفكر الجاد المسؤول يستطيع ان يكشف عن حجم الزيف الموجود في ساحتنا الثقافية حاليا. وحده هو القادر علي تفكيك الايديولوجيا العربية الرثة وتوضيح الامور جيدا أو اعادتها إلي نصابها. ذلك ان الديموقراطية هي ثمرة ثلاثمائة سنة أو اكثر من عمر الحداثة والتنوير الفكري الاوروبي. بل انها ثمرة الفين وخمسمائة سنة إذا ما عدنا بها إلي عهد اليونان القديمة وانبثاق الفلسفة والديموقراطية في آن معا علي يد سقراط وافلاطون وارسطو وسواهم. ولكنها كانت ديموقراطية ناقصة بالطبع لانها لا تشمل إلا الرجال الاحرار وتستثني النساء والعبيد والاجانب. واما الشوري التي نتبجح بها كثيرا في عالمنا العربي فهي علي أهميتها نواة مصغرة للديموقراطية لانها كانت محصورة بعدد قليل من الصحابة الاجلاء ولا تشمل جميع المسلمين هذا ناهيك عن اتباع الديانات الأخري وبقية المواطنين إذا صح لنا ان نتحدث عن مواطنين في ذلك الزمان... ينبغي توسيعها كثيرا وتفريغها من محتواها اللاهوتي لكي تقترب من مفهوم الديموقراطية بالمعني الحديث للكلمة. ذلك انه لا ديموقراطية بدون حكومة مدنية علمانية: أي بدون مساواة كاملة في الحقوق والواجبات بين مختلف السكان العائشين في المجتمع أيا تكن أصولهم العرقية أو الدينية أو المذهبية. في النظام العلماني الديموقراطي الحديث المتولد عن فلسفة الانوار لا يوجد ابن ست وابن جارية أو ابن فرقة ناجية وابن فرقة مهرطقة كما تقول كتب البدع والنحل القديمة وكما لا يزال يعتقد جمهور المسلمين حتي هذه اللحظة. في الديموقراطية يتساوي الأقلوي البروتستانتي ليونيل جوسبان أو ميشيل روكار مع ابن الاغلبية المذهبية جاك شيراك أو فرانسوا ميتران أو نيكولا ساركوزي. أما في العهد القديم السابق علي التنوير والثورة الفرنسية فكان من المستحيل علي البروتستانتي ان يرفع رأسه في فرنسا. كان يعتبر مهرطقا زنديقا ناقص الحقوق ومشبوها في كل حركاته وسكناته. كان مجرد وجوده يعتبر ازعاجا ويحتمل علي مضض من قبل ابناء الاغلبية المذهبية أي الكاثوليكية فيما يخص فرنسا. لهذا السبب لا معني لطرح فكرة الديموقراطية في العالم العربي ان لم تحل اولا مشكلة الطائفية والمذهبية وتحل الفلسفة السياسية الحديثة المنبثقة عن ثورة الانوار محل اللاهوت السياسي السائد أو الفقه الطائفي القديم الذي لا يزال يتحكم بالعالم العربي والاسلامي حتي هذه اللحظة. كلمة الديموقراطية تصبح لغوا للاستهلاك المحلي أو للمتاجرة السياسية لا اكثر ولا اقل. انها مجرد وسيلة للصراع علي السلطة يستخدمها الحاكم والمعارض علي حد سواء وهي من كليهما براء. حتي التنظيمات الاصولية اصبحت تقول بانها ديموقراطية! الكل اصبح ديموقراطيا عندنا الان. لا يوجد حزب واحد أو حتي شخص واحد غير ديموقراطي في العالم العربي!.. ولكن عندما تقول لهم بان الفلسفة التي ترتكز عليها الديموقراطية تتطلب منا اولا الاعتراف بالمساواة الكاملة بين المواطنين وانه لا توجد فرقة ناجية ومواطن درجة اولي ومواطن درجة ثانية أو ثالثة فانهم يتراجعون قليلا. وعندما تقول لهم بان فلسفة الديموقراطية تتطلب منا الاعتراف الكامل بحرية الضمير والمعتقد: أي حرية ان تؤمن أو لا تؤمن، ان تؤدي الفرائض والطقوس اولا تؤديها علي الاطلاق، فانهم يتراجعون ويصبح عدد الديموقراطيين اقل بكثير. عندما تقول لهم بان فلسفة الديموقراطية تعني الفصل الكامل بين المواطن والمتدين باعتبار ان كل متدين مواطن بالضرورة ولكن ليس كل