Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

البلاغ تحاور الدكتور عبد الوهاب المسيري حول :
متطلبات العمل الاسلامي المعاصر
 
بحث مخصص

 

حاوره في الرباط: جواد الشقوري

يقف
الدكتور عبد الوهاب المسيري الآن في مقدمة المفكرين العرب والمسلمين الذين يعملون على إنجاز مشروعهم الثقافي والفكري.. والمتتبع لكتابات المسيري المختلفة يجد أن هذا المشروع متميز، ويعبر عن اتجاه جديد في الفكر العربي والإسلامي المعاصرين.
وما يميز أطروحات المسيري، هو زعزعتها للمعتاد من الأفكار، والتزامها منهجا جديدا في مقاربة مختلف الإشكالات التي تؤرق الفكر العربي والإسلامي، يضاف إلى هذا الاستقلال الذي يتميز به جهازه المفاهيمي، والجدة الذي تطبع معجمه المصطلحاتي.
ولا شك أن العمل الإسلامي أثناء نقده للنموذج الغربي، كان يعتمد بدرجة كبيرة على ما يكتبه أطر هذه المدرسة أو تلك؛ وهي كتابات في معظمها لم تستطع نقد هذا النموذج من الداخل وبشكل عميق..وقد احتاج الأمر إلى انتقال مجموعة من الفعاليات الفكرية إلى أرضية الإسلام كي تستثمر تجربتها الطويلة مع المرجعيات الغربية بشقيها الاشتراكي والرأسمالي، من أجل توظيفها في عملية تطوير الخطاب الإسلامي.
وانتقال المسيري من المرجعية المادية إلى المرجعية الإسلامية، قد منح الخطاب الإسلامي المعاصر أدوات ومناهج جديدة في نقد النموذج الغربي..ويمكن اعتبار المسيري مكسبا من مكاسب العمل الإسلامي بشكل عام؛ لأن نقد المفكر الموسوعي يتميز بالعمق والدقة، فهو صادر من رجل اختبر أبرز الأرضيات الفكرية قبل أن ينتقل إلى أرضية الإسلام.
والمسيري، في هذا الصدد، يرفض أن يصنف كمتخصص في الدراسات الصهيونية، لأن المشكلة في العالم العربي، كما يصرح بذلك، أن التصنيف لا يتم حسب المنهج والاتجاه الفكري، وإنما حسب الموضوع الذي يكتب فيه..
والحديث مع المسيري متشعب وواسع لا يروي ظمأ الباحث، ويحتاج إلى حوارات طويلة جدا؛ من هذا المنطلق آثرنا في هذا الحوار ألا نسأل الدكتور المسيري أسئلة حول اليهود واليهودية والصهيونية، كما هي عادة الكثيرين، وإنما أردنا من خلال هذا اللقاء أن نستثمر فكر المسيري في تسديد مسار العمل الإسلامي المعاصر؛ ففي رأينا فإن هذا العمل لم يستفد، بما في الكفاية وبشكل مدروس، من هذا المفكر الذي يملك قدرة كبيرة في توصيف الواقع وفهمه، وفي اقتراح المداخل التي من خلالها قد نتعامل بإيجابية مع مختلف الأسئلة التي يحبل بها الواقع المعاصر.
التقينا بالدكتور المسيري، أثناء زيارته للمغرب، فجاء هذا الحوار.


