Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 الأحزاب الدينية والدولة الديمقراطية

 

 

 جريدة الخليج الإماراتية

18 نوفمبر 2005

د.  أحمد خليل أحمد

كلما تراجعت ثقافة الحرية بين الناس، صار امرهم في أيدي آخرين، من بينهم أو من خارجهم. فلماذا تفجر المشرق العربي الكبير منذ 1967 وحتى الآن؟ ولماذا لم تحظَ الأمة العربية الكبرى بمكانتها بين الأمم - الدول: ثم بموقعها المشرّف على خرائط العولمة؟ وأخيراً كيف تقدم قليلون في العالم الثالث وخرجوا من تخلّفهم، ولم يكن كل العرب في عدادهم؟ أسئلة واضحة لم تحظ علمياً بغير أجوبة غامضة، وفي حالة وضوحها جاءت ايديولوجية، جزئية.

إن قرار تأميم قناة السويس سنة ،1956 الذي بشر بمولد أمة بعدة دول، أسس بعضها “جامعة” اي اتحاداً او تضامناً قومياً، وانضم اليها على مراحل بعض آخر من دول ناشئة، ملكية وجمهورية، إنما جُوبه بحروب متتالية، عنوانها “الغرب حرب على العرب”. وكان هذا الغرب ومازال يتضمن الصهيونية وانموذجها “الإسرائيلي” على أرض فلسطين، وكانت العروبة كهوية قومية تكتفي بمحرضها الإيديولوجي، فيما هي بحاجة الى الدولة العربية الديمقراطية، المصدر الأرفع لكل هوية حديثة. كما جوبه مولدُ هذه الأمة في عدة دول، بثقافة دينية تحد من ثقافة الحرية لدى الجمهور، وتثمر هذا الجمهور في صراع الأحزاب الدينية- منذ الإخوان المسلمين حتى حزب الله في لبنان وحماس الفلسطينية وأحزاب الدعوة والمهدي وبدر في العراق- مع السلطة القائمة، لا لبناء دولة ديمقراطية ويستحيل أصلاً بناؤها في غياب الحريات السياسية وحقوق المواطنة، بل للإطاحة عسكرياً، حربياً وشعبوياً بالدولة الوطنية، أي الجامعة لكل المواطنين، بدعوى ان الحاكم او الحاكمين غير وطنيين، واعتماد التخوين بدلاً من توطين الناس في دولتهم، وتوطين الدول العربية الوطنية في اتخاذ ما. إن هذه الآلية السياسية التفكيكية التي اعتمدتها معظم الأحزاب الدينية في لبنان والعالم العربي، أدت في ما أدت الى استبعاد الدولة الديمقراطية كخيار سياسي استراتيجي، وجعلت وهم الدولة الإيديولوجية- الإسلامية عند أبي الأعلى المودودي في باكستان حلاً طوباوياً لعالم إسلامي تنوف دوله على الستين دولة في آسيا وافريقيا.
وبقدر ما كانت باكستان- اول دولة اسلامية، 1947- بعيدة من “إسرائيل” او دولة دينية يبنيها الغرب على ارض الإسلام لمواجهة دول المنطقة، قدمت إيران نفسها، ك “جمهورية إسلامية” وفي واقعها هي “دولة مذهب”، بديلاً في المشرق العربي أولاً، من جامعة الدول العربية، ومن الأنظمة الوطنية ودولها ثانياً.
وعلى ايقاع آخر حربين بين الدول العربية و”اسرائيل”، 1967 و،1973 تعمّدت سوريا مواصلة حربها ضد “إسرائيل”، لا بسلاحها ولا بنظامها “العلماني” ولا بخطابها القومي، بل بواسطة أحزاب دينية، مسلحة، مقاومة للعدو، مشاركة في سلطة الدول التي تعيش في كنفها، وقابلة للتوظيف في حروب أهلية. هذه الأحزاب يجمعها علناً عداؤها ل “اسرائيل”، واعتبار الحرب عليها “مقدسة”، وسراً عداؤها للدولة الوطنية الديمقراطية القائمة كدولة لبنان ودولة العراق- او المزمع قيامها كالدولة الفلسطينية العتيدة، التي تراجعت جراء ذلك من سلطة وطنية الى لا سلطة حالياً.
لا ريب أن تنوع الأقطار العربية ودولها ليس سبباً بذاته لهذه التفجيرات الحربية المتوالية، التي ذهب في داخلها من الضحايا أكثر بكثير مما ذهب، جراء الحروب العدوانية “الإسرائيلية” والأمريكية والغربية عموماً. إلا أن هذا التنوع الدولي العربي كان وما برح أمام مسارين متلازمين: إما مسار التقارب والتفاعل السياسي والتضامن الاقتصادي- الاجتماعي والتثاقف النهضوي الحر، وإما مسار التباعد، والتمحور والانعزال والانغلاق الفكري، وتالياً التفكك بمواجهة الخارج لحماية الداخل. المؤسف هو أن المسار الثاني فاق بتطوره المسار النهضوي الأول، فجعل كل تخلف في المجتمع العربي الأهلي- اي المجتمع كما هو بلا حوافز حضارية- ينعكس على الدولة الوطنية نفسها، مستبعداً الانتقال، باستبعاد الحرية السياسية والعقلانية، الى المجتمع المدني، اي المجتمع العلمي المتحضر، وتالياً مستبعداً الدولة الديمقراطية المدنية، ومفسحاً في المجالات أمام الأحزاب الدينية، العربية، والموالية لغير العرب. والحال، تراجعت الأحزاب والجمعيات المدنية في العالم العربي، ما عدا الأحزاب الحاكمة بقوة المؤسسة العسكرية، مصر، سوريا، السودان، الجزائر، الخ.. وبلغ نمو بعضها درجة الصفر، فيما فاعت الأحزاب الدينية، بدعوة الجهادية واقامة بؤر مالية - عسكرية داخل مجتمعاتها. هذه الأحوال حالت وتحول دون ظهور نهضة عربية مدنية. الأمر الذي يمنع تطور الدول العربية بمواجهة عولمة اغتصابية عنفوانية، وبمواجهة أحزاب دينية، يسهم تفكيكها لمجتمعاتها في تأخير ولادة الدولة الديمقراطية، وتقدم المجتمع نحو العلم، بعدما توغل بعيداً في ادغال الخرافات الدينية - السياسية.
لا خيار للعرب كلهم سوى التوجه، بلا مراوغة او مهادنة نحو بناء الدولة العربية الاتحادية، الديمقراطية واللامركزية، التي تحفظ لكل جماعة خصيصتها، وتحافظ على سمات النظام القائم او الافضل لإدارتها المباشرة.
آن الأوان لظهور الواقعية العقلانية العربية، واعتماد فلسفة الحرية كمدخل لكل تقدم، وإطلاق حريات المجتمع الأهلي والجمعيات غير الحكومية- ومنها الأحزاب الديمقراطية- حتى لا يظل العرب يدورون في فلك الانفجارات الأهلية والتخلف عن الركب الحضاري العالمي، وحتى لا تتحول الأمة العربية الكبرى الى مجرد حقل اختبارات لكل الراغبين شرقاً وغرباً.