Arabic symbol

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

 حوار مع عبد الله العروي
 
بحث مخصص
 

 

 

أجـراه: عبد اللَّـه سـاعـف

آفاق: الأستاذ عبد اللَّه العروي، أول شيء يثير اهتمام القارئ لكم، هو تنوع حقول المعرفة والإبداع التي تشتغلون بها وتنتجون في سياقها.

كيف تعيشون تجربة التعدد المعرفي هاته في ذاتكم؟ وأين تجدون ذاتكم بشكل أقوى وأكثر حميمية وتوافقاً مع ما هو من خصائص أناكم الشخصية؟

عبد اللَّه العروي: أنا أقول إني أمارس القصة أو الرواية من جهة ومن جهة ثانية نقد المفاهيم. ننطلق من واقع بدون تحديد أو تعريف، وإلاّ طال بنا الكلام، أسميه أحياناً موصوفاً. هذا الموصوف أتناوله من زاويتين: الأولى هي الوصف الأدبي والثانية هي التحليل. نترك مؤقتاً الجانب الأدبي ونتطرق للتحليل. بمجرد ما نحاول تحليل الموصوف (مشكل العنونة في كتابي الأخير حول مفهوم التاريخ) نواجه مشكلة المفاهيم المستعملة. يسوقنا منطق البحث إلى سبر المفاهيم ذاتها قبل التعرض لنتائج استعمالها. من الإيديولوجيا العربية المعاصرة إلى مفهوم التاريخ، وأنا أقوم بهذا التوضيح المفهومي، تفكيك الآليات المعرفية التي يمكن استخدامها في ما بعد للعرض والتقرير. فأنا أقوم بعمل تمهيدي ضروري، لا يمكن الفهم والتفاهم بدونه. والكتابة التاريخية هي، في مرحلة لاحقة، توظيف المفاهيم المذكورة بعد تحليلها وتوضيحها لفهم الواقع، الواقع الاجتماعي الذي هو في الحقيقة واقع تاريخي، خاصة في مجتمع تقليدي كالمجتمع المغربي حيث الماضي حاضر في قلب الحاضر القائم. لذلك يتداخل البحث التاريخي والتحليل السياسي والاجتماعي والتوضيح الإيديولوجي. منذ ثلاثين سنة وأنا أحاول أن أُفْهِمَ القارئ العربي أن الإيديولوجيا كمضمون ليست هي الإيديولوجيا كمادّة بحثية. الأولى مضمون يعرض ويقرر، أما الثانية فهي بحث ونقاش وجدل. وإلى الآن ما زال البعض يرفض هذا الفرق ويناقش كلامي على أساس أنه مجرد إيديولوجيا لا تختلف عن تلك التي آخذها مادة لبحثي. ونصل حسب هذا المنطق إلى موقف عجيب حقاً. إذا قلت سأصف طيور المغرب، يُقال: هذه دعوة إيديولوجية لأن قائلها يتكلم عن الطيور تحاشياً للكلام عن بني آدم. في هذه الحال يمتنع الحوار الهادف.

الإيديولوجيا بالمعنى الأصلي، اللغوي، هي البحث في منشأ الأفكار، وهذا ما أقوم به. هذا لا يمنعني من التعبير عن رغائب خاصة بي، وحينذاك أعبر عن إيديولوجيا بالمعنى الأول، ولكني أميز باستمرار بين الموقفين. أما من يرفض التمييز فقد يُقال له إن كلامه أيضاً إيديولوجيا، وكلام الغير عليه إيديولوجيا أيضاً، إلى ما لا نهاية.

آفاق: صحيح، ومع ذلك فمن الضروري أيضاً أن نقيم فرقاً بين «الغربة» أو «الفريق» من جانب، وبين «جذور الوطنية المغربية» من جانب ثانٍ وبين «مفهوم التاريخ» أو «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» أو «مفهوم الإيديولوجيا» أو «مفهوم الحرية» من جانب ثالث.

عبد اللَّه العروي: أقتصر على ما هو مهم. في أعمالي النقدية أحاول أن أكون متجرداً غير منتم لبلد أو لثقافة أو لعقيدة معينة. أذهب إلى حدّ أن أريد أن يكون كلامي وكأنه صادر عن شخص أجنبي تماماً على هذه المشاغل. لكني أعلم أن هذا موقف نظري فقط، مفترض إن لم نقل مفتعلاً. أعلم أنني بوقوفي هذا الموقف أسهو عن جانب من ذاتي فأعود لأصفه بوسيلة أخرى، بأسلوب متميّز، خاص به، هو الأسلوب الأدبي. إذا لجأت إلى التعبير الأدبي، وبلغة الأمّ، فلأنه الأسلوب الوحيد الملائم للقصد. يُخطئ من يظن أن المادة واحدة، وأن ما يوجد في الأعمال الأدبية يوجد في الأعمال التحليلية.

ومن هنا جاءت الثنائية شعيب/إدريس. طبعاً شعيب هو النبي العربي، وهو أبو شعيب السارية (جاءت كلمة السارية في الغربة ولم ينتبه إلى الإشارة النُقاد)، الولي الصالح، وهو كذلك القسم الأصيل من الوجدان.. وكذلك إدريس هو النبي العربي أيضاً، وهو الوعي المتفتح للدراسة الدائمة المتواصلة. والحوار مستمر بين شعيب وإدريس دون أن يتغلب أحدهما على الآخر. لو لم أفتح المجال لشعيب ليقول كل ما يريد بكامل الحرية، لما شعرت بالطمأنينة، إذا كانت هناك طمأنينة. أريد أن يستوفي التقليد كل خطوظ الدفاع عن ذاته ولا أريد أن أنزعه نزعاً من نفسي، لأن ذلك يكون بتراً لا مبرر له في ميدان التعبير الأدبي، وإن كان مرغوباً فيه أو مفروضاً في مستوى الاختيار السياسي والاجتماعي. بقدر ما أصل عادة إلى نقطة الحسم في ميدان النقد والتحليل بقدر ما أترك الأمور معلقة في الميدان الإبداعي. لأن هذا هو المطلوب.

آفاق: لكن إدريس مات، أما شعيب فلا يزال رهين محبسه، أو رهين قيود مجتمع ملفاته تظل دائماً مفتوحة؟

عبد اللَّه العروي: إدريس مات بالفعل، ولكن موضوع أوراق هو البحث عن مغزى موته.

مات إدريس لأنه لم يستطع أن يفصل. بمعنى آخر إن موت إدريس عبارة عن عدم الاطمئنان في نفس صاحب إدريس. نستطيع أن لا نحسم ما دمنا في ميدان الأدب والفن، والشعر، لأننا وحدنا في الميدان، لا أحد ينازعنا في مدارنا اللغوي والأدبي، ولكن لا بدّ من الحسم اجتماعياً وسياسياً وفكرياً. هذه عقدة نفسانية، تميّز كل مثقف عربي واعٍ بذاته وبحاله، وهذه عقدة قاتلة بكل معنى الكلمة. وهذا ما يشير إليه مآل إدريس. قيل مراراً الكلمة سلاح وهو كلام فارغ. الكلمة لذة، خمر وجذب...

آفاق: هذا التجاذب بين «إدريس» و «شعيب» نجد صورة أخرى له في الفريق بين «سرحان» وبين «الشيخ العوني» وفي «أوراق»، أجده في مستوى آخر بين السارد وبين شعيب وهما يرتبان أوراق إدريس.

عبد اللَّه العروي: ألاحظ بالمناسبة أن النص الذي كتب عنه القليل هو الفريق، مع أنه الألصق بالوضع الاجتماعي والسياسي بالمغرب. يفضل النقاد استخلاص آرائي بكيفية تعسفية من الأعمال الإيديولوجية عوضاً من الاعتماد على التعبير المباشر الموجود في الفريق.

آفاق: لكن رواية الفريق تدرس في السلك الثالث بكلية الآداب، وأنجزت حولها بحوث ورسائل جامعية؟

عبد اللَّه العروي: المهم هو أني حاولت أن أقوم في كل قصة أو رواية بتجربة خاصة بشكل محدد من أشكال السرد، يمثّل الفريق اللحظة الواقعية بكل معاني الكلمة وضمنها الواقعية اللغوية. وربما لهذا السبب بالذات غضب الكثيرون لأنهم رأوا في الرواية دفاعاً عن اللغة المحكية، مع أن اللهجة المعتمدة ليست لغة الشارع; حاولت أن أتعالى عن الشخصية، عن سرحان، والعوني، وأن يكون للجميع حضور مستقل بارز، معبّر عن وضعية المغرب.

آفاق: وماذا عن الصورة الثالثة عن التجاذب بين المؤلف وشعيب بالنسبة لأوراق؟

عبد اللَّه العروي: كاتبني أستاذ في شأن ترجمة أوراق إلى الإنجليزية فدفعني هذا إلى التفكير في ترجمتها إلى الفرنسية وشرعت في العمل ثم ندمت، لأنني اكتشفت أنه لا بدّ لي من إعادة صياغتها كليةً، وأن مجرد الترجمة غير ممكن بالنسبة إليّ. اكتشفت أن الإيحاءات الموجودة في العربية، والتي تنعدم عند الترجمة، هي الدافع الأصلي، والمحرك الوجداني، لكتابتها بالعربية. عند محاولة الترجمة فهمت موت إدريس فهماً جديداً، وهو أنه استهدف ما هو محظور في ثقافته الأصلية التي لا يريد أن ينفصل عنها بمحض إرادته. عندما فهم إدريس أنه أقدم على جعل الفن أعلى قيمة لديه، وأنه اختار ذلك عن طواعية، أدرك في الوقت نفسه أنه لا يستطيع أن يواصل ممارسته الفنية داخل ثقافته الأصلية. والخروج عن الثقافة الأصلية يعني الموت بالضبط. يُطرح هنا سؤال أساسي، له عواقب وذيول. السؤال هو الآتي: هل الأشكال الفنية التي ظهرت في عالمنا ـ لا أحدد معنى عالمنا ـ هل هي فنية حقاً؟ أم هل هي وسائل خطابية في خدمة هدف أسمى من الفن؟. ألا يعني ذلك أن الفنان، إذا وعى وضعيته في مجتمعنا، حكم على نفسه بالاندثار؟. لم تتضح لي هذه الفكرة عند تأليف أوراق، بل عندما أعدت قراءة النص محاولاً نقله إلى لغة أخرى.