مواطن متدينا بالضرورة فان عدد الديمقراطيين ينقص ايضا. عندما تقول لهم بانه في النظام الديموقراطي الحقيقي فان السني قد يصبح رئيسا لايران إذا كان كفؤا والقبطي رئيسا لمصر والمسيحي رئيسا لسوريا والامازيغي رئيسا للجزائر والكردي رئيسا للعراق فانهم يرتعدون رعبا ويقولون: لا، لا، لانريد الديموقراطية! انها لا تناسبنا. هذه خلقت للغرب فقط. انظر كيف يهاجم القومجيون الكردي جلال الطالباني لانه اصبح رئيسا للعراق في حين انه أرقي بالف مرة من صدام حسين! وهذا بحد ذاته دليل علي مدي الانحطاط السياسي بل والاخلاقي في العالم العربي. انه دليل علي ان العهد القديم للفكر لا يزال مهيمنا. ولكن الشعب الامريكي يقبل بان يصبح باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة في حين ان السود محتقرون تاريخيا ويشكلون اقلية قليلة لا تتجاوز العشرة بالمائة من عدد سكان البلاد. لماذا؟ لانه مواطن بحسب الدستور مثله في ذلك مثل جورج بوش له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات. هنا تأخذ كلمة المواطنية معناها الحقيقي ووزنها وليست مجرد حبر علي ورق. هذا شعب ديموقراطي وبلاد ذات مؤسسات ديموقراطية راسخة. عندما طرح هذا التخوف علي توماس جيفرسون أو الآباء المؤسسين الذين كتبوا الدستور العلماني الشهير الذي يساوي بين جميع المواطنين ويفصل الدين عن السياسة: وما ذا لو وصل شخص محمدي، أي مسلم، أو حتي شخص ملحد إلي رئاسة الدولة؟ أجابوا: فليكن. إذا انتخبه الشعب الامريكي السيد الحر المستقل فاننا سنقبل به.ولكنهم كانوا يقصدون ايضا الشعب الامريكي المتعلم المستنير الذي يعرف ما يريد وما لا يريد، لا الشعب الأمي الجاهل المتعصب. ذلك انه قبل ان تعطي الديموقراطية للشعب ينبغي ان تثقفه وتهذبه وتعلمه وتمحو الأمية فيه إلي اقصي حد ممكن والا انتخب الاصوليين والعنصريين والجلادين.. ولهذا السبب فان الثورة الفكرية أو التنويرية سبقت الثورة السياسية في اوروبا واميركا الشمالية وكل العالم المتقدم ما عدا في العالم الإسلامي حيث فوجئنا بثورة دينية اصولية في ايران وافغانستان الطالبان والباكستان والسودان والحبل علي الجرار.. ما معني الثورة الدينية يتساءل داريوش شايغان؟ المصطلح بحد ذاته متناقض يلغي نفسه بنفسه. ولكن الخميني انتصر بثورته الارتكاسية التي تعود بالشعب إلي الخلف لسبب بسيط: هو ان الامور تسير بالمقلوب في العالم الإسلامي أو العربي. أقصد بان الثورات السياسية تحصل قبل الثورات الفكرية. هذا في حين انه في فرنسا حصل العكس تماما: ثورة التنوير الفلسفية لفولتير وجان جاك روسو وديدرو والموسوعيين سبقت الثورة الفرنسية ومهدت لها الطريق وأنارت العقول وأنضجت الظروف. ولذلك جاءت ثورة تحريرية تقذف بالشعب إلي الامام ولاتعود به إلي الخلف كما فعلت ثورة الخميني الاسلامية. فلنعد اذن إلي مقاعد الدراسة من جديد أو حتي إلي الصف الاول الابتدائي. نحن لم نتقدم بعد خطوة واحدة علي طريق التنوير الديني والفلسفي. أو قل تقدمت النخبة المتعلمة المثقفة وبقي الشعب بأغلبيته الساحقة في ايدي الاصوليين والتيارات الشعبوية الغوغائية. ولذلك فلا يمكن ان نتقدم خطوة واحدة إلي الامام في أي مجال من المجالات. لنعد اذن إلي نقطة الصفر ولنتساءل: ما معني التنوير الديني؟؟ هنا تكمن العلاقة بين التنوير الفلسفي والديموقراطية. لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية، ولا حرية لأعداء الحرية.

