Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 الإشكالات الراهنة للفكر القومي

 جريدة الإتحاد الإماراتية

7 ديسمبر 2008

د. السيد ولد أباه

استمعت إلى مسؤول عراقي كبير، يُرجع كل أزمات العراق وهمومه إلى الأيديولوجيا القومية العربية، التي اعتبر أنها منذ دخلت بلاده في نهاية الخمسينيات فجرت النسيج الاجتماعي، وكرست الاستبداد والقمع مسلكاً للحكم. وخلص المسؤول العراقي إلى أن الفكرة القومية لم تعد تلائم عصر العولمة والتحول الديمقراطي، لأنها "نزعة فاشية عدوانية".

ليس هذا الكلام بالنشاز في أيامنا، فقد شاع بقوة في الآونة الأخيرة، وتبنته بجلاء الأدبيات الاستراتيجية الأميركية في دوائر "المحافظين الجدد"، كما أن اتجاهاً واسعاً في وسط التيارين الإسلامي والليبرالي يذهب إلى هذا الرأي لاعتبارات متباينة:

فالإسلاميون نظروا دوماً بعين الريبة إلى الفكر القومي، واعتبروه المدخل الرئيسي للعلمنة في الثقافة العربية، كما اصطدموا بشراسة مع الأنظمة القومية التي حكمت البلدان العربية في السنوات الخمسين الأخيرة.

والليبراليون يرون في الدعوة القومية نكوصاً إلى التصورات الانتمائية الضيقة التي تشكل خطراً على فكرة الأمة في دلالتها الديمقراطية من حيث هي وحدة كلية قائمة على رباط التعاقد الاجتماعي الحر، كما أنهم اعتبروا أن الأنظمة العروبية كانت أكثر الأنظمة العربية استبداداً وقمعاً، ووظفت المثال القومي لتعطيل الحريات في أفق وحدة اندماجية هي شرط كل انفتاح سياسي.

ينضاف إلى هذين الاتجاهين المسلك التفكيكي النقدي لفكر الهوية الذي طغى على الكتابات الفلسفية العربية في الأعوام الأخيرة، تأثراً بالموضات الفلسفية الغربية التي هيمنت عليها أدبيات الاختلاف الساعية إلى تقويض الوحدات الكلية التي انبثقت عن عصور الحداثة، وفي مقدمتها الدولة – الأمة بصفتها دعامة النسق السياسي– الأيديولوجي الغربي.

وفي مقابل هذا التوجه النقدي للأيديولوجيا القومية، تبلور خط ثالث يتبنى الحفاظ على المثال الوحدوي العروبي، مع مراجعة شاملة لمرتكزاته النظرية والأيديولوجية، تمحور حول مؤسسة بحثية رائدة هي مركز دراسات الوحدة العربية، التي هي الآن في طور تقديم خطة شاملة للنهوض بالفكر القومي باسم "المشروع النهضوي العربي الجديد"، الذي أسهم في صياغته جمع واسع من المفكرين والممارسين العرب من شتى المشارب الفكرية.

وليس من همنا الدخول في نقاش مستفيض حول تجربة المشروع القومي العربي، وإنما أردنا أن نبين أن هذا المشروع الذي أخذ النموذج الأوروبي الحديث عانى منذ بداية تشكله من ثغرتين، نادراً ما تتم الإشارة إليهما هما:

أولا: الانفصام بين الفقه السياسي ومثله التنويري، بمعنى أنه على عكس المشروع القومي الأوروبي لم يستبطن المفاهيم والقيم الفلسفية والمجتمعية لفكر التنوير، الذي سبق في النشأة الأيديولوجيا القومية في أوروبا. فمن الواضح أن بوادر الدعوة القومية في المشرق العربي ارتبطت بمطالب الأقليات الدينية في الإمبراطورية العثمانية وعكست دعوة انفصالية محضة، في الوقت الذي كانت الدعوة القومية الأوروبية ذات منحى كوني شمولي لاستنادها الى قيم العقلانية الحديثة التي اعتبرت الدولة المجسدة للرباط المشترك التعبير المؤسسي لها.