آفاق: لكن في الفصل الأخير من أوراق تبدو هذه الفكرة بشكل منهجي في عدد من المواقف.

عبد اللَّه العروي: ترى هكذا أن الكاتب يصبح بعد حين كسائر القُرَّاء. يحتاج هو نفسه إلى تأويل ما كتب. المهم هو أن التساؤل عما يميّز التجربة الفنية للثقافة التقليدية، ثقافة إدريس وشعيب الأصلية، أمر وارد. لقد صدرت عدة كتب مؤخراً عن فنون الإسلام، خاصة في الأراضي غير العربية. ينبهر من يتصفحها، مسلماً كان أو غير مسلم، إلى حدّ أننا نستطيع أن نقول إن الفاعلية الفنية الإسلامية هي أهم جزء من التراث الإسلامي، تفوق بهاء ونضجاً وتكاملاً الفاعليات الأخرى، السياسية مثلاً أو الأدبية. ألا تكون عظمة الإسلام كقوة حضارية وكإبداع ثقافي، في إنتاجه الفني من معمار وخط وزخرفة وتزويق إلخ؟ فكيف حصل هذا الإنجاز مع التناقض الأساس الذي ذكرناه سابقاً؟ هذا سؤال، أطرحه الآن، تعقيباً على النقاش الحاصل بين شعيب وصديقه حول أوراق إدريس.

آفاق: قبل أن نغيّر اتجاه هذا الحوار، نرى أنكم في الروايات تلحون على تجربة الشعور، تجربة الإنسان، ما دامت الأفكار يمكن التعبير عنها في قالب آخر غير أدبي، أقول بالرغم من هذا، فالقارئ لرواياتكم يحس بفكرة تكاد تكون حاضرة في كل الأعمال، ألا وهي فكرة حالة الإخفاق ووضع الشعور بالعجز، تارة عن الفهم، وتارة عن تحقيق الرغبة وتارة أخرى عن التفسير، إيحاءات هذه الفكرة كبيرة ومتنوعة جداً. لكن ما أود مناقشته هو أصل هذه الفكرة نفسه، فكرة الإخفاق؟

عبد اللَّه العروي: أشاطرك هذا الانطباع عندما أعيد قراءة ما كتبت. ومع ذلك ما يهم في الأعمال السردية ليس فكرة الإخفاق (فكرة التخلف في الأعمال التاريخية النقدية) ولكن الاستلذاذ بشعور الإخفاق. هذا أمر واضح في أوراق، وحتى في الغربة، عندما تكلمت على ما يسميه بعض رجال الكنيسة الكاثوليكية La dإlectation morose ويعتبرونه من المحرّمات.

المنطلق هو بالطبع ما نلاحظه يومياً في مجتمعنا من مظاهر التخلّف. التجربة الأولى التي تلاحقنا باستمرار، هي تجربة الفوات والضياع. يفتح أحدنا فاه ليقول جملة، يأخذ قلماً ليحررها، فإذا به يردد، بغير وعي منه أحياناً، ما قيل مراراً في مواقع بعيدة عنه، يظن أنه يبدع، فإذا به يقلّد رغماً عنه، والتفكير في هذه التجربة المرَّة هو الذي أدّى بي إلى مفهوم التاريخ. ما هو القديم؟ ما هو الحديث؟ كيف نوفِّق بينهما؟. مشاكل خاصة بنا، تلح علينا اليوم، يجب أن نقول فيها ما نراه، الواقع أنها واجهت شعوباً كثيرة في القارات الأخرى، وقالوا فيها ما قالوا وربما قالوا كل ما يمكن أن يُقال. هناك إذن وحدة غير بادية للعيان وهي بالضبط معنى التاريخ، والتاريخ لا يعني سوى تلك الحركة الدائمة الدالة على التماهي والتوحيد. إذا أدركت هذه الحقيقة تحررت من القيود، وإذا لم تدركها بقيت مكبّلاً مقيّداً، تتألم وتشتكي بدون فائدة.

كتب عزيز العظمة يقول إنني أتكلم عن سقْف، يحدّ من إمكاناتنا الإبداعية، بدون موجب، وإن موقفي يدل على خضوع للتاريخانية، لا للتاريخ، أتمنى أنه يعيد النظر في ما كتبت، خاصة بعد التوضيحات التي جاءت في مفهوم التاريخ. ولكن كيف يمكن القول إني أتكلم على سقف غير موجود، مع أن تجربة كل فرد تؤكد وجوده يومياً. هذا طبيب مغربي يفحص مريضاً ويشير عليه بدواء، فإذا بالمريض يخرج من عنده ويفكر، إذا كان غنياً، للذهاب إلى فرنسا للعلاج، ظناً منه أن الطبيب الفرنسي لا بدّ أن يكون أبرع من زميله المغربي. هذه تجربة السقف، لكن الفلاسفة عندنا يتعاملون دائماً مع النصوص، لا مع التجارب التي كانت أساس النصوص، رغم كلامهم على الممارسة الماركسية وعلى الفينومنولوجيا.

أكبر تجربة مرَّة هي تلك التي يشعر بها الأديب عندما يظن أنه يبدع في نطاقه الضيق في حين أنه يقلد، عن وعي أو غير وعي، إذا قيس عمله بالأعمال العالمية. عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، ماذا قال عنه ناشره الفرنسي، هو فلوبير الآداب العربية! في الحقيقة هو أشبه بزولا، ولكن المهم هو أن ناشره نفسه يقدمه كمقلّد، لا كمبدع.

 هذا الواقع المرّ، هو الذي أخذته كمادة سردية. هو ما عبَّرت عنه بمشكلة الموضوع، وقد نعود إليها في ما بعد.

آفاق: هناك انطباع لدى القارئ المغربي والعربي أن رواياتك قلما تستطيع أن تجتذب إليها المتلقي ليواصل القراءة أو إعادتها. ترى هل السبب يعود إلى القارئ، أم هل يعود إلى ما أسميه عادة في مجال الكتابة الإبداعية أحياناً بحضور قدر من الجدية وقدر من الرصانة يفتقد فيها المؤلف إلى السخرية وإلى الدعابة والضحك، بالمعنى الذي تهتم به الشعرية الاجتماعية لدى باختين أو لدى غيره. فكيف تنظرون أنتم إلى هذا الوضع تجاه القارئ؟

عبد اللَّه العروي: قال بعض النقاد إن من الروائيين من يكتب للقُرّاء، ومنهم من يكتب للروائيين أنفسهم، إذا قرأني النقاد والقصاصون، فهذا يجزيني، بيد أنني لا أتصور كيف يعجز القارئ، أي قارئ، عن إتمام قراءة اليتيم، على قصرها وبيانها؟

آفاق: اليتيم هي الوضع الاستثنائي بالنسبة للروايات الثلاث، لكن قصدي أن عنايتكم باللغة وعنايتكم بالشخصية تفوق عنايتكم بطرائق أخرى أو مستويات أخرى في التأليف لخلق علاقات مع القارئ من قبيل السخرية مثلاً.

عبد اللَّه العروي: في رواية الفريق قدر غير قليل من السخرية.

نستطيع أن نتكلم هنا في مسألة الموضوع، لأنني طرحتها في الفريق، ثمّ عدت إليها في أوراق. فصلت بين الموصوف وبين الموضوع. أنت تتكلم الآن على الموصوف، هو المقطّع في كتاباتي، وتجري عليه عملية تركيب، عملية تجعل من الموصوف موضوعاً. لكي يكون الموصوف متصلاً، لا فجوة فيه ولا انقطاع، بحيث يقرأ القارئ بعينه وليس بذهنه، فلا بدّ من انسجام سابق في المجتمع، هو الذي يستوحي منه الكاتب تلك السماكة التي نستلذ بها عند قراءة كبار كتاب القرن الماضي. إذا لم يكن المجتمع منسجماً، كما هو الحال في المغرب، لا في المظهر ولا في العقلية، ولا في التعبير ولا في الشعور، كيف تعطى صورة التكامل والانسجام لمجتمع يفتقد كل هذا؟. فالانسجام الملاحظ عند بعض كتابنا هو خادع، مستوحى إما من انسجام اللغة الفصحى المنفصلة عن الواقع، وإما من الموروث القصصي، أي أسلوب ألف ليلة وليلة، وإما من الرواية الواقعية الأوروبية. عندئذ تكون الرواية العربية نسخاً لرواية أجنبية، هذه عملية يقوم بها كثير من الكُتّاب المصريين. لكنها تستلزم قدراً من الجهل أو من التجاهل والتناسي. إذا كان الكاتب مطلعاً، أميناً، عارفاً بقواعد السرد، فإنه يعي باستمرار هذا الوضع، فهو مضطر إلى تقطيع المادة الموصوفة وإعادة تركيبها. بعبارة أخرى إنه ينفي باستمرار ما يكتب لكي ينفي عنه الاستشهاد والاستظهار.

لا زلنا إذن نبحث عن موضوع خاص بنا. وهذا أمر طبيعي إلى حدّ، إذا عرفنا أن الأمريكان رغم إنجازاتهم العظيمة، لا يزالون يشعرون أنهم لم يستقلوا بعد الاستقلال التام الضروري عن المثل الأوروبي، وأنهم لم يعطوا بعد الرواية التي تكون في مستوى القارة الأمريكية.

آفاق: ومع ذلك نلمس في رواية الفريق كما لو أن الإرادة هي الموضوع الأمريكي المميّز. هذه الإرادة تظهر في الأفلام وفي الإبداع وفي العلاقة بالغير عموماً.

عبد اللَّه العروي: صحيح إلى حدّ كبير. الطابع المميّز للآداب الأمريكية، للقصة الأمريكية بخاصة، هي إهمال ما يعرف عندنا بالقسمة والمكتوب، الإنسان الفرد هو محور الكون. السؤال مطروح بالنسبة لنا العرب: ما هو موضوعنا؟

آفاق: ألا تكون حالة الإخفاق التي توجد وراء الظل في ما يكتب إبداعاً، هي المنبع الممكن لموضوع الإبداع مغربياً وعربياً في اللحظة الراهنة؟

عبد اللَّه العروي: قد يكون. الحديث عن الآداب متشعب وممتع. وهو الذي تطمئن إليه نفسي. فلا أنفصل عنه إلاّ مرغماً.

