Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 صمويل هنتنجتون.. هل من المحتم أن تتصادم الحضارات؟

 Alaraby_Logo

  

 

مجلة العربي

51 يوليو 2009

فخري صالح

 

 

يصعب أن ينظر إلى الكاتب والباحث الأكاديمي الأمريكي الراحل صمويل هنتنجتون (1927 - 2008) إلا بوصفه واحدا من الشخصيات الثقافية التي تمثل مرحلة، أو مفصلا تاريخيا كونيا.

 

ذاعت شهرة هنتنجتون بعد صدور كتابه «صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي» تزامنت مع سقوط الاتحاد السوفييتي وأفول نجم الشيوعية في العالم. كما أن هذه الشهرة تجددت مع ما حدث في الولايات المتحدة في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 من تدمير برجي مركز التجارة العالمي، وسقوط حوالي ثلاثة آلاف قتيل أمريكي جراء الهجوم بطائرات محملة بالركاب والذي نسب إلى تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن.

          استنادا إلى هذه الخلفية من الأحداث السياسية، التي حولت مسار التاريخ ووضعت البشرية على منحنى تاريخي غير من طبيعة علاقات القوة بين الدول والجماعات السياسية في العالم، برزت أهمية ما كتبه هنتنجتون سواء في كتبه الأولى: النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة (1968)، أزمة الديمقراطية (1976)، السياسة الأمريكية (1981)، الموجة الثالثة: نشر الديمقراطية في نهاية القرن العشرين (1991)، أو في كتابيه التاليين: صدام الحضارات (1996)، و«من نحن؟: الجدل الأمريكي الكبير» (2004). ففي هذه الكتب جميعها يبدو هنتنجتون مهموما بمستقبل أمريكا السياسي ووحدتها الداخلية وطبيعة العلاقات بين مكوناتها العرقية والدينية الثقافية، وكذلك بهيمنتها على المستوى الدولي وإمكان بقائها قوة عظمى قادرة على وراثة النظام العالمي.

          لقد عمل هنتنجتون - منذ تخرجه في جامعة ييل في سن الثامنة عشرة وحصوله على الدكتوراه من جامعة هارفارد وهو في سن الثالثة والعشرين - على إقامة بناء نظري، في كتاباته الأكاديمية، للحفاظ على الهيمنة الأمريكية بوصف أمريكا قوة كبرى صاعدة بعد الحرب العالمية الثانية؛ ويمكن القول إنه، رغم سطوع نجمه المتأخر في نهايات القرن العشرين، ظل واحدا من الأكاديميين المؤثرين في السياسة الأمريكية في عهود مختلفة من حكم الديمقراطيين والجمهوريين، إذ احتل عدة مناصب استشارية كما عمل في البيت الأبيض في عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. لكن شهرة هنتنجتون تستند إلى كتابه «صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي» الذي صيغ كأطروحة استراتيجية لإلهام صناع القرار، في الولايات المتحدة بخـاصة، والغرب بعامة، لاستخدام مقولة «صدام الحضارات» بوصفها استراتيجية سياسية يمكن لها أن تحل محل «الحرب الباردة» التي زالت بزوال الاتحاد السوفييتي.

          ويمكن لقارئ الكتاب أن يتبين تركيز هنتنجتون على الإسلام بوصفه عدوا محتملا خلال السنوات التالية لصدور الكتاب.

مقالة صنعت شهرته      

تقوم المادة الأساسية للكتاب على مقالة كان هنتنجتون قد نشرها في مجلة «الشئون الخارجية» الأمريكيةعام 1993 بعنوان: «صدام الحضارات». وقد أثارت تلك المقالة من النقاش خلال السنوات التي تلت ما لم تثره مقالة أخرى نشرتها المجلة منذ أربعينيات القرن الماضي، كما يقول محررو المجلة التي تعد في الحقيقة المطبوعة التي يمكن للمهتمين التعرف في ما ينشر فيها على صياغة السياسات الخارجية الأمريكية، وعلى الطروحات الاختبارية، التي ينوي صانع القرار الأمريكي معرفة ردود الفعل عليها قبل تبنيها واعتمادها للتنفيذ. ويبدو أن مقالة هنتنجتون ذائعة الصيت، بغض النظر عن صحة طروحاتها وقيمتها المعرفية، هي من بين المقالات التي تفوح من بين سطورها رغبة صانع القرار في أمريكا في تبني صيغة جديدة من صيغ إدارة الصراع في العالم بعد زوال ما كان يسميه الغرب «الخطر الشيوعي»، وتلاشي حقبة «الحرب الباردة». وبمعنى أكثر وضوحا فإن مقالة هنتنجتون كانت تبحث في تركيزها غير المبرر على ما سماه الكاتب «صدام الحضارات» عن عدو جديد يوحد الغرب: أوربا وأمريكا، ضد ما يسميه «الحضارات الأخرى غير الغربية».

