Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

د. خديجة زتيلي تكتب:

 

أميرة حلمي مطر..في المشهد الفلسفي العربي المعاصر


 

logo 

 

 

د. خديجة زتيلي

هوامش - تنوير وثقافة

11-5-2016

khadiga

 

على يمين الصورة يجلس الروائي الجزائري الدكتور أمين الزاوي 

وقد كان يومها مدير المكتبة الوطنيّة الجزائريّة، وتجلس على يسار الصورة الدكتورة أميرة حلمي مطر. (الجزائر: أفريل 2007).

========================================================

تنتمي الدكتورة أميرة حلمي مطر، المولودة عام 1930 بالقاهرة لأسرة عريقة في العلم، كان والدها من أوائل المهندسين في مجال الهندسة الكيميائيّة حاصلاً على شهادة الدكتوراه من جامعة مانشستر بإنجلترا. التحقتْ بآداب القاهرة عام 1948 وتخرّجت الأولى على دفعتها بحصولها على الليسانس الممتازة من قسم الفلسفة عام 1952، عيّنت مُعيدة بنفس القسم عام 1955 نتيجة تفوّقها وتخصّصت في الفلسفة اليونانيّة وعلم الجمال، وأرادت أن تُتابع دراستها في مجال آخر فاختارتْ دراسة العلوم السياسيّة وحصلت على دبلوم الماجستير في العلوم السياسيّة. وبعد حصولها على شهادة الدكتوراه واصلت عطاءها العلمي بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة وحصلت على الأستاذيّة في السبعينات. تولّت رئاسة قسم الفلسفة لفترات متعدّدة وأشرفت على العديد من الرسائل الجامعيّة وحصلتْ على جوائز الدولة التشجيعيّة والتفوّق وعلى وسام الامتياز من الدرجة الأولى لمجموع أعمالها العلميّة. تتقنُ اللغة اليونانيّة القديمة واليونانيّة والفرنسيّة والانجليزيّة، تعتني بقراءة الشعر وسماع الموسيقى الكلاسيكيّة وتتذوق الفنون التشكيليّة ويشكّل الفنّ عندها وبجميع أشكاله جانبا هامّاً وأساسيّا من هواياتها. درّستْ في كثير من الجامعات العربيّة كجامعة قطر، السعوديّة، الإمارات العربيّة المتّحدة وجامعة بغداد، وهي على صلة وثيقة بالجمعياّت الفلسفية في العالم وعضوة في بعض المؤسّسات الفكريّة في اليونان وفي جَمْعيتها الفلسفيّة (1). تنتمي إلى رعيل المفكّرات العربيات اللواتي يُشهد لهنّ بالموهبة والكتابات النوعيّة في مجال الفلسفة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، لقد قدّمت إنتاجاً قيّما متفرّداً في الفكر بشكل عام وفي الفلسفة اليونانيّة والجماليّة والسياسيّة بشكل خاصّ. وكان من تجليّات التلاحُم بين شخصيتها وثقافتها من جهة وما تؤمن به وما تكتبه من جهة أخرى أن أظهرت إبداعاً لافتاً يكشفُ عن مقدرة متميّزة. كانت الفلسفة مُلْهمة لها ومعيناً لا يَنْضب للتأليف والإبداع الفكري والترجمة إلى اللغة العربيّة، لقد أتقنت الكتابة بلغة الضادّ كما تمكّنتْ من عدّة لغات أجنبيّة تحدّثا وكتابة، فكان حصيلة ذلك تراثاً إنسانيّاً يستحقّ الاهْتمام.

============================================================

 

 

zxx

 

في بيت الدكتورة أميرة حلمي مطر بالدقّي بالقاهرة وصورة تذكارية قبل جلسة حوار علمية وإنسانية 

تم التركيز فيهاعلى مسارها الفكري ومؤلّفاتها. (القاهرة: ديسمبر 2007) 

 

===========================================================

 

1-أميرة حلمي مطر والتراث الفلسفي اليوناني

«ليست الفلسفة حديثاً حافلاً بالغموض تُثير مشكلات لا علاقة لها بالواقع ولا هي كنز من الأسرار يستعصي على العقل فهمه، ولكنّها مُرشد للفكر يشحذه للإبداع ويُلقي الأضواء على كثير من الأفكار التي يسلّم بها أكثر الناس تسليماً بغير نقد ولا اختبار» (2). بهذه الفقرة تستهل أميرة حلمي مطر تصدير الطبعة الأولى من كتابها: الفلسفة اليونانيّة تاريخها ومشكلاتها منبّهة القارئ إلى الدور الذي تلعبه الفلسفة في حياة الإنسان، فهي ليست بمنأى عن الواقع والمعيش اليومي ولاهي مفارقة له، لقد نشأت الفلسفة اليونانيّة، على سبيل المثال، في أحضان المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة بل إنّ الفلسفة جاءت كردّ فعل للواقع الأثيني بكلّ ما كان يزخر به من أحداث تاريخيّة مما يدعونا إلى تأكيد القول إنّ الفلسفة اليونانيّة تُساير مشكلاتها الحضاريّة. لقد أبدع اليونان في مجال الحكمة، وكانت عندهم «فريدة في نوعها» (3)، فهم أوّل من صنّف المذاهب الفلسفيّة وأضفوا عليها طابع المنهجيّة، لذلك يعدّ البحث في العوامل الحضاريّة لنشأة الفلسفة اليونانيّة من أهمّ أسباب فهمها.

اتّجهت عناية أميرة حلمي مطر في كتابها عن الفلسفة اليونانيّة إلى التأكيد على حقيقة هامّة مفادها أنّ التأريخ للفلسفة لا ينفصل عن فعل التفلسف ذاته في محاولة منها للإجابة عن تلك الأسئلة المتعلّقة بقيمة هذا التأريخ وما الذي نَستفيده من إعادة الأفكار والمذاهب التي أصبحت في ذمّة التاريخ وملكاً للماضي البعيد؟ إنّ موقفها الفلسفي هنا يذكّرنا بموقف هيجل الذي لا يفرّق بين الفلسفة وتاريخ الفلسفة، الأمر الذي يعني أنّ التأريخ للفلسفة عند هذه الكاتبة يستعدي المقدرة على التفلسف والتعاطي مع النصّ تحليلاً ونقداً. ويحاول هذا الكتاب أن ينقلنا إلى عوالم كثيرة في رصده للمشهد الفلسفي في شتى مدارسه في بلاد اليونان، بداية بالفلسفة ما قبل سقراط والموسومة بالطبيعيّة والتوقّف عند مختلف مدارسها مروراً بالمدرسة السفسطائيّة وسقراط وما عرفته هاتان المدرستان الفلسفيتان المختلفتان من تضارب في آرائهما الأخلاقية والسياسيّة وصولاً إلى ذروة الفلسفة اليونانيّة مع أفلاطون وأرسطو، مع عرض مفصّل للفلسفات التي أعقبت ذلك كالرواقيّة، الأبيقوريّة والأفلاطونيّة الجديدة.

وتَستخدم الكاتبة في تناولها لتاريخ الفلسفة اليونانيّة المنهج التحليلي الذي يوظّفُ النصوص وفقاً لسياقاتها التاريخيّة والاجتماعيّة التي وردتْ فيها، ممّا يعني أنّ تحليل وإعادة تشكيل المذاهب الفكريّة يتطلّب استدعاء السياق التاريخي لها، تعزّزه رؤية نقديّة تغوص إلى عمق النصوص لاستلهام مسالك المعنى منها، وتتقمّص الشخصيات الفلسفية التي يتمّ استدعاءها بغرض التحليل والدراسة. إنّ هذا الكلام مثلاً ينسحب على تناولها للمدرسة السفسطائيّة فهي تُعْزي ظهور الفلسفة عند هذه الأخيرة إلى ذلك التحوّل السياسي الذي شهدته أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد والمتمثّل في الانتقال من النظام الأرستقراطي (حكم النبلاء) إلى النظام الديمقراطي (حكم الشعب) بفضل القائد والسياسي العظيم بركليس الذي تفوّق في فنّ الخطابة، وهو الفنّ الذي سيصبحُ من أهمّ وسائل التأثير في الجماهير الشعبيّة. فالسفسطائيّة جاءت لتلبّي حاجة الناس إلى أساليب التعليم الجديدة التي تركّز أساساً على اللغة، الخطابة، والجدل، ولكي تؤكّد على أهميّة النزعة الفرديّة التي ظهرت بشكل جليّ في المواقف الأخلاقية والسياسيّة للفكر السفسطائي (4). كما أنّ الفلسفة السياسيّة عند أفلاطون، التي أودعها الجمهوريّة ومؤلفات أخرى، كانت نتيجة حتميّة لفشل النظام السياسي في أثينا وموقفه من الديمقراطيّة التي كانت سائدة والتي أحالت البلاد إلى خراب، ما دفع الفيلسوف إلى البحث عن نظام سياسي بديل يعيد لأثينا أمجادها السابقة ويصلح نظام دولتها الفاسد، ولعلّه من أجل هذا استفاض أفلاطون في التأكيد أنّ العدالة في الدولة تقتضي وجود نظام اجتماعي طبقي يرأسه الفلاسفة الحكّام لتحقيق العدالة للدولة (5).