آفاق: الأستاذ عبد  اللَّه العروي في خاتمة أوراق أو قبيل انتهائها نجد هذه العبارة: «ذهب إدريس إلى أبعد الحدود وصاح: الفن خدعة، العبارة حجاب، الصمت وحده دليل الإخلاص»، وفي خاتمة تاريخ المغرب الكبير قبيل الخاتمة أيضاً يرد لكم حديث عن ضرورة التصالح: أن يصالح المغربي ذاته، وأن يصالح المغربي أخاه، وأن يصالح المغربي الحكومة الشرعية; وفي تعقيب لكم على علال الفاسي وهو يناقش هذه الفكرة في أحد أنشطة إتحاد كُتّاب المغرب خلال مارس 1971 شرحتم فكرة التصالح بأن كل فئة اجتماعية عليها أن تعي أن الدولة هي دولتها. سؤالي هو كالتالي: الأستاذ عبد اللَّه العروي ومن خلال إصداراته الأخيرة نجد أن البعد المفاهيمي هو الذي يغلب على ما ينشره، فهل العروي الآن يوجد في حالة صمت لأن الصمت وحده يدل على الإخلاص؟. أم هل لأن التصالح ليس مع الحكومة القائمة ولكن التصالح مع الدولة بالمعنى الذي عقبتم به على علال الفاسي، هو الوضع الذي يوجه هذا النوع من الانشغال وهذا النوع من الكتابة؟

عبد اللَّه العروي: أتمم الكلام على إدريس ثم أعود إلى قضية التصالح التي طُرحت في غير سياقها. وردت العبارة المذكورة في آخر كتاب أوراق، ولكن من يقولها؟ هناك تعارض بين نظرتين إلى تجربة إدريس، نظرة شعيب الذي يفهمها في الإطار التقليدي، ونظرة السارد الذي يبقى أمامها متردداً، إلا أنه في النهاية يوافق تحليل شعيب على أن نهاية إدريس تدل على صحة ذلك التحليل، بمعنى أن إدريس أخفق عندما فهم أن تجربته الفنية تساوت، بغير وعي منه، بالتجربة الصوفية التي تنتهي دائماً بالفناء. بما أن إدريس لم يرد أن ينفصل عن مجتمعه فإنه انتهى إلى ما انتهى إليه مجتمعه، أي الصمت في ميدان التعبير الأدبي. يعترف السارد بأن هذا هو ما حصل فعلاً/لإدريس، ولكن لا يقول إن هذا ما حصل له هو (أي السارد). بأي موجب يجري السحب؟

في ما يتعلق بالشطر الثاني، يجب أن توضع قضية المصالحة في سياقها، وهو سياق تاريخي بعيد المدى، لا علاقة له بالوضع الظرفي. وعلال الفاسي رحمه اللَّه أخرج العبارة من سياقها. كنت أناقش في كتاب تاريخ المغرب الكبير الفكرة الاستعمارية التي تدّعي أن نفسانية المغربي متجهة إلى الهدم، لا إلى التشييد، وأنها تتّسم بعدم الإتِّزان وبالفورات المباغتة غير الهادفة، إلخ، ثم جاءت المدرسة التقاسمية (segmentariste) فزكّت هذا التصور عن المغربي الذي يتحالف مع أخيه ضد أبيه، ومع ابن عمّه ضد أخيه، ومع الأجنبي ضد ابن عمّه، إلخ، لأسباب واهية غير معقولة. كان هذا التحليل يرتكز على معطيات واردة في تاريخنا، البعيد، والقريب، فكان من اللازم البحث في الظروف التي واكبت هذه الأحداث المؤلمة. هل هي ملتصقة فعلاً بالتكوين النفساني أم هل هي عائدة إلى أوضاع زائلة؟. من هذا المنطلق، وبعد النظر في السلسلة الطويلة من الحروب والثورات والانقلابات، انتهيت إلى هذه الجملة: لكي نبني دولة ومجتمعاً متوازناً، لكي نعيش عيشة عصرية، لا بدّ لنا أن ننسى آثار الماضي السلبية، أن نتعالى عن الفوارق المذهبية والطُرُقية والمحلية واللغوية. التصالح الذي أتكلم عليه هو بين الريف والمدينة، بين سوس والشاوية بين الجزائر والمغرب، إلخ، إلخ.. وهذه الدعوة، في سياقها، موجهة إلى الجميع، إلى الحُكّام والمحكومين فكيف يُسار بها إلى ما قلتَ، اعتماداً إلى تأويل كان، في أحسن الظروف، ناقصاً؟ وهنا أشدّد على نقطة مهمة. عندما كنت طالباً كنت ألاحظ أن الكثيرين كانوا يستشهدون بمقالات صحفية، لماركس مثلاً، عوضاً عن الرجوع إلى المؤلفات الرئيسية، إلى رأس المال أو المدخل إلى الاقتصاد السياسي، وهذا أمر لا يجوز.

ما يكتب في مؤلف قضى صاحبه سنوات في تحريره وتنقيحه لا يمكن أن يُسَاوَى مع ما جاء في استجواب أو في مقالة كتبت على عجل وبطلب من الغير.

إذا أراد كاتب أو ناقد أو باحث أن يناقشني في مسألة علاقة الفرد بالدولة، فعليه أن يعود إلى كتاباتي عن: تاريخ المغرب الكبير أو أصول الحركة الوطنية المغربية، وكذلك إلى مفهوم الدولة. أظن أني كنت في منتهى الوضوح. هناك إذن تحليل نظري يعززه مسح تاريخي مركّز على التجربة المغربية العامّة وتجربة المغرب الأقصى خاصة.

قلت إن السيبة في المغرب لم تكن رفضاً للمخزن العربي الإسلامي كما ادّعى ذلك الفرنسيون، وإنما كانت محاولة للعودة إلى احتلال مراكز في المخزن بعد أن حصل تقليص لذلك المخزن أيام مولاي عبد العزيز. وأكبر دليل على ذلك تصرف الثائر بوحمارة، وأطلت الكلام في ذلك. بناء على هذا يمكن القول، على المستوى النظري، إن الدولة تكون شرعية إذا كانت ممثلة لأكبر عدد ممكن من الشرائح الاجتماعية. ننطلق من، وننتهي إلى، مفهوم الدولة الشرعية كما يعترف به المؤرخون وعلماء الاجتماع والسياسة. كلامنا هنا على النتيجة، وهي المشاركة في تصريف شؤون الدولة، لا على وسائل التمثيل، هذا ميدان آخر، قد تكون المشاركة حاصلة ولكن بطرق تقليدية، وقد تحصل بطرق تمثيلية عصرية ـ كما يحصل العكس، وهذا يعرفه علماء السياسة المعاصرة.

عندما صدر كتابي عن تاريخ المغرب، تعرض له بعض النقاد الفرنسيين على أنه تاريخ الدولة لا تاريخ الشعب الذي غالباً ما كان رافضاً لتلك الدولة، ويحلو للبعض اليوم أن يعودوا إلى تلك الانتقادات ويعتمدوها. ولكن لماذا يطلب من مغربي تربّى في أحضان الحركة الوطنية ولا زال وفياً لأهدافها، يكتب تاريخ المغرب، أن ينفي وجود ذلك التاريخ من أساسه، ينفي وجود دولة مغربية أو حتى مجتمع مغربي؟. ليقل هذا الانثروبولوجي أو الأثنولوجي إذا شاء، ولكن المؤرخ لا يمكن أن يعتمد إلاّ على الوثائق البينة الصريحة، وهذه تؤكد، بوجودها، وجود الدولة. وبما أننا نريد أن تكون الدولة فعّالة إيجابية، لا مجرد آلة استغلالية قهرية، فلا بد لنا من البحث في شروط شرعيتها. كل هذا واضح، منطقي، خال من الأهواء. إن من يريد أن يقوّل الناس ما لم يقولوا صراحة، من يتكلم باسم البُكم الخُرس، هو الذي يريد أن يطلق العنان للتعبير عن أهوائه. له كامل الحرية أن يفعل ذلك، ولكن خارج نطاق التأليف التاريخي المنهجي.

آفاق: أتذكر، وأنا في السبعينات حينما كنا طلاباً، كانت المرة الأولى التي نسمع فيها داخل خلايا طلبة اليسار أطروحات العروي، عن الماركسية والعالم الثالث، وعن مفهوم الإيديولوجيا، ونقد الإيديولوجيا العربية. كانت هذه الأطروحات تبدو كأنها أطروحات سياسية فارهة وجذابة تستعمل في العمليات الاستدلالية وفي الخطابات لدى كل طرف تقريباً، تستعمل لتفسير مواقف معينة. كانت هذه لحظة أو صيغة أولى لاستعمال كتابات العروي وتحليلاته; وسنوات بعد ذلك، ولكن دائماً خلال السبعينات، ظهرت صيغة أخرى في استعمال أطروحات العروي، ويتعلق الأمر هذه المرة بموضوع التأخر التاريخي أو الثقافي، كانت فصائل اليسار أو ما عرف باليسار الجديد بالمغرب آنذاك تبدي اتفاقاً وتوافقاً مع ما ذهب إليه العروي من أننا متأخرون ثقافياً، ولذلك فالأولوية الآن هي للعمل الثقافي وليست للعمل السياسي المباشر. والسؤال عندي يتعلق بالكيفية التي تنظرون بها إلى هذه الاستعمالات المختلفة وغيرها لأطروحاتك ومدى تأثيرها في أفكارها وفي الساحة السياسية؟

عبد اللَّه العروي: لا علم لي بهذا النقاش. كنت آنذاك بعيداً عن الساحة المغربية.

كل ما يمكن لي أن أقول هو أن السؤال الذي طرحته في الإيديولوجيا العربية المعاصرة ناتج عن أمرين: الأول هو اطلاعي على ما كُتب، في مصر خاصة، بين 1930 و1950 عن المسألة الاجتماعية، إذ كنت أنوي تحرير رسالة دكتوراه في هذا الموضوع، والثاني هو ما لاحظته في مصر من تقهقر ثقافي سنة 1961 عندما كنت مستشاراً ثقافياً في سفارة المغرب في القاهرة.