الحضارات وتهديد السلم

          يشير هنتنجتون في مقدمة كتابه، الذي يعد تطويرا لتلك المقالة وبناء على أفكارها الأساسية، إلى أن «صدام الحضارات» أثارت من التعاطف والغضب والخوف والدهشة والشكوك، في كل أصقاع الأرض، ما لم يثره أي شيء كتبه من قبل. ونحن نعلم أن هنتنجتون لم يكن معروفا قبل هذه المقالة التي صنعت شهرته العالمية بما أثارته من أصداء وتعليقات وهجوم شرس عليها. أما في هذا الكتاب فإن هنتنجتون يعمل على تطوير أفكار تلك المقالة وتعديلها والإضافة إليها وتغطية العديد من الموضوعات التي مسها مسا خفيفا في تلك المقالة قليلة الصفحات. وتتضمن فصول الكتاب مناقشة موضوعات عدة هي: مفهوم الحضارة، ومفهوم الحضارة الكونية، والعلاقة بين السلطة والثقافة، وتبدل توازن القوة بين الحضارات، وتبني المجتمعات غير الغربية للثقافة الغربية، وتمثل تلك المجتمعات لهذه الثقافة، والبنية السياسية للحضارات، والصراعات التي تولدها الحضارة الغربية إذ تقدم نفسها بصفتها الحضارة الكونية، والإسلام السياسي، وبروز الصين كقوة كونية كبرى وما يتبع ذلك من تسابق على التسلح بين جاراتها، ومستقبل الغرب والعالم الذي يتشكل من حضارات أساسية كبرى.

          انطلاقا من هذه الخطوط الكبرى التي يضعها هنتنجتون لكتابه يقول إن: «صدام الحضارات يمثل التهديد الأكبر للسلم العالمي، والتوصل إلى نظام عالمي يستند إلى الحضارات يوفر الوسيلة المثلى لمنع نشوب حرب عالمية». بناء على ذلك فإن المؤلف لا يعد كتابه بحثا في العلم الاجتماعي، بل تفسير للتطورات السياسية على الصعيد الكوني بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة، في الوقت الذي يطمح فيه إلى تقديم نموذج لتفسير السياسات الكونية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بحيث يكون هذا النموذج مفيدا للباحثين وصناع القرار في العالم.

          إن الهدف سياسي بالأساس، ومقالة هنتنجتون، وكذلك كتابه هما أداتان يقصد منهما توفير سياسة خارجية مبنية على دوام حضور العدو في الفكر السياسي الغربي. وإذا كان «الروس القادمون» سابقا، ومعهم دول العالم الثالث القومية واليسارية، قد فقدوا وظيفة التهديد التي كانوا يوفرونها فإن اصطناع أعداء جدد، الحضارات غير الغربية في هذه الحالة: الإسلامية والكونفوشيوسية والأرثوذوكسية، هو بديل حقبة الحرب الباردة والخطوط السياسية الفاصلة التي كانت توفرها.

          يجادل هنتنجتون في «صدام الحضارات» أن البشر في حقبة ما بعد الحرب الباردة أخذوا يكتشفون من جديد هوياتهم الثقافية، التي تعني لهم أكثر بكثير مما يعنيه أي شيء آخر. وقد أصبحنا نرى، لهذا السبب، أعلاما ترتفع وصلبانا وأهلة وأغطية رأس للدلالة على الهويات الثقافية القديمة. ويتخوف الكاتب من أن تؤدي الاصطفافات الجديدة، استنادا إلى الانتماءات الحضارية، إلى اندلاع حروب بين الأعداء الحضاريين القدماء، خصوصا أن البشر الذين يبحثون عن هوياتهم الثقافية ويعيدون الارتباط بالأعراق التي ينتمون إليها بحاجة إلى أعداء يؤكدون لهم اختلافهم. ومن هنا فإن المحور المركزي للكتاب هو أن الثقافة والهويات الثقافية، أي الحضارات بالمفهوم الأوسع، ستشكل أنماط الصراع والصدام والتفكك في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ويبني هنتنجتون أطروحته على عدة استنتاجات:

          1 - إن العالم أصبح لأول مرة، ومنذ مدة زمنية طويلة، متعدد الأقطاب ومتعدد الحضارات؛ فالحداثة تتميز عن التغريب، ولاينتج عنها، كما يظن بعض المفكرين السياسيين، ما يسمى الحضارة الكونية الشاملة.