بعد ان وصلت بالامور إلي هذه النقطة اعترف باني طرحي للمسألة مزعج وهجومي جدا بل وشبه تعجيزي إذا صح التعبير. فانا أطالب الشعوب العربية أو الاسلامية بان تقبل باشياء يستحيل عليها القبول بها في المدي المنظور. وذلك لان شعوبنا لم تعش بعد المرحلة التنويرية للدين ولم تهضم الثورات العلمية والفلسفية والسياسية التي هضمتها الشعوب الغربية من اوروبية وامريكية علي مدار ثلاثمائة سنة من عمر الحداثة وجدليتها الصراعية وتشكلها. وبالتالي فعلي مهلك ايها الرجل وخذنا بحلمك ولا تطالبنا بما يطاق وما لا يطاق! اصبر علينا قليلا. لكي تتحقق أمانيك دفعة واحدة ينبغي ان تستورد شعوبا حضارية من الخارج تعرف كيف تحترم القانون والنظام وتحلها محل شعوبنا الفقيرة الامية الجاهلة التي تستمع إلي شيوخ الجوامع كل يوم. نحن لا نستطيع ان نستورد الشعب الهولندي محل الشعب السوري أو الشعب السويسري محل الشعب المصري! الخ.. وهذا صحيح. اني اعرف ان ذلك لن يتحقق قبل اربعين أو خمسين سنة في العالم العربي والاسلامي. ولكن التذكير بالمباديء شيء ضروري حتي ولو لم نستطع تحقيقها فورا علي ارض الواقع. انها تظل أفقا مستقبليا لنا. أما التعتيم علي الامور وعدم الصراحة في طرح المشكلة فانه يؤدي إلي الخلط بين مفهوم الديموقراطية أو الاغلبية السياسية ومفهوم الاغلبية الطائفية بعد تحويل الديموقراطية إلي مجرد صناديق اقتراع فقط وتفريغها من كل الفلسفة السياسية الحديثة وحقوق الانسان. في هذه الحالة فان الاغلبية المذهبية في ايران سوف تظل تنتخب رئيسا شيعيا إلي ابد الدهر وكذلك الاغلبية الطائفية في مصر رئيسا سنيا الخ.. هذا مناقض تماما للمفهوم الحديث للديموقراطية. هذا يعني انه لا توجد ديموقراطية بالمرة. أو قل لا يوجد منها إلا الآلية الصورية الشكلانية: أي التصويت وصناديق الاقتراع. واختزال الديموقراطية إلي مجرد صناديق الاقتراع يعني اننا لم نفهم شيئا علي فكرة الديموقراطية. فحيث يسود هذا المفهوم، أي في فرنسا وبقية البلدان المتقدمة، فان التصويت لا يتم اطلاقا علي اساس طائفي أو مذهبي وانما علي اساس سياسي محض: أي علي اساس برامج سياسية واجتماعية واقتصادية. في هذه الحالة قد تصوت اغلبية الشعب الالماني مثلا لرجل ينتمي إلي الاقلية المذهبية كهيلموت كول مثلا الذي حكم المانيا لفترة