وهذا الانحطاط كان يعترف به كبار المثقفين المصريين من طه حسين إلى محمد مندور إلى نعمان عاشور. كنت تشبّعت وأنا طالب في معهد العلوم السياسية بباريس بالتحليلات الاقتصادية والاجتماعية حول مشكلة التخلّف، وعندما عاينت المسألة في بلد كنا نعتبره متقدماً نسبياً اتضح لي أن المسألة هي ثقافية في الأساس، خاصة وأن السلطة كانت آنذاك في مصر بيد عناصر وطنية تقدمية.

لاحظت عن كثب أنه لا يكفي أن تكون السلطة بيد جماعة تريد الصلاح والإصلاح، تحارب الاستغلال وتستهدف التقدم والرقي، إذا كانت ذات ثقافية صعيفة، غير مستوعبة للأفكار المؤسسة للمجتمع العصري. من هنا جاءت الدعوة إلى الانفتاح على العالم العصري الممثّل في العالم الغربي. كان البعض يظن آنذاك أن العالم الشرقي الشيوعي يمثّل أيضاً الحداثة وربما بكيفية أقوى. اتضح الآن للجميع أن ذلك لم يكن صحيحاً. لكن هذه حقيقة سجلتها في كتابي الذي كتب في بداية الستينات. قلت صراحة إن العالم الشيوعي يستطيع أن يستدرك، لا أن يسبق، مواطن الحداثة، أي الغرب.

لهذا قام ضدي الشيوعيون التقليديون أمثال جورج لابيكا، الذي لم يدرك مغزى الكتاب، لسبب بسيط وهو أنه لم يشارك الهمّ القومي العربي، كما كان يتعامى عن الهمّ القومي في كل شيوعية، شرقية كانت أو غربية.

كان الكثيرون يستشهدون بماركس، ولكن لأهداف سياسية فقط، فقلت إن ماركس النافع هو ملخّص ومؤول ومنظَّر الفكر الأوروبي العامّ، الذي يمثّل الحداثة بكل مظاهرها. الأفضل لنا، نحن العرب، في وضعنا الثقافي الحالي، أن نأخذ من ماركس معلماً ومرشداً نحو العلم والثقافة من أن نأخذة كزعيم سياسي. لم أدع إذن إلى قراءة ماركس، إذ كان مقروءاً وعلى طول العالم العربي، بل دعوت إلى حسن استعمال ماركس لأغراض قومية تحررية. ولهذا استعملت عليه عبارة الماركسية الموضوعية، بمعنيين الوضعية والهادفة.

لا زلت أعتقد إلى الآن أن هذه دعوة بديهية يدركها كل من له معرفة بالثقافة الغربية، ولا يخطئ فهمها إلاّ من كانت بضاعته الثقافية مأخوذة من الصحف والمجلات أو من الملخصات التعليمية. ومن سوء حظنا أن هذه الثقافة الأوروبية الكلاسيكية أضحت مجهولة حتى في أوطانها لأسباب خارجة عن موضوعنا، فأثّر ذلك تأثيراً سلبياً على مسيرتنا الثقافية. لم نعد نفهم الوطنية على وجهها ولا الليبرالية ولا الماركسية.

السؤال المخيف هو: أَوَلَمْ يفت الأوان على كل نوع من أنواع الترشيد والتوضيح بعد أن دخلنا عهداً من الفوضى الفكرية لا نرى له نهاية؟ نقرأ اليوم كتباً تنقد فكرة الحداثة ونعتمد عليها لنقول إن إشكالية الحداثة أصبحت كلها متجاوزة. هل هذا صحيح؟ هل يحق لنا أن نفعل كما لو كنا تجاوزنا الحداثة مثل الأوروبيين الذين عاشوا في أحضانها منذ ما يزيد على ثلاثة قرون، تزيد أو تنقص حسب البلدان؟

يعيش المثقف عندنا في عالمين منفصلين. يواجه يومياً مظاهر التخلّف واللاّ معقول وهي كلها مظاهر تدلّ على عدم استيفاء شروط الحداثة في مجتمعنا، يتألّم منها ويتشكّى، لكنه عندما يكتب فإنه يبقى سجين المرويات والمقروءات، فيفعل كما لو كان يعيش في مجتمع متقدم. كنا نلاحظ ذلك في بلاد الشرق، في مصر ولبنان، ونتعجب منه، فإذا بنا نلاحظه اليوم في المغرب كذلك.

يجوز لألان توران (Alain Touraine) أن ينتقد مفهوم الحداثة، هل يجوز لأستاذ مغربي أن يردّد كلامه بدون التِفَاتة إلى ما يحيط به من سلوك سابق على عهد الحداثة؟ أحاول دائماً، في ما يخصني، أن انطلق مما يحيط بي، وإن انتهيت إلى عبارات وتحليلات بالغة التجريد، لأن هذا هو أسلوبي في الكتابة، ولكن الدافع عندي هو دائماً تجربة أعيشها في الشارع المغربي. فمساءلتي الأولى للواقع الاجتماعي، ثم للمفاهيم في أعلى مستويات التجريد، ثم أخيراً في تطبيق الثانية على الأولى للوصول إلى حكم هادف. وإذا بقي لي بعد ذلك من شعور بالغموض أو بالندم أو بالأسى فأحيله على التعبير الأدبي. لا أخلط أبداً الشعر بالفلسفة.

آفاق: نفهم من ملاحظاتك ومن مؤلفاتك أنه عربياً يفضل ماركس الصحفي على ماركس الكاتب، مؤلف رأس المال أو نقد الاقتصاد السياسي أو غيرها. إنها مسألة لاحظتها كذلك عندما كنت في باريس بالنسبة لـ ريمون أرون. فمقالات أرون في مجلتي «إكسبريس» أو «الفيغارو» تفضل على مؤلفاته نفسها. وبالنسبة إلي، فالعروي الذي يكتب مقالاً موجزاً في لا مليف أو في غيرها هو نفسه مؤلف جذور الحركة الوطنية أو الإيديولوجيا العربية المعاصرة أو تاريخ المغرب، وهو نفسه عندما يكتب مقالاً في كتاب: Edification d’un Etat moderne أو حول الدستور في مؤلف جماعي كذلك. لأن العروي ليس باحثاً كباقي الباحثين. إن وراءه إنتاجاً فكرياً ضخماً، وتراكماً معرفياً مميّزاً، وله معرفة عميقة بتاريخ المغرب، لذلك فحتى ذلك المقال أو المساهمة الموجزة أفهمها في سياق هذا الإنتاج ككل. وآخذ بعين الاعتبار هذا التراكم.

عبد اللَّه العروي: لا تكون الأسئلة في نفس المستوى. في كتبي أنطلق من سؤال عام، هو نفسه ناتج عن تحليلات تمهيدية طويلة، فيكون ملائماً، فحوىً وشكلاً، لمضمون الكتاب. أما عند الاستكتاب أو الاستجواب، فإن السؤال داخل في سياق آخر، وهو مفروض علي. وأحياناً لا يوافقني لا في مرماه ولا في صيغته. أحاول أن أحوّره، ولكن لا أوفَّق تماماً، لأن السؤال غالباً ما يتحكم في الجواب بفرض حدود. إذا تجاوزتُها أبدو وكأنني أتَهرَّبُ من الإجابة.

مع ذلك لا أظن أن في الإسهامات التي ذكرتَ تناقضات صارخة مع ما كتبت سابقاً. مثلاً في كتاب Edification d’un Etat moderne، قلت إن السلطان محمد الرابع كانت له الرغبة في تجهيز البلاد ولم يستطع، لأسباب كثيرة، منها قلّة الإمكانات المالية، واستطاع أن يحقق ذلك الملك الحسن الثاني، بسبب طول ولايته وبسبب توفره على الشروط اللازمة لذلك. لا يمكن لأي مؤرخ أن ينكر أن الملك الحسن الثاني استطاع أن يجعل من المخزن تلك الدولة التي حاول ملوك القرن الماضي أن يشيدوها ولم يجدوا لذلك سبيلاً.

آفاق: عندما قرأت المقالات لم أقرأها خارج هذا الإطار، ويحضرني مثال ماكس فيبر عندما كان يكتب مقالاته السياسية المباشرة حول القومية...

عبد اللَّه العروي: ماكس فيبر كان أيضاً يريد أن يدفع الألمان إلى العقلانية الاجتماعية والسياسية عن طريق احتضان الليبرالية الأنجلوساكسونية.

آفاق: لذلك، أود معرفة ردّ فعلك على هذه الفكرة: مقالك في Edification d’un Etat moderne قرئ على أساس أن العروي يدعم فكرة كون الدولة الحالية من منجزاتها أنها أصبحت إدارة، على الأقل أصبحت هناك إدارة، ولم يتورط في إشكال الديموقراطية، سُجلت هذه الفكرة وكانت مثار عدة نقاشات.

عبد اللَّه العروي: لا علم لي بذلك.

آفاق: المهم، يلاحظ في المقال أنك تتحدث عما أنجز، ولم نلاحظ حديثاً عما يتصل بموضوع الديموقراطية، ونفس هذه الملاحظة قيلت بصدد مساهمتك عن الدستور المعدَّل. إنك تتلافى الحديث عن الأشياء التي هي في طور المخاض أو تلك التي يتم تجاهلها من طرف الدولة. فالحداثة ليست في المستوى التقني أو مستوى التجهيزات فقط، بل ينبغي أن ينظر إليها في مستوى السلوك كذلك، وتحديداً في مستوى السلوك السياسي. فلماذا هذا التلافي للحديث عما لم ينجز؟ أو بالأحرى ما هو انطباعك بالنسبة لهذه الفكرة؟

عبد اللَّه العروي: كل هذا من قبيل البقاء في حدود السؤال. لا أقول إلاّ ما هو داخل في السؤال ويتفق مع قناعتي ومع ما كتبت سابقاً. قد أنسى تفاصيل ما كتبت، لكني لا أنسى المسار العام.

كان الكتاب Edification d’un Etat moderne حول الإنجازات طوال ثلاثين سنة من حكم الملك الحسن الثاني، وكان السؤال حول الدستور يتعلق بالسوابق والممهدات.