ثمة، إذن، مسألة أساسيّة في منهجيّة الكتابة الفلسفيّة عند أميرة مطر هي ما يمكن توصيفه بالعلاقة الروحيّة مع النصّ وتناوله في أبعاده التاريخية والاجتماعية المختلفة، ممّا يجعل التحليل أكثر عمقا في المعنى الإنساني للكلمة وضمن شروط الموضوعيّة في تناول المفاهيم الإنسانيّة، فقد اعترفتْ للسفسطائيّة بالريادة للنزعة الإنسانيّة وبجهودها في نقل الفلسفة نقلة نوعيّة من الطبيعة إلى الإنسان، ومن المادّة إلى الروح، إذْ كانت السفسطائيّة حلقة اتّصال هامّة في تاريخ الفلسفة اليونانيّة ويتجلّى فضل السفسطائيين في أنّهم «نقلوا مشكلة البحث من عالم الطبيعة إلى عالم الأخلاق والسياسة فكانوا أوّل من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض على نحو ما فعل مُعاصرهم سقراط» (6). وهي لم تغمط حقّهم فقد اعتبرتهم فلاسفة تنوير في عصرهم، وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه هيجل في تقييمه للحركة السفسطائية في تاريخ الفلسفة اليونانيّة إذ عدّهم حلقة اتّصال هامّة في هذه الأخيرة.

هذا وتعدّ أميرة مطر من بين أهم المؤرّخين المعاصرين للفلسفة اليونانيّة، فقد اجتهدتْ لجعل هذا الميراث الإنساني يتحدّث باللغة العربيّة بفضل إسهاماتها في مجال الترجمة، على نحو ما فعلتْ عندما نقلت محاورة ثياتيتوس أو عن العلم لأفلاطون إلى اللغة العربيّة وكذا محاورة فايدروس أو عن الجمال لنفس الفيلسوف، وقد تعاملتْ مع النصين بمهنيّة عالية، فقد حرصت على بقاء المصطلح متّسقا مع روح النصّ الأصلي، فأوردته في لغته الأصليّة اليونانية التي تُجيدها، وأرفقته بالمقابل له في اللغات الأجنبيّة الأخرى، التي خَبرتْها، كالفرنسيّة والانجليزيّة. فيكون القارئ، بعد ذلك، بصدد المصطلح في لغات أربع، وبمضامين أكثر رحابة.

وإذ تولي الكاتبة أهميّة تُذكر لمحاورة ثياتيتوس أو عن العلم فلأنّ هذه الأخيرة تناولت مُشكلة المعرفة العلميّة التي طُرحتْ بشكل ملحّ في عصر أفلاطون، حيث يُعالج الفيلسوف في هذه المحاورة مشكلة المعرفة الحسيّة التي عبّرت عنها السفسطائيّة بشكل كبير من خلال أشهر فلاسفتها بروتاجوراس الذي أكّد على مسألة النسبيّة في المعرفة بعبارته المشهورة ” الإنسان هو مقياس الأشياء”. وإذا كان أفلاطون لا يتبنّى هذا الموقف الحسّي في تصوّره للمعرفة، فلكي يؤكّد ضرورة التمسّك بنظريّة المثل العقليّة، فالعلم، في منظومته الفكريّة، لا يكون تفسيره إلاّ عقليّاً يصحبهُ البرهان والاستدلال المنطقي. ففي المقدّمة الدسمة للترجمة العربيّة التي توزّعت على خمسة عشرة صفحة، تحلّل أميرة مطر أهميّة ثياتيتوس في سياق فلسفة أفلاطون بشكل عام ومسألة المعرفة والمستويات الثلاثة للعلم الواردة فيها، ابتداء من جعل العلم إحساساً إلى كونه ظنّا أو حكماً وصولاً إلى جعله حكماً صادقاً مؤيّداً ببرهان، وهذا الحكم الأخير هو نفسه موقف أفلاطون من المعرفة.

وتعالج هذه المقدّمة، في عرض مستفيض، الظروف التاريخيّة التي أحاطت بكتابة هذه المحاورة ثم أسباب تسميتها كذلك فضلاً عن الالتفات إلى حقيقة الحوار بين سقراط وعالم الرياضيات الشاب ثياتيتوس الذي سُميتْ المحاورة باسمه، ثم ترتيب هذه المحاورة من الناحية الزمنيّة ضمن إنتاج أفلاطون الفلسفي، مُعقبة بعد ذلك على مواقف بعض المفكّرين الغربيين الذين تناولوا من خلال دراستهم لهذه المحاورة السياق التاريخي لها، مثل ما هو الحال مع الباحثة الفرنسيّة الآنسة إيفا ساكس. وتُصَنف أميرة مطر هذه المحاورة فتعدّها «من أكثر محاورات أفلاطون حيويّة وخصوبة وثراء في الأفكار» (7)، فقد أحاطتها حلمي مطر بجملة من التساؤلات التي أثيرتْ في المحاورات المتأخّرة لأفلاطون، وهي تفصح كغيرها من المحاورات عن موقف أفلاطون من المعرفة لتنتهي في تحليلها إلى أنّ ثياتيتوس «من أكثر نصوص الفلسفة القديمة معاصرة اليوم» (8). ومن شأن هذه العبارة أن تحثّنا على العودة إلى ثياتيتوس للكشف عن المعاني الخفيّة لهذه المحاورة التي تحاول أن ترفع الغموض عن المعرفة فلا تجاري ما كان سائداً منها.

تُجدّدُ حلمي مطر الاهتمام بأفلاطون من خلال ترجمتها لمحاورة فايدروس أو عن الجمال، فتنقلنا، من خلال المقدّمة التي وضعتها للترجمة، من عالم المعرفة العقليّة وما تتميّز به من صرامة في البرهان عن صدقيّة الأحكام إلى شكل جديد للمعرفة يوسم بالمعرفة الفنيّة، وشتّان ما بينهما عند أفلاطون. لقد أدان كاتب فايدروس الشعر في محاورة الجمهوريّة، ولكن الدارس والمهتمّ بالفلسفة اليونانيّة سرعان ما يكتشف أن فلسفته تتخلّلها نفحات من الفنّ والجمالّ، ويُفسّرُ هذا المسعى الأفلاطوني بجملة من السمات التي طبعت عصر أفلاطون ومنها، أنّه يعدّ أبهى العصور الفنيّة في التاريخ إذ عرف ذروة التطوّر في فنّ النحت والتصوير والشعر والخطابة والتراجيديا. وتشرحُ الكاتبة في مقدّمة ترجمتها لــفايدروس جملة التصوّرات الأفلاطونيّة المختلفة عن الفنّ، كتلك الآراء التي تعتبره محاكاة غايتها إثارة اللذّة وتمويه الحقيقة عن الناس، أما فنّ الخطابة فقد تنكّر له أفلاطون وذمّه في محاورة جورجياس حيث لا تتعدّى غايته التأثير في جمهور السامعين شأنه في ذلك شأن السفسطة. أمّا الشعراء وجمهور هوميروس فلا يملكون فنّا أو معرفة وهم لا يفهمون ما يقولون ولا يسيطرون على أنفسهم، وكلّ هذه المواقف كافية لتبرير تبرّم أفلاطون من الشعر والفنّ بشكل عام.

وفي تعقيبها على هذا الموقف الأفلاطوني، الملفت للانتباه، تؤكّد حلمي مطر أنّ مضامين الفكر الأفلاطوني تلك إنّما ارتبطت بمرحلة معيّنة وبمرجعية فكريّة هي الفلسفة السقراطيّة، التي كان من أهمّ مميّزاتها «التمسّك بالاتجاه العقلي والتشدّد الأخلاقي والقضاء على كلّ اندفاع وجداني أو حماسة» (9)، لقد استقى أفلاطون ثقافته الأولى من سقراط أستاذه الذي أعجب به أيّما إعجاب، ولذلك يلاحظ المرء أنّ آراء أفلاطون الفلسفيّة يشوبها بعض الشطط والمبالغة في مجاراة الآراء السقراطيّة وخاصّة ما تبلور منها في المرحلة الفكريّة الأولى، ناهيك عن تكراره لبعض

الأطروحات السقراطيّة في مجال الفلسفة والأخلاق. وتشرح الكاتبة التشدّد الأخلاقي والاتّجاه العقلي عند سقراط، الذي ناصب العداء للقيّم الماديّة والجماليّة التي عرفها العصر وتوضّح في هذه النقطة أنّه دعا إلى طهارة روحيّة تنأى عن كلّ ما هو مادّي ودنيوي، وهو الأمر الذي لم يستسغه السفسطائيون فتنكّروا له وهاجموا سقراط وأطلقوا بعد ذلك العنان للفنون والآداب والمخيّلة والموسيقى وحاولوا تخليص الذوق العام من الآراء السقراطيّة، فكانت محصّلة ذلك قيماً جديدة في مجال الفنون عكستْ بشكل واضح النواحي الفكريّة للعصر.