طويلة بل ووحّدها بعد سقوط الشيوعية. وذلك لانه كاثوليكي الاصل في بلاد لوثر ذات الاغلبية البروتستانتية. وربما لم يكن الشعب الالماني الذي انتخبه يعرف انه كاثوليكي لان الامر لم يعد يهمه علي الاطلاق. كما لا يهمه الان ان يعرف ان انجيلا ميركل هي ابنة قس بروتستانتي.. الشيء الوحيد الذي يهمه هو انه، أي هيلموت كول، رجل كفء ويخدم مصلحة المانيا.. نقطة علي السطر.. أما عندنا فأول شيء يتساءلون عنه هو: ماهي طائفته؟ ما هو مذهبه؟ ما هي قبيلته؟ الخ.وذلك قبل ان يعرفوا هل في رأسه شيء ام لا؟ هل هو نزيه قادر علي تحمل المسؤوليات ام لا؟هل هو شخص محترم ام لا؟ كيف يمكن ان تتقدم الشعوب في مثل هذه الحالة؟ ولذا فان الذين يطنطنون بالديموقراطية عندنا صباح مساء هم أبعد الناس عنها وعن الفلسفة السياسية الحديثة التي بلورتها لانهم يخلطون بينها وبين الاغلبية الطائفية التي ستصوت حتما في صناديق الاقتراع لمرشحي هذه الاغلبية بالذات. وهكذا نكون قد خلعنا المشروعية الديموقراطية علي النظام الطائفي الذي جاءت الديموقراطية أصلا لاستئصاله وتخليصنا منه! هنا يكمن الخلط الخادع والخطر بين المفاهيم. ولذا اردت في مقدمة هذه المقالة ان اجلو الغموض المحيط بمفهوم الديموقراطية لكيلا يسطو عليه الطائفيون والديماغوجيون الشعبويون والمروجون للايديولوجيا العربية الرثة..

كيف يطرح اركون مسألة العلاقة بين الفلسفة والديموقراطية؟ في دراسة ممتعة له بعنوان: الاسلام والديموقراطية.أية ديموقراطية؟ وأي اسلام؟ يقول صاحب نقد العقل الإسلامي بما معناه: سوف أبتديئ اولا بتحديد شروط امكانية وجود الديموقراطية أو الفكر الديموقراطي الحر في العالم الإسلامي عربيا كان ام تركيا أو فارسيا ام باكستانيا الخ.. فالفلسفة الكانطية والابستمولوجيا النقدية تعلمنا ان الشيء لا يمكن ان يوجد إلا بعد ان تنضج الظروف وتتوافر شروط امكانية وجوده في بيئة ما ومجتمع ما. الديموقراطية لا تحصل هكذا صدفة أو بشكل ارتجالي. ولكي تنوجد عندنا ينبغي ان نتجاوز اولا كل الانسدادات العقلية والثقافية والقانونية الفقهية والمؤسساتية التي تعرقل وجودها أو تمنعه. هناك عقبات تؤخر من تحقق التجربة الديموقراطية التحررية في السياقات الاسلامية وأولها سيطرة النموذج الاصولي الشعبوي علي الفكر والعقليات وسده للافق.