ولكن جواباً على ما تومئ إليه، هل يوجد شخص قرأ ما كتبت يجهل رأيي في الديمقراطية والمشاركة السياسية، والدولة الشرعية، إلخ؟

تبقى النقطة حول حداثة السلوك السياسي؟ هل يخطر على بال أحد أنني أستثني هذا السلوك من مشورع الحداثة؟ بل هذا كان هو موضوع رواية الفريق. ونرى هنا بكل وضوح أن كثيراً من النقاد يتعلقون في ما أكتب بالأسلوب الذي يوافق تخصصهم، ولا يبحثون في الصيغ البعيدة عن نوعية مستنداتهم العادية.

الحداثة كل، وهي تطلق على المجتمع ككل، لا على الحكومة أو أصحاب السلطة السياسية فقط.

إذا تكلمنا على عقلانية السلوك يجب أن لا ننظر إليها فقط في الوزارات، في مراكز الشرطة، في المحاكم، بل كذلك في المتجر، في المعمل، في الشارع، بل في البيت، وربما هذا هو المهم. فأنا لا أريد أن ألخص العقلانية في الميدان السياسي فقط. لأن المجتمع يُغَذِّي الدولة بقدر ما تكوِّن الدولة المجتمع. لو أردت أن أتوسع في هذه النقطة لارتكبت خطأين: الخروج على حدود السؤال المطروح، والظهور بتمييع المسألة. مع أن هذه هي قناعتي، كما عبرت عنها بكل وضوح في الفريق.

تعرضت لهذه النقطة، عقلانية السلوك كأساس لمجتمع حر ومتقدم ولنظام ديمقراطي، في المقابلة التي أجريتها مع القناة الثانية (2MI). فكتب أحد المعلقين السياسيين إنني تهربت من الخوض في شؤون الساعة. من حسن الحظ أنه تفرد بهذا الفهم الخاطئ وأن معلقين آخرين أدركوا أهمية هذه النقطة.

من الأفضل للجميع أن يعتمد النقاد على الكتب المؤلفة بعد طول البحث والتروي لا على المساهمات الظرفية التي تخضع بالضرورة لقواعد اللعبة. أو على الأقل أن ينطلقوا منها للعبور إلى ما في الكتابات المتأنية.

آفاق: الأستاذ العروي، ربما اقتربنا الآن من موضوع الإصلاح السياسي. فانطلاقاً مما لاحظناه وخضنا فيه على الصعيد السياسي، وفي ضوء هذا الصوت الذي ارتفع في السنوات الأخيرة في الصحف الوطنية، انطلاقاً من ذلك يبدو أن الإصلاح السياسي أصبح ضرورة بالمغرب الحالي، أو بعبارة أوضح، إن المطالبة بالإصلاح السياسي استقطبت اهتمام كثير من القوى التي تنشد في الظاهر الحداثة والعصرنة، وتغيير الواقع المعيش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وقد تشخص كل ذلك في مجموعة من القضايا المثارة، منها تلك التي تتصل بتعديل الدستور وبالانتخابات وقضايا تنظيم الجماعات ومسؤولياتها. وسؤالي في هذا الإطار ذو شقَّين: ـ هل يمكن اعتبار المطالبة بالإصلاح السياسي من قبل قوى اجتماعية بالمغرب لهو تعبير عن الرفض لما يمكن تسميته بالمخزن العصري؟. هذه القوى بما أنها لا تشارك في دائرة المخزن فهي تطالب بإصلاحه. هل هذه المطالبة هي صورة أخرى مجسمة من المغرب التاريخي في الوقت الحالي؟.

عبد اللَّه العروي: أسمي هذه المطالبة بمواصلة عملية عصرنة الوضع السياسي المغربي. ولا أعتقد أن هذه المطالبة خمدت أبداً، لكنها خضعت لظروف فُرضت على المغرب، لا أرى كيف يمكن إغفال تأثير تطورات قضية الصحراء على هذه المسألة؟ طبعاً من سنة 1973 إلى الآن نشأ جيل بكامله يمثّل اليوم ربما نصف سكان البلاد، ولم يعرف إلاّ الوضع الذي نتج عن هذه القضية. ولكن المحلل السياسي لا بدّ أن يأخذ ذلك في الاعتبار.

طُرحت قضية الصحراء كمسألة وطنية، بسبب الطرح الذي قالت به جزائر بومدين، ووقع حولها وفاق وطني. فحصل بالفعل نوع من التصالح بين القوى السياسية العاملة في البلاد. وانفتح جهاز الدولة إلى عناصر خارجة عنه. من يَعُدْ إلى فترة 1977 و1978، وقد أصبحت تاريخاً، يجد وضعاً سياسياً يختلف عمّا عرف من قبل وكذلك من بعد. تجمدت الأوضاع من جديد لأن قضية الصحراء أخذت أبعاداً خطيرة لأسباب لا حاجة لنا في تفصيلها. ثم استمر الوضع على حاله سنين وسنين. ويدل على التجميد تأجيل الانتخابات وإجراءات أخرى. كان الوضع يتميّز من جهة بتوافق ضمني مجسّد في وحدة الخطاب، ومن جهة ثانية بعدم استكشاف المستقبل، إلى أن ظهرت بوادر التغيير في العالم كله، انطلاقاً مما حصل في شرق أوروبا.

آفاق: الشق الثاني من سؤالي هو كالتالي، مهما تكن الأسباب والظروف فالمطالبة بضرورة الإصلاح السياسي حاصلة الآن وبقوة إن لم نقل بحدة، والخلل مع ذلك حاصل. فهل هذه القوى المطالبة بالإصلاح من خارج الدولة تؤمن بمضمون الإصلاح السياسي لكي تطالب به؟ وإذا كانت مطالبتها نابعة من هذا الإيمان، أفلا يوجد في السلوك السياسي العام مظاهر مناقضة لهذا المضمون؟

عبد اللَّه العروي: لا تأثير للنوايا في هذا الميدان. المهم هو دور المنظمات الدولية التي التجأ إليها المغرب بسبب الضائقة الناتجة عن تكاليف حرب الصحراء. والمنظمات الدولية تشترط دائماً قبل المساعدة عملية ترشيد. وهذه، في حدّ ذاتها، تكتسح شيئاً فشيئاً كل المجال الاجتماعي. تبدأ بالسياسة المالية، والتجهيزية، ثم التعليمية، ولا بدّ أن تنتهي بالإصلاحات السياسية.

إن الكثير من الناس يعارضون تدخل تلك المنظمات بدعوى الحفاظ على الاستقلال الوطني. أنا لا أشاطر هذا الموقف المناهض، لأن الدولة التي تلجأ إلى المنظمات الدولية لا تفعل ذلك إلاّ بعد أن تقترب من الإفلاس، أي من الانعدام. وأي استقلال وطني مع انهيار الدولة؟. تدخّل المنظمات الدولية يفرض على الأقل عموم المنطق العقلاني. لا ينفع الترشيد إلاّ إذا كان منسقاً وعاماً، إلاّ إذا كان مقبولاً من طرف الجميع، أي موضوع وفاق، وهذا الوفاق لا يفرض وإلاّ انتفى من أساسه. ماذا يبقى؟. اللجوء إلى توسيع التمثيل، أي الإصلاح السياسي.

لا نتكلم هنا على فرض صريح بل على تأثير غير مباشر.

آفاق: لكن العصرنة وهي مرادفة للديموقراطية في سياق هذا الحوار ليس لها جانب واحد، جانب المواطن الغارق في التقليد أو غياب النخبة المستحدثة; للمسألة جانب آخر يرتبط بدور الدولة وتحديداً بالمسؤولية. هناك خلل ما في مستوى الفصل بين السلطات أي بين المسؤوليات. فالدولة وبخاصة في مستواها التاريخي، مستوى من تؤول إليه الأمور ومستوى التوافق الوطني، الدولة من هذا الجانب لا تزال مثار توتر وتنازع بالرغم من الانفتاح النّسْبي خلال السنوات الأخيرة. فكيف يمكن عصرنة المجتمع دون تجاوز هذا التوتر وفي غياب فصل فعلي في مستوى الواقع اليومي بين السلطات والمسؤوليات؟.

عبد اللَّه العروي: هذا هو لبّ المسألة. لو كان الأمر خاصاً بالمغرب، قد يرتاب المرء إذن، ولكن الاتجاه في العالم كله هو نحو ترسيخ فصل بين مستويين من المسؤولية: المسؤولية التاريخية وحولها يتمّ الوفاق الوطني، والمسؤولية السياسية والإدارية والمحلية. ماذا جرى أثناء العشرين سنة الماضية؟ حصل تركيز الفصل بين المسؤوليتين رغم كل ظواهر العكس، إلاّ أنه لم تسر التجربة على خط مستقيم. كان الفصل يظهر مرة جلياً ومرة يختفي فيظن الملاحظ أنه لا يوجد. حان الآن الوقت أن تتضح الأمور. ولنقل بصراحة: لا أتصور أن تقوم في المغرب الحالي دولة على نمط عصري في شكل غير برلماني، أي بدون أن يكون رئيس الحكومة مسؤولاً مسؤولية تامّة وكاملة أمام البرلمان.

هذا كلام يجب أن يصدر عن أساتذة القانون الدستوري، ولكنهم في غالب الأحيان يتحاشون هذه النقطة، حتى عندما يطلب منهم الإبداء عن رأيهم بكيفية صريحة.

أنا لا أقول: يجب أن يكون كذا وكذا. أقول فقط إنه في ظروف المغرب مفهوم الديموقراطية يستلزم مسؤولية الحكومة أمام البرلمان. الاختيار مفتوح أمام الجميع، ولكن لا بد من الخضوع للمنطق ولنسق المفاهيم.

آفاق: لقد تكلمت في السؤال عن إمكانية التوتر لسببين: أولاً لأننا نعرف جميعاً أن التعليمات لم تختفِ، وأنها لا تزال في موقع أقوى من المسؤولية، فالإصلاحات والتعديلات الدستورية كمظهر للانفتاح النّسبي لا يوجد فيها ما ينصّ بالوضوح الكافي على اختفاء التعليمات والانتقال إلى عهد المسؤوليات. أما السبب الثاني فهو أن الدولة في علاقتها المباشرة بالمواطنين أو بالجماعات والهيئات هي أبعد ما تكون عن العصرنة وعن الحداثة في العديد من السلوكات في مستوى التصرف والحياة اليومية.