ثانياً:ساد في الأيديولوجيا العربية التصور الألماني للأمة الذي كان نشازا في أوروبا وسبب الكثير من المحن التي مست الدولة الجرمانية والقارة القديمة في مجملها.والمعروف أن التصور الألماني يستند الى عوامل اللغة والثقافة والتاريخ والدم، ويقوم على ضرورة قيام الدولة المركزية القوية التي توحد الأقاليم المنتمية لهذا الفضاء الثقافي. في مقابل هذا التصور اعتبرت القوميات الأوروبية الأخرى أن الأمة رباط سياسي تعاقدي، له أرضيته الثقافية الصلبة لا محالة، لكنه لا يتماهى معها ضرورة.

ومن هنا ندرك كيف وقع الانفصام باكراً بين الأيديولوجيا القومية العربية والتيار التنويري الليبرالي الذي تحالف مع بناة الدولة الوطنية الجديدة التي يطلق عليها القوميون تسمية "الكيان القطري"، ويعتبرونها صنيعة المخططات الاستعمارية. بل إن أهم المفكرين الليبراليين في منتصف القرن العشرين تبنوا بوضوح خط الاندماج في الفضاء الأوروبي في مقابل الدعوات الاندماجية العربية أو الإحيائية للخلافة الإسلامية (طه حسين في مصر وأتاتورك في تركيا ...).

وعلى الرغم أن أوائل مفكري الأيديولوجيا القومية، كانوا واسعي الثقافة الحديثة، بيد أنهم انتهوا في نهاية المطاف إلى التأثر بالنظريات والأفكار النقدية للتنوير، إما من منطلقات فلسفية محضة (كبرغسونية ميشل عفلق ووجودية زكي الأرسوزي)، أو من منطلقات عالمثالثية تحررية (ككتابات فرانز فانون الناقدة للهيمنة الثقافية). وفي نهاية المطاف سيطرت المفاهيم الأيديولوجية الماركسية على الخطاب القومي الذي رفع الشعار الاشتراكي، مما كرس قطيعة كاملة مع السجل النظري الليبرالي وقيمه التنويرية.

كما أن التركز الثقافي لمفهوم الأمة حجب الكثير من الإشكاليات المحورية، من بينها بصفة خاصة إشكالية العلاقة بين الانتماء الثقافي للمجموعة وشكل نظامها السياسي. إنه الإشكال النظري الخصب الذي أخذ في الفكر الغربي مسلكين، ذهب أحدهما إلى أن الهوية القومية تستدعي الشكل المؤسسي المعبر عن خصوصيته، في حين ذهب الآخر إلى أن الهوية هي حصيلة الانتماء المشترك القائم على التوافق الحر في إطار دولة جامعة مكرسة للأمة في اختلافها القومي والثقافي.

ولا يزال الإشكال مطروحاً بقوة اليوم في الفكر السياسي الغربي عبر خلفيتين متمايزتين:

أولاهما: الحوار الذي ولدته حركة الهجرة الكثيفة من الجنوب (تركيا والعالم العربي) داخل المجتمعات الأوروبية، التي أصبحت تعرف تحديات التعددية الثقافية غير القابلة للاحتواء داخل نظام العلمنة القومية.

ثانيتهما:حركة الاندماج الأوروبي التي ولدت شكلاً جديداً من الهوية على حساب التميز القومي (الدولة الوطنية المجسدة للأمة).

ومصدر الإشكال هنا أن الفكر القومي الأوروبي قام على علاقة ملتبسة بين المنظور المعياري للأمة ككيان انتماء ثقافي والمنظور الإجرائي للأمة ككيان تعاقدي، ومن هنا التأرجح اليوم بين الاعتراف بحقوق التنوع الثقافي في النظام السياسي مع ما يجره هذا الاعتراف من مخاطر على انسجام وتناسق الأمة وعلى الطابع العلماني للدولة، وتوطيد خط "المواطنة الدستورية "، الذي رأى فيه الفيلسوف الألماني الكبير "هابرماس" شرط التخلي عن المنظور القومي للأمة لصالح تجذير النظام الديمقراطي وتوسيع مجاله كونياً.

ليست بطبيعة الأمر هذه هي الإشكاليات المطروحة عربياً، بيد أن العلاقة بين المقوم الثقافي للهوية وشكل التعبير السياسي عنها تطرح أسئلة عصية من منظور آخر تستدعي وقفة مفصلة.