كما ساهم تحقّق الديمقراطيّة في أثينا، في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، في بعث العبقريات في شتى الفنون، الأمر الذي أماط اللثام عن إبداعات اليونان، فقد أوضحوا على نحو ما تجلّى في الجوانب التي تتكرّس لمثل تلك الموضوعات، أنّ الفنّ ظاهرة إنسانيّة مصدرها البشر لا الآلهة، وانتهى الأمر بالسفسطائيّة إلى نتيجة مفادها أنّ القيّم الجماليّة نسبيّة لا مطلقة ولا يمكنها أن تكون خالدة على الإطلاق، فكان أن أفرز هذا المشروع السفسطائي الذي ولد في مناخ خاصّ مواقف فلسفيّة أصبحت فيما بعد مصدراً للكثير من الصراعات والمعارك الفكريّة. ولمّا كانت الطروحات السفسطائيّة في مجال الفنون مَقيتة في نظر سقراط ومدعاة للسخرية فقد كان من الطبيعي أن يساير التلميذ أستاذه ويرفض بدوره تلك الآراء السائدة عن الفنّ. هذا ويعدّ هذا المدخل إلى فلسفة الفنّ عند أفلاطون كفيل بتبرير تصوّرات أفلاطون الأولى في مسايرته لأفكار سقراط وفي ازدرائه للشعراء والفنانين، ولكن هل ثبتَ أفلاطون على موقفه ذلك ولم يبدله أبدا؟

تلك هي المسألة التي تحاول حلمي مطر توضيحها في الدراسة القيّمة، المشفوعة بالنصوص، التي وضعتها لمحاورة فايدروس، إذ تذهبُ إلى التأكيد أنّ فلسفة أفلاطون مرّت بمراحل، وأنّها في مراحل متقدّمة حاولتْ الفكاك من القبضة السقراطيّة وتعديل بعض الآراء الفكريّة ومسايرة تطوّر فلسفة أفلاطون في الوجود والمعرفة ونظريّة الجدل، التي تحاول تجاوز الحوار العقلي إلى الحدوس الميتافيزيقيّة، وعطفاً على ما سبق ذكره فإنّنا «نلاحظ أنّه مع تضاؤل النزعة العقليّة السقراطيّة يزداد الاتّجاه نحو النزعة الاعتقاديّة التوكيديّة عند أفلاطون، ومع تضاؤل روح النقد والعقليّة الاستدلاليّة يزداد الاتّجاه نحو الإيمان والالهام والتجربة الميتافيزيقيّة» (10). وتُرجعُ حلمي مطر التطوّر الذي ساد الفلسفة الأفلاطونية المتأخّرة إلى كون أفلاطون هو ابن عصر توالت عليه الكوارث السياسيّة وخيّبت الحروب آماله وآمال جيله، ولذلك لم يعد هناك من أمل في الحياة إلاّ في عالم المثل المفارق، وعلى هذا الأساس «جاءت فلسفة أفلاطون في مجموعها لا تحاول إصلاح الواقع على نحو ما كان يحاول سقراط بل ترفض هذا الواقع من أساسه وتؤكّد سيادة العالم الروحاني المثالي وتُعلي من شأن الحدس والإلهام اللذين يبلغان بالنفس إلى هذا العالم» (11).

فبعد أن كان أفلاطون يذمّ الفنّ أصبح الفنّ في نظره الملهم، بل إنّه أصبح من العناصر المعرفيّة لفهم الحقيقة التي تعبّر عن الجمال والخير، فنجده يتغنّى بالشعر الملحمي ويفخر بفضل الآلهة والأبطال ويشيد بالموسيقى المعبّرة عن المثل العليا والجمال المثالي. إنّ الموضوع الرئيسي لمحاورة فايدروس هو دراسة فنّ الخطابة وتبيان أنواع الخطابة السائدة في عصر أفلاطون، فضلاً عن تحديد شروط الخطابة الجيّدة والمهمّة لإصلاح النفس، وفي الحوار الذي يجري بين سقراط وفايدروس في محاورة أفلاطون يتوضّح الشرط الأساسي في الخطابة الفلسفيّة:

«سقراط: ولكي تصير يا فايدروس خطيبا مفوّها لابدّ أن تتوافر لك بعض الشروط الضروريّة كما هو الحال في جميع الفنون الأخرى. فإن كان لك بالطبيعة استعداد للخطابة فستكون خطيبا ممتازاً إن أضفتَ إليها العلم والمران، ولكن إذا نقصك شيء من هذه الشروط فسوف تكون خطيباً ناقصاً، أما فيما يتعلّق بالفنّ الذي يتميّز بهذه الصفات فلستُ أرى المنهج الصحيح في الطريق الذي اتّبعهُ لوسْياس وتراسيماخوس على ما أظن…

فايدروس: ففي أيّ طريق إذن؟

س: لقد حظي بركليس-في رأي الجميع-بأعلى مراتب الكمال في فنّ الخطابة

ف: وما هو السبب؟

س: إنّ كلّ الفنون ذات الشأن تستلزم المناقشة وإمعان الفكر في الطبيعة والسماء» (12).

وتولي هذه المحاورة اهتماماً بالحديث عن الحبّ والنفس، وهذا يعني أنّ هناك مواضيع أخرى متشعّبة يحيل إليها الموضوع الأساسي للمحاورة: «الخطابة، الحبّ، النفس، الأمر الذي يكشف الصلة التي تربط هذه الموضوعات الثلاثة بعضها بالبعض الآخر» (13)، فالحبّ في فايدروس يسمو بالمحبّ والمحبوب إلى أرقى درجات الرقيّ العقلي، بل إنّ أفلاطون يصفه بأنّه من أنواع الهوس الإلهي ولا ترقى إليه إلاّ نفوس الفلاسفة لأنّها في توق دائم إلى ذلك المبتغى.

كتب أفلاطون فلسفته على شكل محاورات ولهذا المسعى ما يبرّره في نظر حلمي مطر، إذْ تهدف المحاورة إلى إيقاظ مواهب القارئ لاكتشاف الجميل، فلم يكن أفلاطون يهدف إلى نقل المعرفة بطريقة آليّة تلقينيه تشرح هذه الفلسفة، بقدر ما كانت تلك النصوص عملاً فنّياً يحاول محاكاة الحقيقة وإثارة العقل للبحث والنقاش، وتكشف الترجمة العربيّة لمحاورة فايدروس السعي الدؤوب للكاتبة في سبيل تفسير آراء أفلاطون في الفنّ والجمال وكذلك حرصها الكبير على استدعاء نصوص أخرى تهتمّ بذات الشأن في سبيل نقاش موضوعي يعيد صياغة النصّ واستكناه دواخله. لقد عادت الكاتبة إلى النصّ اليوناني/ الأصلي وإلى الترجمة الفرنسية له التي نشرها الباحث ليون روبان Leon Robin عام 1954، وقامت بمقارنتها بترجمات شامبري Chambry عام 1964 وترجمة ماريو مونيه Mario Meunier عام 1926، واستأنست أيضا بالترجمة الانجليزيّة لــ هارولد نورث فاولر H. N Fowler واهتمّت بنقل تعليقات هؤلاء المترجمين في دراستها لمحاورة فايدروس.

============================================================

sdcw

 

مع أميرة حلمي مطر في بيتها، في اليوم الثاني من جلستنا الفلسفيّة، 

وهي في الصورة توقّع لي بخطّيدها على بعض مؤلّفاتها بعد جلسة شاي.

===============================================================

  2-الوعي الفنّي والجمالي في كتابات حلمي مطر الفلسفية

تبلورت آراء حلمي مطر حيال قضايا الفنّ والجمال في جملة من المؤلّفات التي ساهمت في شهرتها مثل: فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها، مقالات في القيّم والحضارة، مقدّمة في علم الجمال وفلسفة الفنّ، وغيرها من الكتب

التي تبحث هذه المسائل على النحو الذي تراه مطر، وتشرح الكاتبة في بداية الفصل الأوّل من كتابها مقدّمة في علم الجمال وفلسفة الفنّ موضوع الإستيطيقا أو علم الجمال فتعيدنا بشأنه إلى الفيلسوف الألماني باومجـــــــارتن Baumgarten أوّل من أطلق هذا المصطلح في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، وتدور موضوعات الإستيطيقا حول الشعور والخيال الفنّي، الأمر الذي يجعل طبيعة المعرفة في هذه الأخيرة تختلف عن طبيعتها في منطق العلم والتفكير العقلي. إنّ الفنّ رافق الانسان منذ وجوده على هذه الأرض لكن فلسفة الفنّ لم توجد إلاّ مع نشأة الفلسفة، ولذلك لا يمكنها أن تكتسب مشروعيّة وجودها خارج هذا النطاق. ففلسفة الجمال بدأت مع فلاسفة اليونان الذي أحاطوها برعاية خاصّة، ويمكن التذكير في هذا المقام أنّ مطر تحرص في كتاباتها على إحالة قارئها إلى الإطار المعرفي الذي يتيح فهم القضايا الفنيّة والجماليّة.