عبد اللَّه العروي: هذا موصوع يحتاج إلى مسح ميداني ينجزه المتخصصون في السوسيولوجيا السياسية، لا يكفي فيه اللجوء إلى الأفكار المجردة. وهو مرتبط بما قلنا سابقاً حول السلوك السلطوي على اختلاف المستويات.

لنلقِ نظرة إلى تصرف الأفراد وهم يدافعون عن حقوقهم. هل يعتمدون على وسائل القانون عندما تكون متوفرة ومضمونة النتائج؟ يميلون بالطبع إلى التوسط والتوسل، إلى الطرق الملتوية، مع أنهم يشتكون صباح مساء من المحسوبية. فهذا سلوك متناقض لا يجب الحكم عليه بتسرع. يجب أن يدرس دراسة موضوعية، لأنه هو مَنْبَت تصرفات أعم. كلما كانت أجهزة الدولة قريبة من المجتمع انعكست فيها مميّزات المجتمع، الطيبة والسيئة.

أعود للقول إن غياب نخبة مصممة على تحديث كل مظاهر الحياة الاجتماعية، ابتداءً من تغيير سلوكها الشخصي، هو الذي يؤدي إلى الحالة التي ذكرت. الراسخ في الأذهان أن دولة القانون لا تقوم أبداً، هذا اليأس هو الذي يغَذّي اللاّ ديموقراطية.

لا حاجة لي للتذكير أني، كمثقف، لا أملك وسائل التنفيذ. كل ما أملك هو أن أختار في مسألة ما، أن استدلَّ على اختياري، أبين أنه خاضع لأهداف عامة لا لأغراض خاصة، وأن أدعو إلى تبنّي ذلك الموقف. من السهل الردّ: ماذا يُجدي التمنّي؟ وهو ردّ قائم على الجميع، حتى الذين يتظاهرون بامتلاك السلطة، لأن الإصلاحات الاجتماعية مرتبطة بتطور المجتمع وهذا التطور يتطلب وقتاً طويلاً. عندما أتكلم على ضرورة الحسم، أعني الاختيار بين هذا الحل وذاك، لا أعني الفرض والإجبار.

يبدو وكأنني أردّد كلاماً قلته مراراً وهذا صحيح، المجتمع العربي متعثر اليوم فهذا التعثر هو الذي يدعوني إلى ترديد نفس الدعوة، لأني لا أزال أراها على رأس قائمة الأعمال. وأنا أرفض ما يفعله غيري، إلى القفز من موقف إلى نقيضه لكي أظهر بمظهر التجديد. الفكر مسؤولية، وليس(موضة) تتغير سنوياً. ما دام مجتمعنا غير عقلاني في أهم مظاهره، وضمنها الفعّالية الإدارية والسياسية، فالدعوة إلى العقلنة والتحديث تبقى ذات مغزى.

آفاق: لقد أجبت عن دور المثقف ولكنك مع ذلك تركت هامشاً، إذ ألاحظ أنك لا تسجل تعثر المجتمع فقط، بل إن المثقفين غارقون في تناقضات المجتمع أيضاً. أنا أسجل الواقع وأحاول فهمه، فهل أكتفي بهذا الدور، وهو دور تعليمي؟. عندما أحاور التراثيين مثلاً، فهل يكفي أن نقول لهم إن الواقع تجاوزكم؟ وإن هناك معطيات أخرى، دولية أو غيرها، وإن هناك اتجاهاً عاماً للتاريخ. مع أنهم في الساحة كخصوم. أي إنهم من ضمن البنيات التي أنا مضطر لمواجهتها. بعبارة أخرى: هل بمقدرو النخبة المستحدثة، الغارقة في بنيات التأخر، أن تتبنى الإصلاح ثم أو بالأحرى أن تنجزه؟

عبد اللَّه العروي: تتعلّق المسألة بموقفي من نخبتين: نخبة ممثلة في الجهاز الإداري بمعنى عام، بما فيه الدولة بكل مكوناتها، ونخبة تعمل على الساحة الثقافية وهي في غالب الأحيان في حالة مواجهة مع الجهاز السابق. فهؤلاء المثقفون يتخذون أسماء تتغيّر مع الظروف. هم اليوم ماركسيون متطرفون وغداً يكونون إصلاحيين دينيين إلخ.. المتغير هو مجموع الشعارات، المرجع الفكري، ولكن الثابت هو الموقع الاجتماعي، بدليل أن بعض العناصر انقلبوا بسرعة البرق من جانب إلى آخر. علينا إذن أن نبقى على مستوى التاريخ والاجتماع.

أنطلق من ضرورة التحديث، الخروج من التخلّف والتهميش العالمي، لذا أضطر إلى أن اعترف أن الجهاز الإداري، مهما كانت ميوله الشخصية، مضطر بسبب علاقاته بالخارج، المتجسّد في الصديق وفي العدو، إلى أن يحافظ على قدر من السياسة التحديثية، ولو كان ذلك فقط لأغراض دفاعية. في حين أن النخبة المثقفة، أكانت في مواقع اليسار أو في مواقع اليمين، وهي تدافع في كلتا الحالتين على التقاليد (لا حاجة إلى التذكير بمقولة الطبقة ـ القبيلة التي انتشرت في فترة ثم تنوسيت)، تنتهي برفض الحداثة ومعارضتها، اعتماداً على حجج ملفقة كتلك التي مرّت بنا. فهذا الأمر هو الذي دعاني إلى التركيز على الدولة كجهاز التحديث، لأني يئست من أن يكون المثقفون وسيلة تحديث. وكلمة مثقف مأخوذة هنا في مضمونها السوسيولوجي، الذي لا يشير بالضرورة إلى ثقافة عميقة ومتكاملة.

أشير إشارة خفيفة بهذا المناسبة، وهي أن هذه الوضعية ليست خاصة بنا. بل عرفتها أوروبا أثناء فترتها التحديثية. أغلبية المثقفين الأوروبيين كانوا ضد الحداثة وطالبوا بالعودة إلى السنّة والتقليد. هناك أقطاب الحركة الرومانسية في ألمانيا وفرنسا، هناك كارلايل وراسكن (Ruskin) في إنجلترا، هناك دوستويفسكي في روسيا، إلخ...

أتحدى أياً كان وأطالبه بأن يشير عليّ بفكرة واحدة عند أعداء الحضارة الغربية المادية الحديثة اللا دينية الإلحادية إلى آخر النعوت المعروفة بين العرب والمسلمين، فريدة لا مثيل لها عند من ذكرت من كبار الكُتّاب الأوروبيين المعارضين للتطور الحديث.

هذا الموقف يدفعني أنا المثقف إلى مهاجمة المثقفين إلى حدّ أني طالبت بالقيام بسوسيولوجيا المثقف العربي، لكي نعرف الدوافع الخفية لمواقفه الإنتحارية. يرى أن العالم العربي مزدرى ومهمّش ويعمل كل ما في وسعه ليزيده تهميشاً بما يدعو إليه من انكماش وانعزال.

لقد صورت في أعمالي الأدبية تعاسة المثقف، ولكني لم أجوّز أبداً اليأس. إدريس تبخّر في الهواء ولم ينتحر. هذه هي قناعتي، الثقافة تؤلم وتؤذي ولكنها تُشْفي أيضاً، بل هي الطريق الوحيد للشفاء.

آفاق: أتذكر أنه في سنة 1971 كان علال الفاسي قد سجل على سبيل المناقشة تحفظه على فكرة التصالح بين الدولة وفئات المجتمع; وأريد من خلال هذا التذكير أن أبين أن المغرب وبالرغم من كل شيء قد عرف منذ ذلك التاريخ إلى الآن موجات من التحديث اخترقت الساحة المغربية. وأثناء المناقشات حول التعديل الدستوري، قرأت في الصحف الوطنية، في «الاتحاد الاشتراكي» وفي «العلم» وفي غيرهما، خطابات وتحاليل تطرح فكرة أن هذه الدولة هي دولتنا وليست عدواً لنا، فعلينا أن نخترقها وأن لا نتعامل معها كأنها عدو. ومن خلال ذلك يسجل الملاحظ أن الثقافة السياسية بين بداية السبعينات والآن قد عرفت تغيّراً، فمثل هذا الكلام كان مرفوضاً خلال السبعينات في المستوى السياسي العملي. فبم يفسّر ذلك؟

عبد اللَّه العروي: صحيح أن المجتمع يتقدم ولكن الفجوة بين الواقع والتطلّعات تبقى على حالها. بقدر ما يتقدم المجتمع في بعض القطاعات، بقدر ما تزداد الطموحات. قد تكون بعض الأوضاع قد تحسنت فحصل نوع من التحديث في الممارسة السياسية، ولكن المطلوب اليوم هو تحديث اجتماعي.

لا يزال مشكل المرأة قائماً. وهذا مشكل يهم المجتمع ككل. يهم المثقفين بصفة خاصة. وأنتم تعرفون مواقفهم المتذبذبة الخجولة، وذلك في جميع قطاعات الرأي العام.

لا يدرك الكثيرون أن قضية المرأة هي في العمق قضية الأسرة والحياة الزوجية والتربية العائلية، أساس المجتمع الديموقراطي العصري. لا يمكن أن نبني مجتمعاً عصرياً بدون نواة عائلية مكوّنة من زوج وزوجة لهما مشروع في الحياة.

تلكمنا هنا كثيراً عن المصالحة بين الأفراد والدولة، والمصالحة بين الرجل والمرأة هل هي محققة؟ لا نرى إلاّ الشقاق والنفاق والتحايل، وذلك بمرأى ومسمع من الأطفال، ونتعجّب بعد ذلك عندما نرى ذلك السلوك نفسه في الحياة الاجتماعية العامة وفي ممارسة السلطة. هذه الظاهرة غائبة حتى من إنتاجنا الأدبي.