ثم يضيف اركون قائلا: ينبغي العلم بان المجابهة بين الاسلام والديموقراطية تحيلنا بالضرورة إلي تلك الصراعات التاريخية المحسوسة التي حصلت بين العقل الديني والعقل الفلسفي. ومعلوم ان الاول انتصر علي الثاني في الاسلام حتي سحقه سحقا وصفاه منذ القرن الثالث عشر وحتي اليوم. نقول ذلك علي الرغم من ان عالم الاسلام شهد انبثاق تراث فلسفي خصب بدءا من القرن الثامن الميلادي واستمر حتي موت ابن رشد في أواخر القرن الثاني عشر عام 1198م. وبتصفية العقل الفلسفي لم تعد المناقشة الديموقراطية ممكنة الوجود في العالم العربي الاسلامي. وذلك لان العقائد الدينية لاتناقش وانما يسلم بها تسليما والا قطعت عنقك كما فعلوا مع المعتزلة مثلا بسبب مقولة خلق القرآن. عندئذ انتهت المناظرات الخلافية المبدعة في العالم الإسلامي وانتصر الصوت الواحد والرأي الأوحد وحديث الفرقة الناجية ولا يزال. هنا نلمح العلاقة المباشرة ما بين الفلسفة والديموقراطية. لا يمكن للديموقراطية ان تفرض نفسها في أي مجتمع خال من الفلسفة أو الفكر العقلاني النقدي الذي يقبل بالمجادلة والأخذ والرد وتنظيم المناظرات والمناقشات حول القضايا الكبري التي تهم المجتمع. مجتمع يسيطر عليه الفكر الواحد والجريدة الواحدة وتخمد فيه كل الاصوات المغايرة لا يمكن ان يكون ديموقراطيا.

كان الفيلسوف الفرنسي روجيه بول دروا قد كلف من قبل اليونيسكو بتقديم تقرير عن وضع تعليم الفلسفة في شتي انحاء العالم. وقد نشرته اليونيسكو عام 1995 تحت عنوان: الفلسفة والديموقراطية في العالم. وتبين منه ان الدول التي تعلم الفلسفة علي مستوي المدارس الثانوية قليلة جدا ومحصورة عموما بالدول الغربية المتقدمة. ويري الباحث الفرنسي الذي يشرف علي ملحق الكتب في جريدة اللوموند ان العلاقة بين الفلسفة والديموقراطية وثيقة وتأسيسية. بمعني انه لا فلسفة بدون ديموقراطية ولا ديموقراطية بدون فلسفة. لماذا؟ لان الفلسفة تعلمنا اسلوب المناظرة والجدل وحق الاختلاف واصطراع الآراء والافكار. والمناقشة الديموقراطية بحاجة إلي كل ذلك. أما إذا ما فرضت رأيي عليك بالقوة ودون أي نقاش فلا يمكن ان تكون هناك ديموقراطية. ولا يوجد كلام إلا وهو مقال ومعبر عنه وخاضع للمناقشة والنقد والاعتراض ومحاجات الآخرين. وهذا الشيء ينطبق علي الآراء الفلسفية كما علي المواقف السياسية. لا يوجد شيء اسمه كلام معصوم في مناخ الفلسفة والديموقراطية. ضمن هذا المعني فان الاصولية هي المضاد القطعي للفكرة الديموقراطية لان مرجعياتها معصومة لا تناقش ولا ترد.

يضاف إلي ذلك ان الديموقراطية تفترض المساواة بين البشر. كل شخص له الحق في التدخل في النقاش بغض النظر عن أصله وفصله أو عرقه ودينه ومذهبه. لا أحد احسن من أحد هنا. لا يوجد ابن ست وابن جارية أو ابن الفرقة الناجية وأبناء الفرق الضالة.. هذا كلام كان مقبولا في العصور الوسطي ولكنه مرفوض قطعيا من قبل الفلسفة السياسية الحديثة لحقوق الانسان والمواطن. كل انسان مزود بعقل عموما وله الحق في ان تحترم كرامته بصفته تلك. أما في الماضي، أي في ظل سيطرة اللاهوت المسيحي، فلم يكن يحق للبروتستانتي ان يفتح فمه في فرنسا الكاثوليكية، كما ولم يكن