          2 - يحدث في هذه الحقبة من تاريخ العالم تغير في موازين القوى بين الحضارات البشرية المختلفة، فقوة الغرب في انحدار، والحضارات الآسيوية تتوسع وتزيد من قواها الاقتصادية والعسكرية والسياسية. في الوقت نفسه يتمدد الوجود الإسلامي على الصعيد الديموجرافي وينتج عن هذا التمدد اختلال في توازن القوى داخل البلدان الإسلامية وبين هذه البلدان وجيرانها.

          3 - ظهور نظام عالمي جديد قائم على الخطوط والتمايزات الحضارية بحيث تتعاون الدول فيما بينها استنادا إلى كونها تنتمي إلى حضارة بعينها، وليس العكس.

          4 - إن ادعاء الغرب بأنه يمثل الحضارة الكونية الشاملة يدخله في صراع قادم مع الحضارات الأخرى خصوصا الحضارتين الصينية والإسلامية.

          5 - إن قدرة الغرب على البقاء كقوة رئيسية في العالم تعتمد على إعادة تأكيد الأمريكان على هويتهم الثقافية الغربية، وعلى تشديد الغربيين على هذه الهوية الثقافية بوصفها ذات طبيعة كونية شاملة موحدة، تجعلهم يواجهون تحديات الحضارات الأخرى. ويعتمد تجنب حدوث حروب كونية بين الحضارات المختلفة على اتفاق قادة العالم على الحفاظ على تعددية الهويات الحضارية في السياسات الكونية.

ثلاث كتل سياسية

          يشير هنتنجتون إلى أن هناك سبع أو ثماني حضارات ستحل مكان العالم القديم الذي تشكل في السابق من ثلاث كتل سياسية: أي الغرب والكتلة الاشتراكية ودول عدم الانحياز. وفي هذا العالم الجديد ستكون الصراعات الخطيرة الناشئة مركزة بين المجموعات الحضارية، حيث يمكن أن تتحول الصراعات الدموية التي اشتعلت في البوسنة والقوقاز وآسيا الوسطى وكشمير إلى حروب كبرى استنادا إلى اختلاف الجذور الحضارية بين الشعوب المتقاتلة. ويضرب هنتنجتون مثلا على ذلك بعملية الاصطفاف السياسي في حرب البوسنة، حيث وقفت روسيا عسكريا وسياسيا إلى جانب الصرب فيما دعمت السعودية وتركيا وإيران وليبيا البوسنويين لأسباب القرابة الثقافية والحضارية.

          وتتضح الأطروحة الأيديولوجية لهنتنجتون في تركيزه الشديد على وجود ثلاث حضارات كبرى يمكن أن ينشأ الصراع فيما بينها. فهناك حسب الكاتب ثلاث حضارات أساسية من بين الحضارات السبع أو الثماني (أي الصينية، أو الكونفوشيوسية، واليابانية والهندية والإسلامية والغربية والروسية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية والإفريقية)، هي الحضارات الغربية والإسلامية والأرثوذكسية، ممثلة في روسيا وما يدور في فلكها الديني الحضاري من دول أخرى. وهو يعتقد أن الخط الرئيسي الذي كان يفصل الشرق عن الغرب خلال فترة الحرب الباردة قد تحرك بعيدا عن وسط أوربا عدة مئات من الأميال شرقا، ليفصل الغرب المسيحي من جهة، والشعوب الإسلامية والأرثوذكسية من جهة أخرى. لكن الغرب بالرغم من هذا التغير في الكتل الحضارية المتنافسة سوف يظل لسنوات مقبلة الحضارة الأقوى في العالم. وفي الوقت الذي يسعى الغرب إلى التأكيد على قيمه وحماية مصالحه فإن المجتمعات غير الغربية تجد نفسها أمام خيار محاكاة الغرب أو مواجهته.

          ويبدو أن هنتنجتون لا يرى إمكان حدوث تفاعل بين الحضارات، ويعتقد أن وجود خطوط حادة تفصل الحضارات هو الوضع المهيمن على مدى التاريخ.