أين حركة الإحسان والمواساة، وهي ضرورية لإرساء قواعد مجتمع متوازن؟ الجميع ينتظر كل شيء من الإدارة، وبذلك يعطى للإدارة فرصة التدخل في كل شيء، حتى يبقى الفرد أعزل أمام السلطة، بدون حواجز تحميه. وهذا الخلل من أهم مظاهر الضعف عندنا ومن أبرز عوائق ترسيخ السلوك الديموقراطي بيننا. لا يمكن أن ينشأ عندنا مجتمع عصري تتعاون فيه كل النيات الحسنة بدون ظهور فعاليات خيرية إحسانية تعاونية على أساس تطوعي لا جبري. هنا الفرق بين مجتمع وسطوي تتحكم فيه عقلية الصدقة والولاء والاستتباع ومجتمع عصري تنظم فيه فعاليات خيرية طوعية مبنية على فكرة التآزر والمواطنة. وعلى أساس هذا النشاط التطوعي ينشأ العمل السياسي الهادف. في ضوء هذه التربية يدخل المرء ميدان السياسة ويشتغل فيها لمدّة محدودة كمساهمة منه في العمل الجماعي ثم ينصرف بعد ذلك إلى شؤونه الخاصة مفسحاً المجال للآخرين. فلا ترتكز في الأذهان فكرة السياسة كحرفة، لأن هذه قابلة بعد ذلك إلى التحول إلى فكرة السياسة كإنعام وتفضل. كيف الكلام على السياسة دون اعتبار هذه الخلفيات؟ وإلاّ انقلب الكلام إلى دعوة إيديولوجية، إلى استمالة.

هناك حقول إذن غير مدروسة. لذلك نتكلم في مسائل نجهل جذورها ومقوّماتها، فنتيه في العفويات. أتردّد كثيراً إزاء أسئلة ذات أبعاد سياسية لا لأنني أتهرّب منها، بدليل أني أكتب فيها بكيفية أو بأخرى منذ بداية اقتحامي ميدان التأليف، ولكن لأنني أرى من الضروري الخوض في بعض الممهّدات. إذا أسهمت فيها ظن السائل أني أتحايل عليه، وإذا تجاوزتها لا أكون راضياً على نفسي لأني أشعر أني بقيت في نطاق الظواهر الخادعة.

آفاق: من أهداف هذا الحوار أن نناقش معك الأشياء والتساؤلات في عمقها وإجمالاً، فالملاحظ أنك لأول مرة تتوسع في الحديث عن الموضوع السياسي المباشر.

عبد اللَّه العروي: لا أظن ذلك، هذه الأفكار قد عرضتها مراراً وفي مناسبات عديدة.

آفاق: أقصد في حوار مباشر وحول قضايا راهنة جداً وليس في مؤلفاتك أو كتاباتك؟

عبد اللَّه العروي: قد يكون. رغم أني أشعر أني كشفت عن كل الأوراق في الفريق وفي أوراق. إلاّ أن من يهتم بالتحليلات السياسية لا يلجأ إلى تلك المؤلفات وإنما يتجه تواً إلى الإيديولوجيا العربية المعاصرة. يستنبط منها الخلفيات، المسكوت عنه، له الحق في ذلك، لكن لماذا لا يؤخر هذا العمل التأويلي الاستبطاني إلى ما بعد أن يتحقق مما قلت فعلاً وصراحة؟

في حلقة رجل الساعة التي أجرتها معي القناة الثانية (2MI)، قلت بالحرف إن المجتمع العربي وحده، وضمنه المجتمع المغربي بالطبع، يتكلم عن الأموات أكثر مما يتكلم عن الأحياء. هذه الملاحظة كانت تستحق المناقشة والتعليق. لم يلتفت إليها أحد، ولا أدْرَكَ مغزاها المعلق الذي أومأت إليه سابقاً، والذي قال إنني تهربت من كل الأسئلة ولم أجب على أي واحد منها. وأنت نفسك تعود بنا دائماً إلى جوّ السبعينات، يعني هذا أن لا بدّ لك من مرتكز في الماضي.

 

آفاق: العودة إلى السبعينات في هذا السياق هي من أجل ملاحظة التغيّر والتبدل، هذا كل ما في الأمر.

عبد اللَّه العروي: قد يكون، لكن العودة إلى الماضي ميزة نختص بها في تفكيرنا. في كل مناسبة نحيي ذكرى. لا زلنا في منطق «عام الفيل».

آفاق: سأعود إلى الفكرة التي تتعلق بمفهوم التاريخ. يتضح من خلال كتاباتك، ومن خلال التمييزات التي تقيمها بين القديم والحديث، وفي ضوء أمثلة متنوعة وعديدة تسوقها من التاريخ الأوروبي، يتضح من كل ذلك أن هناك سوء تفاهم في العلاقة بين التاريخ والفلسفة أو المهتمين بالفلسفة، وقد تحدثت عن سوء التفاهم بإسهاب. وأضيف لربما اتسع سوء التفاهم ليشمل العلاقة بالمهتمين بالاقتصاد أو بالفكر السياسي بصفة عامة. هذا الفهم الخاص لديك للتاريخ ناتج عن تكوينك; فبالرجوع إلى هذا التكوين سنجد أنه تدرج من الاهتمام بالعلوم السياسية إلى التاريخ ثم الإسلاميات فالإبداع. هذا البعد التاريخي في الكتابة ليس متوفراً دائماً لدى المهتمين أو الذين يكتبون في مجال الثقافة والفكر بصفة عامة. وبالتالي فالنقاش يظل ناقصاً، لأن صياغة المفاهيم تأتي في مرحلة أخيرة من البحث والإنتاج وليس في بدايتهما. هناك إجمالاً غياب حوار نقدي مع المؤرخين. وقد يكون هذا الغياب ناتجاً عن تكوين المؤرخ المغربي لأن تكوينه لم يتح له هذا الانفتاح على علوم أخرى. إن تكوينه أو اهتمامه مثلما قلتَ ماضوي في الغالب ومحكوم بالرجوع إلى الماضي. من هنا يأتي انغماسه البالغ في الأحداث. لذلك فالقضايا المثارة الآن تطرح أيضاً على مستوى المؤرخ: من هو المؤرخ المغربي الآن؟ ماذا يريد أن يكون ويقول؟. هل المؤرخ المغربي موجود؟. وبالتالي ما هي تطلعاته؟. من الناحية الواقعية هناك غياب واضح للمؤرخ عن الساحة الثقافية بالمغرب. وغيابه تملؤه كتابات أخرى. وعندما نعود إلى خطابك بالأكاديمية سنجد أنك تحدثت عن نفسك باعتبارك تكونت في إطار الحركة الوطنية وقدمت أمثلة كثيرة في هذه النقطة. وعندما أتابع سيرتك وتكوينك وأقارن، ألاحظ دائماً أن هذا النحو من التكوين المنفتح والذي تشغله أسئلة وإشكالات ليس هو النموذج الغالب في الكتابة بالمغرب. ففي المغرب لا زال هناك تمايز واضح بين شخص له تكوين منفتح وله هاجس البحث، هاجس هو بمثابة همّ وقلق أو بركان داخلي ينفجر كل مرة وفي كل كلمة، وبين شخص آخر ـ كتابة أخرى ـ لا يمتلك بحكم التكوين أيضاً مثل هذا القلق أو هذا الانفتاح.

عبد اللَّه العروي: هذا واضح بالنسبة إلي. لا أتصور كيف يمكن أن ندرس تاريخ المغرب بمعزل عن التاريخ العام وعن التاريخ الكوني، وهذا يختلف مفهوماً عن ذاك.

أتأمل ما حصل لمصر وكيف تراجعت فيها الحركة الثقافية إلى ما نرى اليوم، وأفتكر أحياناً أن السبب قد يكون التمادي في الطمأنينة عند المصريين، كما لو كانوا يقولون: نحن هنا منذ خمسة آلاف سنة، فلن يلحقنا ضرر. وهذا الاطمئنان في نظري خدعة وأية خدعة. إلّا أن الأمر يختلف في ما يتعلق بالمغرب، سأقول الآن قولة قد تغضب كثيراً من إخواننا خارج المغرب، وهي تعبّر عن عقيدة ركزتها في نفسي التربية الوطنية.

أعتقد أنه يوجد مستوى في وعي المغاربة تتجمع فيه بواعث المطالبة بالمزيد من الإنجاز. أشعر شعوراً غامضاً وعميقاً أن المغربي لا زالت له مطالب يقدمها إلى التاريخ، فهو ينتظر المزيد ويريد المزيد ويطالب بالمزيد. فهو غير راض على ما حقق في القرون الماضية. لا يقول مثل المصري: قد وصلت إلى حدّ من الإنجاز لا يمكن أن أتصور تجاوزه والتفوق عليه، وهذا الفرق في النفسانية واضح لكل من عاش في البلدين. المغربي، بعكس ذلك، يعتقد أنه قد ينجز أكثر مما أنجز في الماضي. ربما لأنه لم يشارك بالقدر الكافي في العملية السياسية. فالعطاء المغربي، المساهمة المغربية، الإبداع المغربي، كل ذلك في سجل المستقبل لا في لوح الماضي. هذه قناعتي، أحكم على كثير من الأمور عندنا بالتفاهة وبالتقليد وبالمجانية وبالتقادم، ولكني انتهي دائماً بالدعوة إلى العمل والإنجاز، إلى الانفتاح على المستقبل، إنطلاقاً من ذلك الشعور الغامض بأن الوعد لم يتحقق كله بعد.

ومن هنا جاء اهتمامي بتطلعات المرأة المغربية. قلت مراراً لإخواننا التونسيين، وهو كلام لم يعجبهم، إن المرأة المغربية، رغم القوانين والعادات، لها حضور متميّز لا أرى ما يماثله في تونس رغم إصلاحات الزعيم بورقيبة.

آفاق: الأستاذ عبد اللَّه العروي، هناك موضوع مجاور لهذا الذي تفضلتم به الآن، فانطلاقاً من تسليمكم بأن المرأة المغربية لها دور منتظر بناء على عدة مؤشرات من واقع المطالبة بالمغرب...