يحق للكاثوليكي ان يفتح فمه في انكلترا الانغليكانية البروتستانتية. كان يعتبر مواطنا من الدرجة الثانية أو الثالثة تماما كما هو عليه الحال الان في العالم العربي والاسلامي. ولهذا السبب نقول بان الاصولية الدينية هي العدو اللدود للديموقراطية كما وللفلسفة ايضا. وهنا نلمس لمس اليد المأزق التناقضي للديموقراطية في العالم العربي والاسلامي. فاذا ما أعطينا حق التصويت الحر للناس فمن المرجح انهم سينتخبون أغلبيات أصولية طائفية كما حصل في الجزائر مثلا بداية التسعينات وكما حصل في فلسطين مع حماس الخ.. وهكذا باسم الديموقراطية نئد الديموقراطية في مهدها، وباسم الحرية نقتل الحرية. والسبب هو اننا نختزل الديموقراطية إلي مجرد صناديق الاقتراع في حين انها اعمق من ذلك واوسع بكثير. ولهذا السبب فان الشعب لم ينل حق التصويت في انكلترا، أعرق ديموقراطية في العالم، إلا علي مراحل. في البداية كان حق التصويت محصورا بالنخب الثقافية والسياسية والصناعية ثم توسع الامر تدريجيا علي مدار قرن ونصف حتي نال الشعب الانكليزي اخيرا كله حق التصويت بعد ان استنار وتعلم وتخلص من الأمية والجهل والتعصب الديني. فالوعاء ينضح بما فيه. والشعب إذا كان متخلفا أصوليا أميا سينتخب المتخلفين المتعصبين أما دينيا واما شوفينيا قوميا واما الاثنين معا. ميلوزوفيتش الفاشي انتخبه الشعب الصربي ديموقراطيا وكذلك هتلر! هتلر وصل إلي السلطة عن طريق صناديق الاقتراع. وبالتالي فحذار من الخلط بشكل اتوماتيكي بين الديموقراطية والحرية. فالديموقراطية قد تؤدي إلي ابشع انواع الانظمة الديكتاتورية. وهنا تكمن المفارقة الكبري. وهذا ما شرحه بشكل واضح ومقنع المفكر الامريكي من اصل هندي مسلم: فريد زكريا في كتابه: مستقبل الحرية. الديموقراطية المضادة للحرية في اميركا وبقية العالم.

هل تعتقدون بانه لو استلم علي بلحاج وعباسي مدني والجبهة الاسلامية للانقاذ السلطة في الجزائر عام 1991 فان الحرية كانت ستغمر الشعب الجزائري رجالا ونساء؟ كانوا سيطبقون نظاما يشبه نظام الطالبان تقريبا.. ولهذا السبب نقول بان المهم في المرحلة الاولي هو وجود الدولة الليبرالية الدستورية: أي دولة القانون والمؤسسات التي تحافظ علي مصالح الناس وتعاملهم علي قدم المساواة وتطبق القانون علي الجميع وتحمي الحريات الفردية. بعدئذ تجيء الديموقراطية بشكل تدريجي. ودول اوروبا الغربية المتقدمة لم تصبح ديموقراطية وليبرالية دستورية إلا بعد الحرب العالمية الثانية. في البداية كانت فقط ليبرالية دستورية تحترم القانون. وحق التصويت لم يعط للنساء في فرنسا إلا من قبل الجنرال ديغول عام 1946. من يصدق ذلك؟ وفي عام 1830 كان يحق لاثنين بالمائة فقط من الشعب الانكليزي، ومن علية القوم، ان يصوتوا. ولكن بعد مائة سنة من ذلك التاريخ اصبح حق التصويت مضمونا للشعب الانكليزي بمجمله دون استثناء. وبالتالي فعلي مهلكم قليلا ايها السادة. الديموقراطية ليست مزحة بسيطة ولا كلاما رخيصا يلقي علي عواهنه هكذا في الهواء.. الديموقراطية تجربة تاريخية ضخمة ومعقدة ويصعب علي الانسان ان يتقبلها بسهولة. الانسان بطبعه ميال إلي الاستبداد لا إلي الديموقراطية لانه يكره من