          ومن هنا فهو يرفض النظرية القائلة: إن نهاية الحرب الباردة تعني نهاية الصراعات السياسية العالمية وظهور عالم يغلب عليه الانسجام والتناغم النسبيان، كما يعتقد فرانسيس فوكوياما في أطروحته حول «نهاية التاريخ» وانتشار الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للدولة البشرية. وبذلك تنتهي الصراعات السياسية الكونية، وتوحد الحضارة الغربية العالم تحت لوائها! ويرى هنتنجتون أن الطريقة التي انتهت بها حقبة الحرب الباردة ولدت همّ التناغم والانسجام، إذ إن العالم بدا مختلفا في تسعينيات القرن الماضي، ولكنه لم ينعم بالسلام الفعلي. وقد تبدد هذا الوهم مع تصاعد الصراعات الناشئة على خلفيات عرقية وعمليات التطهير العرقي وتعطل القانون وانهيار النظام وظهور صيغ جديدة من التحالفات، وعودة الشيوعية، وظهور الحركات الفاشية الجديدة وصعود الأصوليات الدينية.

          لكن الباحث الأمريكي الراحل يرفض قسمة العالم إلى شرق وغرب، شمال وجنوب، ويعدها هي وشبيهاتها أساطير اصطنعها الغرب، مستندا في رفضه إلى أطروحات إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق». وهو يفضل الحديث عن مفهوم «الغرب والآخرون»، حيث يعود إلى التأكيد على أطروحته التي تقسم العالم إلى الغرب وبقية البشر. في المقابل ثمة نظرة إلى العالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة ترى أن ضعف الدولة وعدم قدرتها على السيطرة على تدفق رءوس الأموال، وزوال فكرة الحدود الدولية التقليدية، أدى إلى ظهور نموذج «الدولة الضعيفة الواهنة» الذي يعزز تآكل السلطة الحكومية، ويؤدي إلى تنامي الصراعات القبلية والإثنية والدينية، كما يؤدي إلى ظهور مافيات الإجرام العالمية وتزايد أعداد المهاجرين بأرقام تتجاوز عشرات الملايين من الأشخاص، وانتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، وانتشار الإرهاب وتزايد عدد المذابح وعمليات التطهير العرقي. ويرى هنتنجتون أن هذه الصورة القاتمة لعالم من الفوضى الشاملة يرسمها كاتبان ومنظران مهمان من منظري هذا العصر، وهما زبيجنيو بريجنسكي وباتريك موينيهان. ويعتقد الكاتب أن نموذج العالم الغارق في الفوضى واقعي إلى حد بعيد، لأنه يوفر صورة فعلية لما يجري في هذا العالم.

خريطة للصراعات العالمية

          حسب هنتنجتون، فإن نموذج صدام الحضارات يوفر خريطة سهلة لفهم ما يجري في عالم القرن العشرين. ومن ثم فإن الكثير من التطورات الحاصلة بعد الحرب الباردة يمكن استنتاجها من نموذج صدام الحضارات. ومن هذا المنظور يوضح الكاتب أن الدين هو الحجر الأساس الذي يستند إليه في تعيينه للحضارات المختلفة، إذ قد يشترك البشر في أصولهم الإثنية واللغة التي يتكلمونها ولكن أصولهم الدينية تجعلهم ينتمون إلى حضارات مختلفة. وهو يقسم العالم إلى ديانتين رئيسيتين هما المسيحية والإسلام تضمان بين جوانحهما أعراقا بشرية مختلفة. ونحن نلاحظ في هذا التشديد رغبة في إقامة فاصل بين عالم الغرب المسيحي والإسلام، تمهيدا للتشديد على أن عدو الغرب الماثل والمهدد هو الإسلام. وهكذا يتوضح أن عقلية البحث عن عدو تحكم الكتاب من أول صفحة فيه إلى آخر صفحة. ومن هنا ضعف التحليل وفوضى المادة التطبيقية، التي قصد منها تعزيز النظرية التي أطلقها هنتنجتون في مقالته الشهيرة في مجلة «الشئون الخارجية» الأمريكية.