تعدّ القيم الجماليّة مسألة خلافية بين جمهور الفلاسفة والنقّاد وهذا من شأنه أن يحيل إلى الاختلاف في مقاييس تقييم الأعمال الفنيّة، فهل الجميل هو الذي يستسيغهُ شعورنا؟ علما بأنّنا قد نتجاهل عملاً يثبت التاريخ فيما بعد أهميّته وجدواه، وتاريخ الفنّ، على حدّ تعبير مطر، «حافل بأمثلة لروائع لم يقدرها أهل زمانها التقدير اللائق بها» (14). إنّ الوعي الجمالي عند مطر لا يتطلّب النظر في تفصيلات العمل الفنّي وجزئياته وإصدار أحكام تقييميّة بشأنه تصفه بالكامل أو الناقص، بالجيّد أو المستهجن فهده وظيفة النقّاد، بل إنّ الوعي الجمالي عندها يهتمّ بالتجربة الإبداعيّة وتذوّق الناس للجميل ومدى تفاعلهم معه. فالإستيطيقا تتجاوز كلّ التفصيلات لتصل إلى «المبادئ الفلسفيّة التي يمكن أن تفسّر لنا الجوهر المشترك بين الفنون كلّها وأسباب اختيار معايير معيّنة للجمال دون غيرها ولكنّها لا تتدخّل في مناقشة مدى مطابقة عمل فني معيّن لمعيار معيّن لأنّ ذلك من مهمّة الناقد» (15)، وإن كان هذا الأمر لا يمنع من القول أنّ هناك تواصلاً معرفيّا وفنيّا بين الناقد والفيلسوف.

وفي معرض تعريفها للفنّ تحيلنا الكاتبة إلى نظريّة المحاكاة وتعتبرها من أقدم النظريّات المعروفة في تعريف الفنّ، ولكنّ المحاكاة المقصودة في هذا السياق هي تلك التي تسمو على الطبيعة الظاهرة المحسوسة وتحاول تجاوز ما فيها من عجز ونقص إلى آفاق أخرى تعبّرُ على ما يجب أن يكون. فالفنّ لا يهتمّ بنقل الواقع كما هو فهو ليس محاكاة لهذا الواقع بل تعبير عنه، وأهمّ الفلاسفة المعاصرين الذي اشتهروا بوصف الفنّ كونه حالة تعبيريّة يرتبط بالمعرفة الحدسيّة هو الإيطالي بندتو كروتشه (1866-1952)، الذي يعدّ الفنّ عنده إبداع وإضافة إنسانيّة لأنّه بصمة متميّزة لا يمكنها أن تتكرّر، إنّ الفنّ بتعبير آخر هو الرؤية المتفرّدة للمبدع وللنشاط الروحي، ويلتقي كروتشه مع الإنجليزي روبين جورج كولنجوود (1889-1943) في هذه الأطروحة.

وبعد استعراضها لخصائص العمل الفنّي عند بعض الفلاسفة تصل بنا مطر إلى مفهوم الخبرة الجماليّة فتكتب عن هذا المفهوم قائلة إنّها: «موقف الإنسان عند تذوّقه للعمل الفنّي أو إبداعه له أو نقده وهي موضوع يعني به العلماء والفلاسفة والنقّاد على السواء» (16)، إذ تحتاج هذه الخبرة على الدوام إلى البحث في العناصر التي تشكّلها(الأفراد-المناهج-الفنون). وينصرف الفصل الأخير من كتاب مقدّمة في علم الجمال وفلسفة الفنّ إلى خصائص الفنّ في القرن العشرين فيطرح قضيّة التقدّم العلمي والتكنولوجي الذي تميّزت به الحضارة الحديثة وانعكاسات ذلك على الفنون والآداب فضلاً عن أثر الواقع السياسي والاجتماعي على الفنّ المعاصر، فقد نحا هذا الفنّ بشكل ملفت للتجريد بفضل تقدّم العلوم واستخدام المناهج الرياضيّة فـــ «لم يعد العلم يعتمد على تفسير الرموز والمؤشّرات التي قامت بمهمّة ترجمة المدركات الحسيّة في لغة رمزية دقيقة» (17). لقد مال الفنّ المعاصر إلى التجريد واللامعقول وتجلّى ذلك في جملة الأعمال التي قدّمها المبدعون في مختلف الفنون مثل ما تجلّى في أشعار مالارميه Mallarmé (1842-1898) في فرنسا وإليوت (1888- 1965) في إنجلترا وغيرهما.

غير أنّ فنّ ما بعد الحداثة الذي ارتبط بقيّم ما بعد الحداثة تميّز بظهور مجتمعات الكمبيوتر ومجتمعات الاستهلاك، وبهذا الصدد ترى الكاتبة أنّ الفنّ المصاحب لهذه المرحلة التاريخيّة تشبّعَ بشكل كبير بقيمها، الأمر الذي يعني أنّه «لم يعد المهمّ هو الوصول إلى حقيقة أو غاية يسعى لها الفكر والفنّ لم يعد الهدف تحقيق الجمال أو الحصول على الحقيقة وإنّما المقدرة على الإنجاز وكسب فائدة معيّنة، وبفضل وسائل الاتّصال وبنوك المعلومات انسحب القرار من يد الانسان. وحلّت بنوك المعلومات محلّ دوائر المعارف، وأصبح الصراع على إنتاج المعرفة أهمّ من الصراع على الأراضي» (18). ونعود لنذكّر في هذه العجالة، وقد أشرنا إلى ذلك في الصفحات الأولى لهذا المقال، بأنّ منهج عرض الكاتبة لتاريخ القضايا الفنيّة والجماليّة يعير الاهتمام الكبير للربط بين تاريخ الأفكار وسياقاتها الاجتماعيّة والسياسيّة، إذ لا يقوم التفسير دون استرجاع للواقع الذي أفرزها فدون ذلك قد يجانب المرء الموضوعية وإنصاف الحقيقة الانسانيّة.

لم تكتف مطر باستعراض نظريّات الفنّ والجمال منذ العصر اليوناني وفلاسفته العظام بل حاولت التعريف بنماذج من الفكر الجمالي في الأدب المصري الحديث من خلال كتابها: فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها، وتتوقّف في فصله الأخير عند الجمال والحريّة في مؤلّفات العقّاد، هذا الأخير الذي يحلو له أن يربط بينها في كتاباته، فممارسة الفنون لا يتحقّق دون فضاء رحب للحريّة. كما وأنّها تستدعي في ذات السياق توفيق الحكيم ومبدأ التعادليّة عنده وخلاصته إيجاد توازن في كلّ أنحاء الحياة الإنسانيّة، ويتحقّق ذلك بأن يكون مسعى الإنسان إلى العقل يعادل مسعاه إلى الإيمان، ويحيل هذا الطرح إلى نوع من المثاليّة ستتجلّى لاحقاً في كتاباته الأدبيّة والمسرحيّة الناقدة للواقع الاجتماعي المتخلّف في الريف المصري. أما الوضعيّة المنطقيّة والتحليليّة في جماليات زكي نجيب محمود فأساسها بالدرجة الأولى منطق التحليل اللغوي المستمدّ من فلسفته الوضعيّة المنطقيّة، هذا ويعدّ منهج التحليل المنطقي اللغوي (لغة العلوم – اللغة الجارية) بمثابة السبيل للتفريق بين اللغة العلميّة وغيرها من لغات تدخل في مجال العلوم كعبارات الشعر، الأدب، الدين والفنّ. فكلمة جميل لا تشير إلى شيء قائم في العالم الخارجي بل هي تشير إلى حالة نفسيّة لصاحبها لا يتّفق في تقييمها، بالضرورة، مع شخص آخر.

إنّ إضافة هذا الجزء الخامس المتعلق بالجماليات العربية المعاصرة إلى كتاب فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها، لهو من الأهمية بمكان، في الوقت الذي تغفل عنه الكثير من الكتب وخاصّة تلك التي تصدر في بلاد الغرب، إذ تتراجع عن ذكر أهميّة الإبداع العربي في مجال الآداب والفنون تحت تبريرات إيديولوجية يضيق المقام عن الخوض فيها في هذا المقال، وإن كنا نستثني في هذا المجال النزر اليسير من تلك الأعمال.