ينتقده أو يخالفه في الرأي. والكلمة المنسوبة إلي فولتير: قد أخالفك في الرأي ولكني مستعد لان أضحي بروحي لكي تستطيع التعبير عن رأيك، هي مثالية جدا ورائعة بالطبع.. ولكن يصعب علينا تطبيقها أو التقيد بها. وحدها المجتمعات العريقة التي ترسخت فيها الممارسات الديموقراطية منذ زمن طويل كالسويد والدانمارك وانكلترا وبقية الدول المتقدمة تستطيع تطبيقها. وبالتالي فاني آسف لاني سأزف لكم هذا النبأ المزعج: ان دمقرطة العالم العربي لن تتم بين عشية وضحاها وانما ستستغرق زمنا طويلا. الديموقراطية ليست غدا وانما بعد غد.. وكلما تقدمنا خطوتين إلي الامام رجعنا خطوة إلي الخلف لكي نلتقط أنفاسنا ونبلع أو نهضم الخطوة التي قطعناها وأنجزناها. هذا هو ثمن التقدم: انه غال ويدفع مقابله عرق ودم. وأهم شيء الان ليس الديموقراطية وانما الانتقال من حكم التعسف والاعتباط والاستبداد إلي حكم القانون الذي يحفظ حقوق الناس وبناء المؤسسات التي تطبقه. ينبغي ان يوجد قانون ينطبق علي الجميع. وينبغي ان توجد مؤسسات تطبق هذا القانون علي الجميع لا فرق بين كبير وصغير أو غني وفقير أو متدين وغير متدين أو ابن الاغلبية وابن الاقلية أو ابن رئيس الدولة وابن عامة الشعب الخ.. كلهم واقعون تحت حكم القانون أو ينبغي ان يكونوا. بعدئذ تجيء الديموقراطية علي مراحل كما قلنا. ولكن إذا امكن تطبيقها فورا فسيكون افضل بشرط ان تمارس علي قاعدة القانون المدني وفلسفة حقوق الانسان والمواطن لا علي اساس القانون الديني أو الفقه القديم. لماذا؟ لانه كما ذكرنا سوف يميز بالضرورة بين المتدين وغير المتدين، بين المسلم والمسيحي، بين الشيعي والسني الخ.. ويقضي علي فكرة المواطنية من اساسها. اللهم إلا إذا قبلنا بفكرة مواطن درجة اولي ومواطن درجة ثانية وربما ثالثة داخل المجتمع كما كانوا يفعلون في العصور القديمة السابقة علي الثورات السياسية الحديثة: أي الثورة الانكليزية والثورة الامريكية والثورة الفرنسية...

فهل سنعود إلي قانون الجزية وأهل الذمة في بدايات هذا القرن الواحد والعشرين؟ هل سنعود إلي حديث الفرقة الناجية وفقه القرون الوسطي الذي كفّر المعتزلة والفلاسفة والشيعة والخوارج وبعض المذاهب الاسلامية الأخري؟ هل سنطبق الحدود البدنية حرفيا كما فعلت الطالبان؟ ام اننا سنقبل بالمساواة الكاملة بين المواطنين ونحل الدولة المدنية محل الدولة الدينية ونجدد فهم الدين الإسلامي جذريا كما فعل فلاسفة التنوير في اوروبا؟ هل يعتقدون بان الفهم الحالي السائد عن الاسلام منذ العصور الوسطي والانحطاطية يعرقل تطبيق الديموقراطية ام لا؟ أتمني لو يجيبني المثقفون الذين يتشدقون بالديموقراطية صباح مساء عن هذا السؤال أو عن هذه الاسئلة كلها؟ كيف يمكن ان أتحدث عن الديموقراطية ثم أتحالف سياسيا مع التنظيمات الاصولية التي تكفر شرائح باكملها من الشعب بل وتدعو إلي التمييز ضدها ان لم يكن اباحة دمها علي الهوية الطائفية؟ المعتزلة أبيحت دماؤهم من قبل الحنابلة قبل الف سنة ولم تقم لهم قائمة منذ ذلك الوقت وحتي يومنا هذا. نقول ذلك علي الرغم من انهم اكثر المذاهب عقلانية في الاسلام. ومع ذلك فقد صنفوا في خانة الفرق الضالة المنحرفة..