* بداية، دكتور عبد الوهاب المسيري، ما هي في رأيكم أهم التحديات التي ينبغي أن يتصدى لها العمل الإسلامي المعاصر؟
** لا بد من أن ننطلق من مقولة بديهية وبسيطة، وهي أن التحدي الأكبر الآن يأتي من الحداثة الغربية الداروينية.. وإن فهم كنه هذه الحداثة مسألة أساسية في التعرف على أولوياتنا.
فهذه الحداثة لها جاذبية شديدة، مثل الخطاب الفلسفي المادي، وهو خطاب مريح لأنه يتوجه لمسائل مباشرة: الحواس الخمس، الرغبات الجسدية...والإنسان يتميز بهذا الجانب.
وكما أقول مازحا، إن الفلسفة المادية تتعامل مع الإنسان من خلال قانون الجاذبية، ومن السهل على الإنسان أن يسقط في الوحل على أن يصعد إلى النجوم أو حتى يتطلع إليها.
فالسقوط في الوحل أسهل شئ، لأن قانون الجاذبية يساعد على ذلك..والفلسفة المادية تبسط الأمور فكريا وإجرائيا، وبالتالي لها جاذبية خاصة؛ تماما مثل الوثنيات القديمة حيث نجد أن لها عبادات سهلة، لأنك تجد إلهك أمامك تعبده، وتطلب منه طلبات مباشرة..وإن لم يعجبك أكلته كما فعل سيدنا عمر في الجاهلية، حيث كان يعبد إلها من ثمر فجاع يوما فأكله..
والآلهة الوثنية مثل الفلسفة المادية، هي آلهة لطيفة تتعامل مع قانون الجاذبية المباشر والقوانين الحسية، والحداثة الغربية ورثت هذا ومن هنا جاذبيتها الكبرى.
لكن الحداثة لها ثمن إنساني مرتفع؛ وقد نجحت منظومة الحداثة الغربية في تقديم نفسها وإخفاء الثمن؛ حيث تقدم أفلام هوليود، والأفلام الإباحية..وبلا شك الإباحية تمتع الإنسان على مستوى من المستويات، لكنها في المقابل تفتت الأسرة والمجتمع، وفي النهاية يبدأ الجميع في إعادة حساباته!
وبالتالي أرى أنه من أولى الأولويات أن نفتح الملف المتعلق بثمن التقدم؛ وهو ملف لم يفتح إلى حد الآن، نعم فتح بشكل عشوائي، ولكن لا بد من مراكمة ثمن التقدم، ثمن تفكك الأسرة، ثمن التلوث البيئي، ثمن التلوث الأخلاقي، ثمن تسارع إيقاع الحياة سواء في ارتفاع الضغط أو تزايد السرطان أو اللجوء إلى الحبوب المهدئة.
ولا بد أن يكون الثمن الكيفي والكمي واضحا، وأن نعمل على تحويل الثمن الكيفي إلى ثمن كمي أيضا، وهي مسألة ليست صعبة...فتفكك الأسرة مثلا، يؤدي إلى عدم استقرار الأطفال، ويبدأ التخريب في المدارس، ثم تتزايد تكلفة التعليم وهكذا..بمعنى آخر بإمكاننا تحويل الكيف إلى كم، ليس بدقة، وإنما الأساس أن نقدم فاتورة التقدم للناس فيدركوا بسرعة ثمن الحداثة.
من جانب آخر، ينبغي أن يعرف الناس أن الحداثة الغربية مرتبطة تمام الارتباط بالإمبريالية؛ فالإنسان الغربي ما كان بمقدوره أن يحقق ما حققه من تقدم لولا النهب الاستعماري الذي استمر زهاء أربعة قرون.
ومن ناحية أخرى، لا بد أن نبين للناس - أيضا- أن المنظومة الحداثية مرتبطة بالاستهلاكية والتوجه نحو اللذة..وقد تمكن الإنسان الغربي أن يحقق معدلات عالية من الاستهلاك واللذة، ومرة أخرى عن طريق النهب الاستعماري.


* في هذا السياق، يعتقد البعض أن الغرب قد شغل مركزية غير عادية عند بعض المثقفين العرب، وذلك أثناء تحليلهم للواقع العربي والإسلامي .. وهو الأمر الذي دفع بعض المثقفين المنبهرين بالغرب، أن يطلق على هؤلاء عبارة "المثقفين المرضى بالغرب"..ما تعليقكم؟
** نحن لا نعلق كل شئ على الغرب، ولكن ما ينبغي معرفته هو أن الغرب حقيقة تاريخية كبرى في العصر الحديث.. وإن دراسة أي ظاهرة سواء في العالم الإسلامي أو العالم الثالث، دون أخذ الغرب بالاعتبار تعتبر مسألة مستحيلة.
وأضرب -دائما- مثلا من تجربة محمد علي في تحديث مصر، والتي كانت أولى تجارب التحديث في العالم الثالث، حيث أجهضها الغرب. وبالتالي أصبح من المستحيل التحديث دون مظلة عسكرية تحمي هذا التحديث.. لكن منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، ثبت أن التحديث تحت المظلة العسكرية لا ينفع؛ لأن هذه المظلة تتطلب حاكما يمسك بمقاليد الأمور في يده، إلا أن الدولة الحديثة مركبة، والغرب خلق لنا معادلة صعبة؛ لأنه إن بدأت في التحديث تدخل كما حدث في فلسطين والعراق وكما حدث في أماكن أخرى كثيرة.. لكن كي تقوم بالتحديث لا بد من انقلاب عسكري يحمي الدولة، فيتزايد نفوذ الدولة وتتحول إلى بيروقراطية تمسك بمقاليد الأمور وتوظف الدولة لصالحها، ولا تدرك أن الدولة الحديثة مركبة فتفشل عملية التحديث وينتشر الفساد..وهذه معادلة صعبة إلا أنها الآن في طريقها إلى الانفراج بعد أن أدرك الجميع أن فشل التحديث في العالم العربي مرده إلى عدم وجود الديمقراطية.
إذن فالغرب ليس مجرد شماعة نعلق عليها كل الأمور، وإنما حقيقة تاريخية بنيوية كبرى لا بد من أخذها بالاعتبار.