—————————————————————————————–

3-الفلسفة السياسيّة وقضايا التحرّر الإنساني

تعتني الفلسفة السياسيّة بقضايا الانسان من خلال البحث عن منظومة للأخلاق والقيّم تتناول مبادئ الحريّة، العدالة، والسعادة في المجتمعات، إلى جانب تقييم الواقع السياسي واقتراح البدائل المناسبة للسياسة الرشيدة ووضع قواعد للسلوك الأخلاقي يُتيح تحقيق الاستقرار السياسي في المجتمعات الانسانيّة، ومن هنا تبرز أهميّة الفلسفة السياسيّة في توضيح الروابط الموجودة بين المنظومة الأخلاقيّة والمنظومة السياسيّة، والعلاقة الجدليّة بين فكر الفيلسوف ومُجريات الواقع.

ارتبطت الفلسفة السياسيّة الكلاسيكيّة بمرحلة تاريخيّة وبقضيّة معيّنة، ولم تكن هذه الفلسفة في بدايتها منفصلة عن مشكلات الواقع التاريخي والظروف المختلفة التي أحاطت به، ولكن هل ينسحب هذا التوصيف على الفلسفة السياسيّة المعاصرة، وهل شغلتها ذات القضايا واستمرت معها مشاكلها التاريخيّة؟ تعتقد مطر أنّ الفلسفة السياسيّة المعاصرة اعتنت أكثر بمشكلة المنهج، ويظهر ذلك جليّا في اتجاهات الفلسفة الأنجلوسكسونيّة وخاصّة مع الوضعيّة المنطقيّة وفلاسفة التحليل. فهل يعني هذا أنّ الفلسفة السياسّية في مرحلتها الأولى اتّجهت عنايتها إلى المشاكل العلميّة من خلال الاهتمام بالواقع وما يعتريه من صراعات وأزمات والبحث عن مخرج للكثير من الصراعات والمآزق السياسيّة أملا في تحقيق الاستقرار والأمن، في حين انصرفت الفلسفة السياسيّة المعاصرة إلى إيجاد نظريّات حديثة غايتها فهم الواقع وليس توجيهه؟

تشرح مطر تطوّر الفكر السياسي من خلال كتابها: الفلسفة السياسيّة من أفلاطون إلى ماركس (19)، وتفتتح الفصل الأول منه بأفلاطون، الذي يعود إليه الفضل في وضع النواة للفلسفة السياسيّة، إذ لم تتبلور قبله نظريات سياسيّة يمكن أن تذكر كما لم يعرف الفكر الشرقي القديم نظريّات في هذا المجال باستثناء بعض الأفكار والآراء المختلفة كتلك التي نجدها عند الحكيم الصيني كونفوشيوس والهندي بوذا، وحتى الفلسفة اليونانيّة افتتحتْ عهدها بالبحث في المشاكل الطبيعيّة والكونيّة بالنظر إلى أصل الكون وجوهر الوجود من منظور طبيعي مادّي خارجي، وفي باب التأريخ للفلسفة اليونانيّة يُطلق على هذه المرحلة مرحلة الفلسفة ما قبل سقراط. فقد أرجع فلاسفة الطبيعة أصل الكون إلى عناصر طبيعيّة مختلفة، فكان الماء عند طاليس، وآخرون أرجعوه إلى التراب والهواء وغيرهما، وهذا الأمر يعزّز القول أنّ الفلسفة السياسيّة كتنظير لم تقم لها قائمة إلاّ مع أفلاطون رغم أنّ بذورها تعود إلى سقراط والسفسطائيين.

تعكس فلسفة أفلاطون، بشكل واضح، ظروف عصره وموقفه من الصراعات القائمة وما تمخّض عنها من أفكار وسجالات. لقد عاش الرجل في فترة شهدت فيها بلاده اضطرابات سياسيّة وعاصر في شبابه حروب البلوبونيز الطاحنة التي دارت رحاها بين اسبرطة وأثينا وانتهتْ بهزيمة أثينا وتفوّق اسبرطة، وصاحب ذلك صراعات قائمة بين الأرستقراطية والأوليجارشية والديمقراطية، ولذلك سنجده في محاورة الجمهوريّة والسياسي والقوانين يكرّس القول لتحليل الأوضاع الفاسدة في عصره والبحث عن نظام سياسي بديل يُخرج من خلاله أثينا من فسادها وهزيمتها ويعيد لها أمجادها القديمة، ويعتني بالتربيّة والتعليم من أجل حكم رشيد يقوده الفلاسفة الحكّام.

ففي محاورة الجمهوريّة ينصرف اهتمام أفلاطون بشكل رئيسي إلى البحث عن المدينة المثاليّة العادلة التي تحترم نظام الطبقات الاجتماعيّة على أساس القدرات العقليّة للبشر، فلكي تنشأ مدينة قويّة مثاليّة يستوجب ذلك توزيع الأدوار على طبقات ثلاث هي: طبقة العبيد، طبقة الجنود، وطبقة الفلاسفة وأن تحترم كلّ طبقة المهام المكلّفة بها من أجل سعادة الدولة، فالهدف النهائي من التقسيم الطبقي العادل هو سعادة الأفراد في المجتمع وليس سعادة الفرد (20). ويطرح أفلاطون في محاورة السياسي مسألة القانون وحكم الفيلسوف ويرى أنّ الحكم السياسي هو فنّ وعلم في آن معاً والفيلسوف المحنّك والمتمرّس بالسياسة يمكنه أن يستعيض عن القانون بالخبرة بما يعود بالخير والصلاح على المجتمع. أما في محاورة القوانين، التي كتبها أفلاطون في مرحلة الشيخوخة، فتحتل القوانين والتشريعات أهميّة كبرى، لقد عدل أفلاطون في هذا النصّ عن بعض المسائل التي كان قد طرحها في الجمهوريّة والسياسي وحاول أن يكون أكثر واقعيّة في معالجة مشاكل الحكم، وقد لا يبالغ المرء إذا قال أنّ محاورة القوانين بمثابة الطريق إلى الدولة الواقعيّة التي تستأنف تجلياتها في فلسفة أرسطو. فقد طوّر هذا الأخير بعض أفكار أفلاطون وأكّد أنّ الإنسان كائن اجتماعي لا يمكنه العيش بمفرده وليس باستطاعته أن يلبي جميع حاجاته الضروريّة بنفسه، ولذلك يحتاج إلى أفراد آخرين. فالدولة عند أرسطو كيان سياسي وهو يشبّهها بجسم الإنسان الذي ينبري كلّ عضو فيه لوظيفة معيّنة.

وفي هذا السياق تُعيدنا مطر إلى كتاب أرسطو في السياسة، الذي يحلّل فيه نظريّة الدولة وكيفيّة توزّع الثروة في المجتمع فضلاً عن تصوّره للمواطن الصالح والحكم الصالح والحكومة الصالحة. فالحكومات الصالحة: ملكيّة، أرستقراطيّة، وديمقراطيّة معتدلة. أما الفاسدة: فمنها الطغيان، الأوليجارشيّة، والديمقراطيّة الفاسدة. وفي هذا المجال لا يختار أرسطو حُكماً معيّناً لكي يكون هو أصلح الحكومات، لأنّ لكل واحدة منها إيجابيات وسلبيات بل إنّه يشترط الوسطيّة في الأمور فيفضّل مثلاً رأي الأكثرية الصالحة على رأي الأقليّة (21). وتنتهي مطر، بعد عرضها للنظريّة الأرسطيّة في مجال السياسة إلى أنّ التمييز الطبقي والوظائف المقرّرة على الأفراد هي السمة المشتركة بين أفلاطون وأرسطو وإن اختلفت «وظيفة التأمّل عند أفلاطون عنها عند أرسطو فالتأمّل عند أفلاطون يخدم وظيفة الحكم والصالح العام في حين يظلّ عند أرسطو سعادة فرديّة» (22). كما يحرص الجزء المتعلق بأرسطو في كتاب مطر إلى تحليل القسم المتعلّق بأسباب قيام الدول وتوزيع الثروات واختلاف الناس في تصوّرهم للعدالة، وبهذا يختتم الجزء المتعلّق بالفلسفة السياسيّة عند اليونان.