عبد اللَّه العروي: ما ألمحت إليه في الغربة برسالة ماريا. لا زلنا في انتظار رسالتها أو أوبتها هي

آفاق: أتمم السؤال، ففي ظل هذا النسيج السياسي العام نلاحظ بروز قوى ربما كانت في عهد قريب مختفية، تتمنطق أحياناً بالدين، ولها مع ذلك مطلب سياسي واضح. ويمكن تسمية هذه القوى، وفق ما هو متداول، بالحركات الأصولية، أو بالحركات الإسلامية، أو بالإسلام السياسي المعاصر، ولكنها في ما يبدو قوة منظمة ولها مطالب وربما بالأساس في المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كيف تنظرون أو كيف تقوّمون هذه الظاهرة انطلاقاً من التحليلات والآراء التي أثرتها وتثيرها؟

عبد اللَّه العروي: واضح أنني لا أوافق على مضمون البرنامج، انطلاقاً من الاختيارات التحديثية التي عبرت عنها. أعتقد أن من يقول إن تطبيق الإيديولوجيا الإسلامية، كما تُفصل اليوم، يؤدي إلى نظام ديموقراطي، يعكس مضامين الكلمات. لكل واحد الحق أن يسمي النظام الذي يتمنّاه بأي اسم أراد، إلاّ أن ذلك النظام لا يمكن أن يكون عصرياً، في نطاق التحليلات والمفاهيم التي سقتها طوال هذا الحوار. قد يحتوي على مظاهر اقتصادية واجتماعية جيّدة، ولكنه لا يوسم بالحداثة في القاموس السياسي المتفق عليه حالياً. لذا، سيجد صعوبة كبرى ليقبل ضمن المجموعة الدولية، ليس في الأوساط الغربية وحسب بل في أوساط شرقية وإفريقية كثيرة. وبالتالي سيقود حتماً إلى العزلة والانزواء. هذه نقطة الانطلاق.

ثم هناك العبرة التاريخية. ليست هذه الدعوة وليدة اليوم، بل ارتفعت أصوات كثيرة للمناداة بها في الثلاثينات من هذا القرن وفي أنحاء كثيرة من العالم العربي. سبق أن قلت إن الإيديولوجيا العربية المعاصرة تمثّل نوعاً من الردّ على ما جاء في كتاب السيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام. وبدراستي لهذا الكتاب اطلعت على الكثير مما ألّف في الشرق حول هذا الموضوع منذ بداية الحركة الإصلاحية، ومنذ ذلك الحين رسخ في ذهني أن المفاهيم التي ترتكز عليها الدعوة المذكورة، تتعارض مع الفكر المعاصر، وهذا طبيعي إذ تولّدت عن رفض ذلك الفكر جملة وتفصيلاً، باعتباره مرتبطاً بالمسيحية واليهودية والاستعمار.

نقطة ثالثة تهم البعد الاجتماعي للمقولات الإيديولوجية. واضح أن هذه الحركات تولدت عن توسيع العملية التعليمية التي عمّت شيئاً فشيئاً البوادي والقُرى والأرياف. فكان من الطبيعي، في ظروف البلاد العربية، أن ينحطّ مستوى التعليم إلى ما يُمثّل القاسم المشترك لكل الفئات الاجتماعية. كل ذلك حصل في ظل قطيعة متزايدة مع الأجواء الثقافية الأجنبية، الغربية منها والشرقية. فالشخص الذي يتعلم داخل هذا النظام، يكون متفقاً مع نفسه إذ يجاري تلقائياً عوائد العائلة والقبيلة والمنطقة. وإذا كان هناك رفض، فهو متجه إلى الأجنبي. كل فكرة تبدو معارضة لتلك التقاليد، تمثلُ خطراً على استمرارها، توسم بأنها خارجية مستوردة دون النظر إلى مطابقتها أو عدم مطابقتها للحق أو المصلحة.

إزاء حركة مثل هذه أقف موقف المؤرخ والمحلل الاجتماعي، لا موقف المثقف المرتبط بإيديولوجيا معينة سياسية أو دينية، فأقول: كيف يمكن لرجال تربوا في هذا الإطار أن يسيِّروا جهاز دولة عصرية أو شبه عصرية أو في طريق العصرنة؟ في كل الدول التي نعرف تاريخها بتدقيق، من فرنسا إلى روسيا، وجدت حركات مشابهة تعتمد التقاليد الوطنية وتعارض الرأسمالية والتصنيع، وكانت دائماً نشيطة، وأحياناً قريبة من دفة الحكم، ولكنها لم تستطع أن تستولي أبداً على الحكم لسبب تقني، وهو عجزها عن تسيير الجيش والإدارة، والنظام المصرفي، إلخ، إلخ. فصاحب السلطة، كيف ما كان اتجاهه الشخصي، يرى بوضوح أن ترك التسيير لهؤلاء الناس يعود بالكارثة على الدولة وعلى الأمة. فينحصر تأثير هذه الحركة في نطاق السياسة الدينية (الكنيسة) وفي التعليم العام، لا التقني المتخصص، وأوضح مثال على هذه الوضعية نجده في روسيا القيصرية.

لهذه الاعتبارات كنت من بين المثقفين العرب القليلين الذين عارضوا منذ البداية الحركة الخمينية واعتبروها خطراً على الأمة العربية جمعاء، وتنبأوا بإخفاق سياستها الاقتصادية. وهذا ما حصل بالفعل. فموقفي متجذر في الوعي بمنطق التاريخ العامل وفي متطلبات المصلحة القومية، ولا علاقة له باختيارات إعتقادية شخصية. حتى لو كنت معجباً بهذه النقطة أو تلك في برنامج تلك الجماعة، فهذا لا يدفعني إلى تغيير رأيي.

آفاق: ألا ترون في هذه الظاهرة أكبر مظهر من مظاهر إخفاق الحداثة أو العصرنة في العالم العربي والإسلامي؟

عبد اللَّه العروي: لا يجب الخلط بين تحديث جهاز الدولة، وهو أمر لا يتوقف ولا يمكن أن يتوقف بسبب التأثيرات الأجنبية كما رأينا سابقاً، وبين ضمور الدعوة إلى التحديث. فالسؤال ينصبّ على الظاهرة الثانية. أي أن أعداداً كبيرة من المثقفين (بالمعنى السوسيولوجي الذي أوضحناه) أصبحوا ينظرون إلى الحداثة وكأنها كارثة على الالتحام القومي والتوازن النفسي والتواصل التاريخي.

هذه ظاهرة ثقافية اجتماعية تخص المثقفين، ولها بالطبع تعبير سياسي يظهر اليوم ظهوراً قوياً. لكن الأسباب والدوافع تبقى ثقافية في الأساس.

أحد الأسباب هو التعريب الذي حصل. كان تعريباً لغوياً فقط. ولكي تتضح هذه النقطة يجب المقارنة مع ما حصل في تركيا. إذ لم يتعلق الأمر هناك بإبدال حرف بآخر بل بخلق لغة تركية حديثة تختلف عن القديمة لكي يحصل تتريك ذهني فعلي.

أما نحن فإننا أحيينا اللغة القديمة بكل مفاهيمها وزاد من قوة هذا الاتجاه اتباع سياسة الازدواج. العلوم تدرس بالفرنسية والآداب بالعربية، فالمثقف بالعربية عندنا عاد رغماً عنه إلى الجو الثقافي القديم. انظر ذلك في الدراسات اللغوية تجد أسماء إفرنجية ولكن المفاهيم هي مفاهيم النحاة القدامى.

هناك ظاهرة ثانية تهم التأثير الخارجي والتشجيع من طرف عناصر سياسية لا علاقة لها في البداية بهذه الحركة وبأهدافها. تدل الدراسات على أن الحركة الخمينية شُجِّعت منذ البداية لإضعاف الحركات السياسية الليبرالية الديمقراطية. ثم بعد ذلك استقلّت وانقلبت ضد من رعاها في المهد. ونرى من حين إلى آخر بوادر العودة إلى التحالف القديم.

لا يمكن أن يقال إن الدين عندنا يتّجه بطبيعته إلى السياسة، بل السياسة هي التي تبحث عن الدين لإدخاله في حلبة الصراع. ثم يحصل بعد ذلك ما يحصل.

أود أن أنبه إلى عامل ثالث وهو الإعلام الغربي الذي يريد أن يسجن الإسلام في الحركة الأصولية كما يسميها. فهو لا يلتفت إلى الحركات المشابهة الموجودة منذ زمن طويل عند النصارى واليهود والهندوس إلخ. ولا يلخص أبداً فيها الظاهرة الدينية. وعندما يُقال للصحفيين الغربيين: قارنوا بين هذه وتلك، لا يعجبهم هذا الكلام.

وأريد في الختام أن أذكر بما سبق لي أن صرحت به وهو أن العقيدة الإسلامية تستحق أن تقدم إلى غير المسلمين وحتى إلى المسلمين بشكل آخر، غير الذي تعوّدنا عليه. وهذا التقديم الجديد يستلزم الاطلاع على العقائد الأخرى من نصرانية ويهودية وبوذية إلخ، في صيغتها الحالية.. الاطلاع على النصرانية الحالية بشتى اتجاهاتها وتأويلاتها لا كما فهمها الشهرستاني وابن حزم، اليهودية كما تدرس في الجامعات الأمريكية وكما يعبِّر عنها كبار الفلاسفة والكُتّاب اليهود المعاصرون. وذلك لنكون في مستوى المطلوب منا.

ويستحق الإسلام أن نقوم بذلك الجهد لأنه وحده يرغم الخصوم على العودة إلى نوع من النزاهة والاتزان، يجب أن نواجه من يجهل حقيقة الإسلام أو يتجاهله في مستواه الفلسفي العميق. ولكن للأسف الشديد لا نلاحظ هذا الاطلاع الواسع الضروري عند من يتكلم اليوم باسم الإسلام. وهو يضر من حيث لا يشعر ويصبح، كما قال الشيخ محمد عبده، حجّة على دينه. لذا أتخوف من أن يصبح الإسلام السياسي خطراً على الإسلام كعقيدة وكدين وكأخلاق، لا بالنسبة للخارج فقط ولكن حتى بالنسبة للداخل.

هذا هو رأيي وأعبر عنه بكل صراحة ولا أبغي من قولي هذا إلاّ وجه الحق ومصلحة الجميع.

 

عن موقع ذاكرة الفكر

       عبد القادر الشاوي

آفاق (الرباط) عدد 4/3، 1992، ص 147 إلى 190