* ألا تعتقد دكتور عبد الوهاب المسيري أن السؤال المحوري الذي طرحه رواد النهضة الأوائل في عالمنا العربي، والذي عبر عنه الأمير شكيب أرسلان بصيغة: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم، لا يزال يفرض نفسه بإلحاح شديد على مفكري المرحلة الراهنة؟
** أعتقد أنه كان سؤالا خاطئا، لأن المطلوب أن يعرف التقدم قبل أن يقول لماذا تقدم الآخرون. أولا، لأن هذا التقدم- كما قلت- له ثمن، ثانيا، التقدم يكون دائما نحو شئ ما، وبالتالي ما هو هذا الشيء؟
فكل هذه الأمور تحتاج إلى توضيح، وكما أقول دائما، إنه بعد الستينيات، أصبحت منظومة التقدم الغربية بحاجة إلى إعادة تقييم..فبالتالي أصبح هذا السؤال غير ذي موضوع الآن.


* من جانب آخر، يلاحظ أن معظم الأسئلة التي اشتغل عليها- ويشتغل- الفكر العربي والإسلامي هي أسئلة يمطرنا بها الآخر، وفرضها التطور الطبيعي للمجتمع الغربي.. فهل هذه الظاهرة صحية، أم أنه من الأجدى للمفكر العربي والإسلامي تأسيس خريطة جديدة من الأسئلة تكون نابعة من دائرتنا الحضارية؟
** هذه الأسئلة تطرح علينا ولا نطرحها على أنفسنا؛ لأن منظومة الحداثة فرضت نفسها لأنها منظومة عالمية، وكانت منظومة ناجحة، فطرحت علينا الأسئلة وكانت المسألة حتمية.
لكن كما تفضلت، آن الأوان الآن كي نبدأ في كتابة الأجندة الفلسفية الخاصة بنا، وهي مختلفة عن الأجندة الفلسفية للغرب..وكما قلت، كل شئ تغير بعد الستينيات، بعد أن دخلت منظومة الحداثة الغربية مرحلة الأزمة.


* مما لا شك فيه أن المشروع الغربي حقق في القرن الماضي انتشارا كبيرا في العالم كله، وربما بسرعة قياسية، وقد كان من الممكن أن نقلص من الآثار السلبية لهذه الهيمنة الغربية لو تفطن حملة المشروع الإسلامي إلى طبيعة الرسالة الإسلامية التي تقتضي منهم الانخراط في العالم والعصر.
ما تفسيركم لسبب انسحاب المسلمين من العالم، وفشلهم في خلق عناصر واتجاهات قادرة على التأثير في توجه العالم و مسار الإنسانية؟