تَنْقلنا الكاتبة بعد ذلك إلى فضاء آخر هو الفلسفة السياسيّة في الإسلام لتؤكّد على الدور المعرفي للفكر الفلسفي في الإسلام الذي كان حلقة اتّصال قويّة وفعّالة بين اليونان والغرب، وهي الحقيقة التي غالبا ما تختفي في الكتب الأجنبيّة بسبب دوافع سياسيّة وعنصريّة. وتحاول مطر، من خلال هذا الجزء، تشكيل موقف تحليلي ونقدي لهذا التراث وذلك باستعادة الأصول والمرجعيّات التي شكّلته، فتؤكّد أنّ العقيدة الاسلاميّة هي من أهمّ الركائز الأساسيّة لهذه الفلسفة، ينضاف إليها تفكير الفقهاء وعلماء الدين وبعض الكتب التي سار على هديها الأمراء والوزراء ككتاب أخبار الملوك المنسوب إلى الجاحظ، وسراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي، وكتاب كليلة ودمنة الذي ترجمه ابن المقفّع عن الفارسيّة وغيرها من الكتب، ناهيك عن تأثّر الفكر السياسي بالتراث الفلسفي لليونان وحصراً فلسفة أفلاطون وأرسطو. لقد حاول الفلاسفة جاهدين التوفيق بين الملّة والحكمة ومن بين الذين قدّموا محاولة تستحق الذكر الفارابي الذي كتب نصوصاً في الفلسفة السياسيّة قلّ نظيرها منها كتبه: آراء أهل المدينة الفاضلة، تحصيل السعادة، السياسة المدنيّة. فقد حاول الفارابي مثلاً في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة إرساء نظام سياسي بديل عن ذلك الذي كان قائماً يكون فاضلاً ويترأسه من يتميّز بالحكمة والكمال، مذكّرا إيانا بمحاولة أفلاطون في محاورة الجمهوريّة التي تُلخّص مسعاه نحو تحقيق مدينة مثالية عادلة يترأسها الفلاسفة.

وإذا كان الفارابي يمثّل نموذجا قويّاً للفلسفة السياسيّة في بلاد المشرق، فإنّ ابن خلدون يمثّل نموذجها المشرق في بلاد المغرب، إذ يضمّ كتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، آراءه في التاريخ والاجتماع والسياسة والدين، هذا الأخير، في نظره، عامل هامّ لاستقرار الحكم، فالحكم الراشد يستند على الشريعة لكي يتمّ الاجتماع البشري الضروري للعمران. لقد تطوّرت المجتمعات البشريّة عند ابن خلدون من مرحلة الرعي إلى مرحلة الحياة المدنيّة بفضل الفنون والصناعات، ولكن هذه الحياة الاجتماعيّة لا يمكنها أن تستقيم إلاّ بنظام سياسي تظهر فيه الدولة كأهمّ مؤسّسة سياسيّة وهي تمرّ بأطوار من التأسيس إلى طور الضعف والانهيار، ويربط ابن خلدون مراحل التطوّر في الدولة بالعامل الاقتصادي، إذْ أنّ هناك علاقة بين الاقتصاد والاستقرار السياسي. وتذهب مطر في تعليقها على فكرة الكسْب عند ابن خلدون إلى اعتبارها «من أهمّ النظريّات الاقتصاديّة التي توصّل إليها» (23). وهذا يعني أنّ الكسْب هو أساس قيمة الأعمال البشريّة، فالرزق من عند الله أما الكسب فهو من أعمال الإنسان، والخلاصة التي تقدّمها الكاتبة في معرض تحليلها لفلسفة ابن خلدون هي أنّ الرجل استطاع أن يطوّر مفاهيم جديدة وأن يكون من أوائل المؤسّسين لجملة من العلوم والمعارف كعلم العمران البشري والتاريخ، كما اجتهد أن يُفَلْسف السياسة انطلاقا من واقعه وتأمّلاته له وما ارتبط به من أحوال اقتصاديّة وسياسيّة وفكريّة، فسبقت، بذلك، نظرياته تلك التي جاء بها جامباتيستا فيكو وآدم سميث وكارل ماركس. ففي تناولها للفارابي وابن خلدون تحاول مطر أن تقدّم نماذج للوعي السياسي الإسلامي لتكشف مقدرة هؤلاء في الانخراط في قضايا مجتمعاتهم، فقد انطلقوا بشكل أساسي من خصوصيات المجتمع الإسلامي وتفلسفوا على ضوئه، مستعينين قدر المستطاع بتجارب الشعوب الأخرى التي سبقتهم وخبرتْ علم السياسة قبلهم.

تنتقل مطر في الجزء الثاني من كتابها الفلسفة السياسيّة من أفلاطون إلى ماركس، إلى الفلسفة السياسيّة في الغرب، وتستهلّه بمقدّمة تشرح فيها الخلفيات التاريخيّة لهذه الفلسفة، ولم يفتها، في هذا المقام، توجيه عناية القارئ إلى النظريّات العلميّة الجديدة التي كان لها أثرها الواضح على الفكر الفلسفي الحديث خاصّة تلك المتعلّقة بالاكتشافات العلميّة للقرن السابع عشر من خلال نظريات جاليليو ونيوتن، هذه الأخيرة التي استقرتْ بعض مضامينها في مؤلّفات ديكارت وغيره من الفلاسفة. كما تأثّر الفكر الفلسفي السياسي الحديث بظهور الملكيات المطلقة الأمر الذي جعل ماكيافيلي وهوبز ينظران إلى الواقع بتبصّر ويحاولان البحث عن البدائل السياسيّة الممكنة في ظل الأوضاع الاجتماعية والسياسيّة الفاسدة، فيكتب ماكيافيلي كتابه الهام الموسوم بــــ الأمير، ويكتب هوبز كتابه اللوفياثن/ التنين الذي أثار جدلاً كبيراً ولا يزال يُثيره إلى أيامنا هذه، ويأتي بعده لوك ليضفي لاحقاً صيغاً جديدة على فلسفة العقد الاجتماعي. فحالة الطبيعة التي يتمّ توصيفها في فلسفة هوبز على أنّها حالة فوضى لا ينظّمها أي قانون، سيعتبرها لوك مرحلة حريّة ينظّمها قانون الطبيعة وهو أهم من كلّ تلك القوانين المدنيّة الوضعيّة. وإذا كانت فلسفة لوك الليبيراليّة ومبادئها قد ساهمت بشكل فعليّ في قيام الثورتين الفرنسيّة والأمريكية في القرن الثامن عشر، فإنّ الليبيرالية في القرن التاسع عشر لم تتمخّض عنها نفس القيّم، وهي بنظر مطر «فلسفة تجريبيّة نفعيّة أكثر منها ثوريّة» (24). وهي في موقفها هذا تحاول أن تسوق لنا مسوّغات هذا الرأي وما يؤيّده تاريخيّا فتشرح كيف آلت الليبيراليّة فيما بعد إلى ظهور البورجوازيّة التي استأثرت بمشاريع الصناعة ومارست الاحتكار واستغلّت العمال في مجال الاقتصاد.

مع هيجل نصل إلى شكل جديد من التفكير تأثّر بالأحداث السياسيّة الكبرى في أوروبا وسيؤثّر لا محالة في الأحداث اللاحقة، وتعدّ فلسفة التاريخ الهيجليّة بمثابة المدخل الأساسي لفهم فلسفته، فالتاريخ هو المنهج لدراسة النظم الفكريّة والسياسيّة. وعلى الرغم من الأهمية التي تمثّلها فلسفة هيجل ومدى تأثيرها على العقول إلاّ أن الكاتبة مطر ترى أنّ لفلسفة هيجل بعض المساوئ والأخطاء لا يمكن التغاضي عنها: فالتحليل الفلسفي في مجال التاريخ يحيلنا إلى حتميّة أشبه ما تكون بالضرورة المنطقيّة وهذا يتعارض بشكل واضح مع الإرادة الإنسانيّة الحرّة. وبالنسبة لهيجل فقد أحالته أفكاره في الضرورة والحتميّة التاريخيّة إلى تبرير غزو نابوليون لبلاده وإعجابه بهذا القائد الذي يمثّل في نظره روح العالم، لتضيف أنّ هيجل لم يتفاعل إيجابا مع ثورات التحرّر السابقة التي عرفها أو سمع عنها، وشجّع رجعيّة الدولة البروسيّة فأصبح بلا منازع فيلسوف الرجعيّة والإقطاع في عصر بدأت فيه الشعوب تتّجه إلى تحقيق قيّم الديمقراطيّة والاشتراكيّة.