          يرى هنتنجتون أن العلاقة التي سادت بين الحضارات في السابق هي المواجهة، وكانت المساحات الشاسعة التي تفصل الكتل الحضارية عن بعضها بعضا مانعا أساسيا دون تفاعلها إلى أن ظهرت الحضارة الغربية وتمددت خلال القرون الأربعة الأخيرة، وأخضعت عددا من الحضارات الأخرى لسيطرتها. وقد سهل عملية انتشار الحضارة الغربية في العالم تقدم مؤسساته، والنظام والتدريب العالي لجيوشه وتطور أسلحته وخدماته الطبية ،وسهولة عمليات النقل وتوفير خطوط التموين لجيوشه وأفراده. كل ذلك حدث نتيجة للثورة الصناعية المتقدمة التي أدت إلى انتصار الغرب على خصومه. ولم ينتصر الغرب، كما يعتقد الكثير من أفراده وقادته السياسيين، بسبب علو قيمه أو أفكاره أو دينه بل بسبب قدرته على استخدام العنف المنظم ضد الحضارات الأخرى. لكن قدرة الغرب على احتلال مساحات شاسعة من العالم أدت إلى تحول في طبيعة العلاقة بين الحضارات من المواجهة إلى التأثير. ويقيم هنتنجتون رؤيته للتفاعل بين الحضارات على عدد من الحقائق العملية:

          1- لقد انتهى الآن توسع الغرب وامتداده وبدأت المواجهة مع الغرب، خصوصا بعد أن ضعفت قوة الحضارة الغربية نسبيا بالقياس إلى الحضارات الأخرى. ومن هنا فإن خريطة العالم عام 1990 تختلف عما كانت عليه هذه الخريطة عام 1920. وبالرغم من أن الغرب مازال مؤثرا في المجتمعات الأخرى فإنه لم يعد قادرا كالسابق على صناعة تاريخ البشرية على هواه، بل إن المجتمعات غير الغربية قد أصبحت تحرك التاريخ وتؤثر في تاريخ الغرب نفسه.

          2- بناء على التطورات السابقة امتد النظام العالمي خارج حدود الغرب وأصبح ينتمي إلى حضارات متعددة. في الوقت نفسه خفت حدة الصراعات بين دول الغرب نفسه الذي بدأ يتجه إلى تشكيل «حكومته العالمية»، وهو طور لم يتحقق بعد مع نهاية القرن العشرين بالرغم من أن الدول الغربية حلمت به منذ فترة طويلة.

          3- انتقلت الجغرافية السياسية العالمية من مرحلة العالم الواحد عام 1920 إلى مرحلة العالم الثلاثي الأقطاب في الستينيات، وصولا إلى العالم الذي تلعب في ساحة سياسته الدولية ست قوى أو تزيد في التسعينيات.

          يستند هنتنجتون في أطروحته حول صدام الحضارات إلى تجدد الهويات الثقافية للشعوب واصطدام هذه الهويات بعامل التغريب في المجتمعات غير الغربية، فإذا كان مصطفى كمال أتاتورك قد عمل في بداية القرن العشرين، وبعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى على إحداث تغيير جذري في الهوية التركية عبر تغريبها بهدف الوصول إلى حداثة الغرب، فإن إحساس الأتراك بالهوية هو الآن إحساس مأزوم سيؤدي إلى صدام عنيف بين حراس التغريب ودعاة الهوية التركية الإسلامية.

          وعلى الرغم من أن هنتنجتون يؤمن بمقولة ترابط الحداثة والتغريب، إلا أنه يعتقد أن إجبار المجتمعات على تغريب هوياتها قد يولد ردود فعل مناهضة للتغريب والدعوة مجددا إلى إحياء الهويات الثقافية الأصلية للشعوب التي تغربت هوياتها أو التحقت بالغرب بصورة من الصور. لكن هنتنجتون لا يذكر في عرضه لردود الفعل على التغريب السبب الفعلي الكامن وراء انعكاس عمليات التحديث في المجتمعات غير الغربية، ولا يشير في هذا السياق إلى الطبيعة العدوانية للغرب وذكريات الاستعمار القريبة والراهنة، التي تولد نفورا لدى الشعوب المستعمرة أو الواقعة في مجال الهيمنة الغربية.

-----------------------------------------

          لاَ تَحْسَبِ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَة ٍ
                                       
 مِنْ أَمْرِهِمْ، بَلْ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْيِيلِ
         
 حُبُّ الْحَيَاة ِ، وَبُغْضُ الْمَوْتِ أَوْرَثَهُمْ
                                       
 جُبْنَ الطِّبَاعِ، وَتَصْدِيقَ الأَبَاطِيلِ

محمود سامي البارودي

 

 

 

عودة إلى قائمة الخطاب الفلسفي - الإسلام والغرب