المفكر الإسلامي المستنير محمد الطالبي يدعو بكل جرأة إلي تحييد الشريعة أو اعادة تأويلها من اجل تحييدها وتعليق تطبيق الحدود. فهو يعتقد انه لا معني اطلاقا لجلد التونسي الذي يشرب كأسا من الويسكي أو الخمر ثمانين جلدة. واذا ما منعناه عن الشرب جهارا فسوف يشرب سرا ونعوّد المجتمع علي النفاق والازدواجية والشيزوفرينيا.. وقل الامر ذاته عن رجم المرأة المخطئة التي لم يقبل طارق رمضان بتأجيل حد الرجم، وليس الغاءه، إلا علي مضض وبعد ان حشره نيكولا ساركوزي في الزاوية في تلك المناظرة الشهيرة. ولكن أخاه المتشدد هاني رمضان ظل مصرا علي القراءة الحرفية للقرآن أو بالاحري للحديث النبوي وطالب بتطبيق الرجم كالطالبان وبعض المتعصبين في ايران والسودان وسواهما.. والواقع انه علي عكس ما يتوهم جمهور المسلمين فان حد الرجم ليس قرآنيا. وقد كان موجودا في الشريعة اليهودية قبل الاسلامية ولكن اليهود تطوروا لاحقا وعقلنوا دينهم وألغوا تطبيقه. لحسن الحظ فان حكومة القائد الإسلامي العقلاني طيب رجب اردوغان سحبت قانون تجريم الزنا من البرلمان بعد ان كاد الاصوليون الاتراك يصوتون عليه ويعودون بالبلاد قرونا إلي الوراء. ومعظم القوانين التركية اصبحت وضعية مدنية حديثة في ظل الحزب الإصولي الحاكم! وهنا تكمن المفارقة الكبري ايضا وربما مكر التاريخ كما يقول هيغل. ولكن هل لا يزال اصوليا يا تري؟ هنا يمكن ان نأخذ التجربة التركية كمثال علي التيار الإسلامي المنفتح علي الحداثة والقوانين العصرية. انها تزاوج بشكل موفق وناجح بين الاصالة والمعاصرة، بين التراث الإسلامي العريق والتجديد الاوروبي المبتكر. وهذا هو الاسلام الليبرالي المستنير الذي يدعو اليه اركون والذي يعتبر استمرارية وتطويرا لفكر الفارابي ومسكويه والتوحيدي وكل التنوير العربي عندما كانت حضارتنا العربية الاسلامية تشع علي العالم بأنوارها من عصر الرشيد والمأمون إلي عصر البويهيين والفاطميين والاندلسيين.. ولا أعرف لماذا لا يمشي اخوان سوريا في هذا الاتجاه وهم الاقرب عقائديا وجغرافيا ومذهبيا لاخوان تركيا الذين يحكمون الان بكل ذكاء وألمعية. إذا ما مشوا فيه فاني اول من يقبل بهم ويصافحهم بل ويعانقهم. أما قبل ذلك فمستحيل. ولكن القائد الاصولي المغربي عبد الاله بنكيران يعترف بكل نزاهة بان تنظيمه غير جاهز الان لان يقلد التجربة التركية المتجرئة علي التجديد اكثر من اللزوم. الشروط لم تتوافر بعد في المغرب لتحقيق مثل هذه القفزة الكبيرة في المجهول.. شكرا للصراحة والوضوح. هذا رجل يحترم نفسه ولا يزاود ولا يكابر. ولكن ما هو مستحيل اليوم قد يصبح ممكنا غدا كما علمتنا التجربة التاريخية. لا ريب في ان الاصوليين الاتراك اضطروا إلي احداث كل هذا التطور أو البدع الخطيرة الرائعة لسببين اساسيين: اولهما مراقبة الاتحاد الاوروبي لهم عن كثب، وثانيهما قوة التيار العلماني في بلاد أتاتورك وهيمنته علي القطاعات العليا البورجوازية والمثقفة من المجتمع التركي.