وتَرْصد لنا الكاتبة في الجزء الأخير من كتابها، المذكور أعلاه، مفهوم الاشتراكيّة وأهمّ المبشّرين بها في الغرب لتتوقّف عند الاشتراكيّة الماركسيّة فتبدأ في تناول ماركس ومؤلّفاته التي كتبها بمفره كـــ الإيديولوجيّة الألمانيّة، أو تلك التي تعاون فيها مع صديقه إنجلز مثل العائلة المقدّسة، ورأس المال. لا غرو أنّ الفلسفة الماركسيّة اهتمّتْ بالمشاكل الاجتماعيّة وما نجم عن الثورة الصناعيّة من أزمات، ورغم تأثّرها بفلسفة هيجل وحصراً بفكرة الجدل عنده إلاّ أنّها أعادت صياغة مفهوم الجدل من جديد وعكسته بحيث لم يعد الفكر هو السابق عن المادّة بل إنّ المادة هي السابقة عن الفكر. وتتمسّك الماديّة التاريخيّة بالتفسير المادّي للتاريخ فتجعل العوامل الاقتصاديّة من أهمّ أسباب تطوّرها لأنّ العمل والإنتاج والثروة هي سبب تطوّر المجتمعات، إنّ الاقتصاد البدائي تطوّر إلى العبوديّة ثم إلى الإقطاعيّة ثم الرأسماليّة التي تؤول إلى الاشتراكيّة والشيوعية وهي المرحلة النهائيّة من التطوّر التاريخي يحصل فيها اكتفاء الجميع، تختفي معها الطبقيّة وتُلْغى فيها الدولة.

وبعد أن تَسْترسل الكاتبة في شرح نظريّة فائض القيمة والشيوعيّة الماركسيّة وملامح المجتمع الشيوعي في الفلسفة الماركسيّة اللينينيّة تصل إلى أنّ الفلسفة الماركسيّة كان لها تأثيرها الواضح على الحركات السياسيّة والفكريّة، وتُرْجع أسباب ذلك النجاح الباهر في انتشار الاشتراكيّة إلى قدرتها في أن «تتحوّل من مجرّد نظريّة يتداولها المفكّرون ويتدارسها الباحثون على صفحات الكتب إلى إيديولوجيّة على يد بعض السياسيين الذين لم يقفوا عند حدّ تفسير الحياة. بل عملوا على تغيير مجرى أحداثها السياسيّة ومن أمثالهم لينين وستالين» (25). وفي محاولة لنقد بعض الأطروحات الماركسيّة، التي أفاضتْ الكاتبة في شرح مدلولها، تتساءل هل تحقّقت نبوءة ماركس في القول بأنّ تراكم رؤوس الأموال سوف ينتهي بالضرورة إلى الشيوعيّة، وهل العلاقة بين الرأسمالي والعامل يحدّدها فقط نظام الملكيّة الخاصّة؟ ألا توجد عوامل أخرى تحكم هذه العلاقة غير الاقتصاد والمال؟ ألا توجد أبعاد أخلاقيّة وروحيّة ومبادئ خيّرة، تناهض الاستغلال والرق، كتلك الموجودة في الأديان؟ وكأن مطر في هذا الجزء من كتابها تناهض بعض أطروحات ماركس الضيّقة الأفق!

—————————————————————-

4-عن القيّم والعقل في الفلسفة والحضارة

في هذا المضمون تكتب حلمي مطر جملة من المقالات والأبحاث المتفرّقة وتستهلّ كتابها عن القيّم والعقل في الفلسفة والحضارة بمقال «مفهوم الحريّة عند سيمون دو بوفوار»، فتضعنا بذلك في صلب الفكر الوجودي الفرنسي المعاصر وتعدّ دو بوفوار إحدى حاملات لوائه. وتشرح مطر بهذا الصدد كيف أنّ الإنسان هو كائن الأبعاد L’être des lointains عند هذه الفيلسوفة، التي ترى أنّ الحياة لا تتوقّف بالضرورة عند الموت فالموت لا يُنْهي طموحات البشر ومشاريع الناس تتجاوز الموت لأنها ستتواصل مع أحياء آخرين، وهكذا فإنّ وجهة النظر تلك تأكيد على أنّ نشاط الانسانيّة متواصل الحلقات. ويحيلنا هذا الكلام إلى موقف آخر تخوض فيه الكاتبة في معرض مناقشتها لفلسفة دو بوفوار وهو ما يسمّى بالقواعد والقيّم السائدة والقيّم المطلقة، وهي تتنافى بشكل كبير ومسألة الحريّة عند دو بوفوار، فانتشار مثل تلك الأفكار يعمل على انتشار الروح المبتذلة بلغة رفيقها جان بول سارتر. وتسترسل دو بوفوار في عرض وجهة النظر البوفواريّة التي تعتقد أنّ التسليم بعالم جاهز كامل وقبلي هو بمثابة الهروب من الحريّة، ولذلك تعدّ الحريّة في فلسفة دو بوفوار أعلى القيّم وأساسها، وإنّ قيمتها أيضا في انفتاحها واتّصالها بالآخر لكي لا تسقط في القمع والطغيان.

من هذا المنطلق المفاهيمي في تناول قضيّة الحريّة تنقل مطر النقاش إلى مساحة أخرى، إلى فضاء المرأة والحريّة في مؤلّفات هذه الكاتبة الذائعة الصيت خاصّة بعد صدور كتابها الجنس الثاني Le deuxième sexe الذي حاولت فيه دو بوفوار أن تشرح كيف أنّ المرأة لا تولد امرأة بل تصير كذلك، وهذا يعني أنّ المجتمع هو الذي يعيد صياغة المرأة فيجعلها كائنا ضعيفاً مهزوماً غير قادر على التفكير وفي كلّ الأحوال فاقدة للأهليّة، ويبرّر المجتمع هذا المسعى بتكوين المرأة البيولوجي والسيكولوجي استعدادا لكل أشكال القمع والهيمنة الذكوريّة. وتنتهي مطر في تحليلها لمسألة الحرّية في كتابات دو بوفوار إلى القول «لا شكّ في أنّ سيمون دو بوفوار حين ربطت قضيّة المرأة بقضيّة الحريّة كلّها إنّما أعادت النظر إليها بطريقة فلسفيّة عميقة ذلك أنّ مطالبتها بحريّة المرأة ليست إلاّ جزءا من مطالبتها بحريّة كلّ مضطهد سواء على مستوى الطبقات الاجتماعيّة أو على مستوى الشعوب» (26).

ولا تكتمل تفاصيل الخوض في قضيّة المرأة وحرّيتها في كتابات مطر دون أن ترجع بنا إلى الخلفيّة التاريخيّة والفكريّة التي سوّغت القول بأنّ المرأة كائناً دونيّاً، فتحمّل الفلاسفة المسؤوليّة الكبيرة إذْ كانوا أوّل من روّج لتلك الأفكار ابتداء مع فلاسفة اليونان أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى المحدثين منهم كـ روسو وشوبنهاور الذين تفنّنوا في إذلال المرأة وتوصيفها بالقاصرة والضعيفة وجعلوا ملكاتها متخلّفة فربطوا بين تكوينها البيولوجي وقدراتها العقليّة. نتج عن ذلك، مع مرور الزمن، اعتراض على قضية تحررهنّ وتمكينهنّ من نفس الفرص التي تتاح للرجال. ويمكن أن نستثني بعض المواقف الشجاعة لأصحابها تلك التي عارضت الأفكار السائدة عن المرأة وطالبت برفع القيود عنها والمساواة بينها وبين الرجال والسماح لها بالمشاركة الفعليّة في بناء المجتمع ونذكر بهذا الصدد جهود كوندرسيه (1743-1794) وستيوارت مل وهما من أهمّ من أيّد قضيّة تحرير المرأة في العصر الحديث.

أما في المقال المعنون «أخلاقيات المستقبل عند برتراند راسل» فتتوقّف مطر عند مسألة الجنس والحياة الأخلاقيّة لتناقش تصوّر راسل لهذه المسألة في ظلّ القيّم المعاصرة، وكذا أهميّة الجنس والمرتبة التي يحتلّها عند الماركسيين والفرويدين. فقد أعادت الأخلاق المعاصرة وقيّم الثورة الصناعيّة صياغة بعض المفاهيم المتعلّقة بالجنس، كالعفة مثلا التي كانت المسيحيّة دعتْ إليها. فهي ترى أنّ الجنس عند راسل هو حاجة طبيعيّة وذو أهميّة في حياة الفرد والمجتمع ومصدر سعادة للإنسان ودافع للخلق والإبداع الفنّي، ولكنّها تؤكّد أيضا أنّ راسل لا يحصر الجنس في مجرّد شهوة طبيعيّة أو كونه الهمّ الوحيد للإنسان، بل إنّ الطبيعة البشريّة لها دوافع أخرى للسلوك لا علاقة لها بالجنس فقط مثل التحصيل العلمي، الطموح السياسي، التفوّق الاقتصادي، وهذا في صراع الفرد مع الحياة المعاصرة لدرء خطر الطبيعة والتحرّر من عبوديتها ومواجهة الحروب والنزاعات التي تكدّر حياة الشعوب. لنصل إلى قضيّة أساسيّة عند راسل هي الربط بين الأخلاق والوسائل والغايات، إذْ أنّ معرفة الوسائل عند راسل إنّما يستمدّ من التشريعات الأخلاقيّة أما الغايات فمصدرها الفلسفة الأخلاقيّة وهو الأمر الذي يعني ضرورة التفرقة بين الخير من أجل الخير والخير من أجل السماء. وتنبّهُ مطر القارئ إلى أنّ اعتناء راسل بقضيّة الأخلاق يعدّ ظاهرة فريدة من نوعها بين فلاسفة التحليل المنطقي الذين لم يكونوا ليهتمّوا بهكذا قضايا إنسانيّة، وتُرجعُ الكاتبة هذا الاهمام إلى أسباب شخصيّة تتعلّق بطفولة راسل، فقد تيتّم في سنّ مبكّرة واكتشف عندما كبر دفاع والده المستميت عن الحريّة وجرأته في نقد ما كان سائداً من أفكار ومعتقدات.

توجّهُ الإنسان في حياته قيّم ثلاث هي الحقّ الخير والجمال، فالحقّ يسعى إليه في حياته العقليّة والخير هو القيمة السامية التي تتكرّس في الحياة الأخلاقية أما الفنّ فهو القيمة التي يرومها الانسان من خلال إبداعاته الفنيّة والجماليّة وقد اختلفت العصور في تحديد أو توصيف الجمال وذهبت الفلسفة اليونانيّة مع أفلاطون إلى إضفاء طابع الخلود والمثالية على الفنّ وهذا التوصيف ينسحب أيضا على بعض فلاسفة المسلمين الذين أرجعوه إلى مصدر إلهي ظهر في صوفية ابن الفارض وابن عربي وغيرهما. لكن هذه النظريّة للفنّ لا يسري إيقاعها على فلاسفة العصر الحديث لأنّ مفهوم الفنّ تغيّر ومفهوم القيمة الجماليّة في التعبيرات الفنيّة اختلفت، فـــ «قد يحدث أن يعبّر الفنّان عن موجودات ليست جميلة كالبؤس والقبح ولكن يحقّق القيمة الجميلة عن طريق تعبيره الفنّي الجميل» (27)، ممّا يعني أنّ وجود القيّم غير موضوعي وإنّما ذاتي ويعتمد على الأحاسيس في صياغة الشيء الجميل.

كما تعالج مطر في مقالها «ما بين حضارة الآلة وثقافة الانسان» الاختلاف الكبير الموجود في اللغات الأوروبيّة في تعريفها لكلمتي الثقافة Culture والحضارة Civilisation الأمر غير الوارد في اللغة العربيّة إذ تحمل الكلمتان نفس الدلالة، فالمثقّف أو المتحضّر هو الذي تغيّرت أساليب فكره بفعل الحضارة والمعرفة والعلوم. ولكن الكاتبة تقرّ بأنّ الاختلاف في مضامين العبارتين وارد، لأنّه «من السهل على أمّة أن تنقل حضارة علميّة وتكنولوجيّة ولكن عليها أن تصوغ الثقافة التي ترتبط بها والتي تنعكس في القيّم الأخلاقية وأساليب الحياة ونوع المشاعر والوجدانات في الشكل الذي يُناسبها لأنّ المضمون قد يتّفق ولكن التعبير والشكل الخاصّ بهذا المضمون يتنوّع ويختلف» (28)، فالثقافة قوميّة الأبعاد وهي تتفاعل مع الحضارة، وقد تتنوّع الثقافات في حضارة واحدة لأنّ الأولى مرتبطة بقيّم السلوك الإنساني وكيفيّة تعاطيه مع الحضارة، هذه الأخيرة التي تعدّ بمثابة صياغة للعصر بشكل تقني. لكن الأمر البيّن وجود علاقة وطيدة بين الحضارة والثقافة وأنّ الحضارة العلميّة تؤثّر في قيّم ووجدان الناس. هذا وتعدّ التكنولوجيا المعاصرة وقوّة الآلة من معالم الحضارة، ولكن ما تبشّر به هذه التكنولوجيا من قيّم جديدة إنّما يدخل في باب الثقافة لأنّها مرتبطة بالقيّم الروحيّة للإنسان وبحياته، ويتجلّى ذلك في «علاقة التكنولوجيا بالقيّم الجماليّة»، لقد أعانت التكنولوجيا الإنسان على تطوير مهاراته الفنيّة لا شكّ في ذلك، وإن كان الفنّ سيظل إبداعا متفرّدا يتغذّى من الإحساس الإنساني وتذوّقه للجمال.

إنّ نصوص القيّم هذه تجدّد علاقتنا بالعصر وبالراهن الثقافي الذي تحرص مطر على إعادتنا إليه لمساءلته والتواصل معه ومع ذواتنا عبر أشكال الحضارة والثقافة والأخلاق والفنون والتكنولوجيا، وتحاول الكاتبة عبر نصوصها المختلفة، التي تمّ عرضها وتحليلها ومناقشتها في هذا المقال، تشكيل موقف نقدي تحرص فيه على تقديم تصوّرها للوعي الإنساني المعاصر وعرض تجربتها في التعاطي مع القضايا الفكريّة والإنسانية المختلفة عبر العصور.

===========================================================

هوامش المقال

(1) هذه السيرة الذاتيّة استقيتها من حواري مع أميرة حلمي مطر أثناء زيارتها للجزائر لحضور فعاليات المؤتمر الفلسفي الدولي الثالث بتاريخ 26 أفريل 2007 وهي زيارتها الأولى لهذا البلد، حيث تمّ تكريمها عقب اختتام الأشغال بوصفها قامة فلسفيّة هامّة في الوطن العربي. وقد عمقتُ هذا الحوار أثناء زيارتي لها ببيتها في الدقّي بالقاهرة، وأثمر اللقاء على كتابة هذا المقال الذي يتناول سيرة امرأة فيلسوفة ومثقّفة، في الفكر العربي المعاصر، ومُنجزاتها الفكريّة. وإذ أُخْرِجُ أوراق هذا المقال اليوم من أدراجه، بعد مرور بعض السنوات على كتابته، وأضعه بين يدي القارئ المهتمّ فلقناعتي بأنّ الوطن العربي بحاجة، اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، إلى كاتبات من هذا الطراز وإلى فيلسوفات بأهميّة مطر يُفعّلن الفكر ويساهمن في بناء الأوطان بالعلم والثقافة وقيم التنوير.

(2) أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانيّة تاريخها ومُشكلاتها، (القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998)، ص9.

(3) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

(4) بإمكان القارئ الرجوع إلى الفصل الذي يتناول المدرسة السفسطائيّة في كتاب أميرة حلمي مطر السابق الذكر، للاستزادة في هذه المسألة.

(5) أنظر بهذا الصدد أفلاطون، الجمهوريّة، وبشكل خاصّ الكتاب الثاني الذي يتحدّث فيه عن العدالة في المدينة السعيدة وآليات تحقيقها.

(6) أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانيّة تاريخها ومُشكلاتها، ص 120.

(7) من مقدّمة ترجمة أميرة حلمي مطر، لمحاورة أفلاطون، ثياتيتوس أو عن العلم، (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 2000)، ص 8.

(8) المرجع نفسه، ص 19.

(9) من مقدّمة ترجمة أميرة حلمي مطر، لمحاورة أفلاطون، فايدروس أو عن الجمال، (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 2000)، ص4.

(10) المرجع نفسه، ص 6.

(11) المرجع نفسه، ص 7.

(12) أفلاطون، محاورة فايدروس أو عن الجمال، ص 101.

(13) من مقدّمة ترجمة أميرة حلمي مطر، لمحاورة أفلاطون، فايدروس أو عن الجمال، ص 23.

(14) أميرة حلمي مطر، مقدّمة في علم الجمال وفلسفة الفنّ، (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، 1998)، ص 12.

(15) المرجع نفسه، ص 19.

(16) المرجع نفسه، ص 35.

(17) المرجع نفسه، ص 140.

(18) المرجع نفسه، ص 145.

(19) أميرة حلمي مطر، الفلسفة السياسيّة من أفلاطون إلى ماركس، (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، ط6، 1999)، ص 8.

(20) أنظر: أفلاطون، الجمهوريّة، في باب العدالة في الدولة وحكم الفلاسفة.

(21) بهذا الصدد أنظر: أرسطو، في السياسة، نقله عن الأصل اليوناني إلى العربيّة وعلّق عليه الأب أوغسطين بربارة البولسي، (بيروت: اللجنة اللبنانيّة لترجمة الروائع، ط2، 1980).

(22) أميرة حلمي مطر، الفلسفة السياسيّة من أفلاطون إلى ماركس، ص 46.

(23) المرجع نفسه، ص 73.

(24) المرجع نفسه، ص 101.

(25) المرجع نفسه، ص 152.

(26) أميرة حلمي مطر، عن القيّم والعقل في الفلسفة والحضارة، (القاهرة: عين للدراسات والبحوث الانسانيّة والاجتماعيّة، ط1، 2006)، ص 12.

(27) المرجع نفسه، ص31.

(28) المرجع نفسه، ص 47.

******************************************

(*) أكاديميّة وكاتبة من الجزائر.