أما لماذا انسحب المسلمون من العالم، فأعتقد أنه إلى حدود الستينيات من القرن الماضي، كانت الحداثة الغربية ناجحة. وحينما طرح المشروع العربي الإسلامي في النهضة تلخص في عبارة اللحاق بالغرب! وهذه العبارة قتلت الإبداع؛ لأنه إذا كان المطلوب اللحاق بالغرب فمعنى ذلك أنك لا تبدع وإنما تقلد.. وأعتقد أن ما سمي بجيل النهضة كان جيلا مقلدا، حيث تحول التأليف إلى ترجمة، وأصبح الذي يجيد لغة أجنبية مؤلفا بغض النظر عن مقدرته الإبداعية..فنحن نترجم حين نترجم ونترجم حين نؤلف أيضا.
فأعمال طه حسين -مثلا- ذيلية للغرب، طبعا ابتداء من أواخر الأربعينيات بدأ يبتعد عن الغرب وبدأ يدرك أهمية التراث في عملية النهضة.. ونفس الشيء بالنسبة للآخرين، فالعقاد تعبير واضح عن عملية التراجع عن مسار الذيلية للغرب.
والحركات الإسلامية - بالمناسبة- ذيلية للغرب، تحاول اللحاق به مع جملة من التعديلات التجميلية هنا وهناك! وكما أقول مازحا - أيضا-، إن الحداثة بالنسبة للإسلاميين هي الحداثة الغربية بعد أن تكتب عليها "بسم الله الرحمن الرحيم".
وكأن المسألة بالنسبة لهؤلاء الإسلاميين هي فقط فصل بين الجنسين وحجاب المرأة ..وبعد ذلك لا مانع أن تدخل الحداثة الغربية بكل إمكانياتها.. غير مدركين أنها في نهاية الأمر حداثة منفصلة عن القيمة، وأنها نجحت في الغرب، أولا بسبب هذا الانفصال، وثانيا بسبب إخفائها لثمن التقدم عن الجميع.
من جانب آخر ، لم يكن من الممكن كتابة تاريخ الحداثة الغربية إلا بعد الستينيات؛ ففي تاريخ الحداثة العلمانية الغربية حدث ما يلي: تمت علمنة نقط الحياة العامة لكن ظلت الحياة الخاصة منضبطة بتقاليد الحياة المسيحية؛ حيث كانت الحياة الأسرية متماسكة، ولم تكن ظاهرة الطلاق معروفة إلا بنسب ضئيلة لا تختلف عن النسب في بلادنا، لم يكن انتشار المخدرات أمرا معروفا، الحمل السفاح لم يكن معروفا..
بعد الستينيات بدأت كثير من مشاكل الحداثة الغربية تظهر، وهذا الأمر بدوره نتجت عنه أشياء كثيرة من ضمنها أنه لا بد من كتابة هذه الحداثة الآن.
ثم من ناحية أخرى، يوجد في عالمنا العربي والإسلامي جيل في سنك، بدأ يدرك أن هناك أزمة..أما في جيلي أنا لم يكن هناك هذا الإدراك، وإدراك أن الحداثة الغربية في أزمة يعني أنها لا يمكن أن تقدم لنا حلولا.. وأعتقد أن من أسباب تزايد الإبداع بين الشباب، هو بحثهم عن الحل، أما الذين هم في سني فالأمر جد مختلف؛ فأنا حينما تخرجت من الجامعة عام 1959 كانت المسألة واضحة؛ فإما أن تكون رأسماليا أو اشتراكيا، لكنها في النهاية حداثة غربية..أو إن كنت مبدعا فما عليك إلا أن تخلط هذا بذاك وتأتي بصيغة ثالثة، وفي كل الأحوال كانت المرجعية الصامتة بالنسبة للجميع هي -دائما- الغرب.
أما الآن فتبحث عن المرجعية الاشتراكية فلا تجدها، تبحث عن المرجعية الرأسمالية تجد أنها شرسة، متأزمة، مختنقة، وفي حالة احتقان..وهكذا..وفي هذه الحالة تكون مضطرا للتفكير.
وليس من قبيل الصدفة، أن كثيرين مثلي- نحن الذين كنا ماركسيين وعلمانيين - عندما بدأت رحلة عودتنا إلى الإسلام في أواخر الستينيات، وهي فترة احتقان الحداثة الغربية، أنا وعادل حسين وطارق البشري..وبالمناسبة، رحلة عودة روجي غارودي إلى الإسلام بدأت - أيضا- في هذا التاريخ..
وفي الواقع لما أقارن تواريخ عودتنا نجد أنها متقاربة، رغم أن غارودي أكبر مني سنا؛ فهو يكبرني- أظن- بعشرين عاما.
فالعودة إلى الإسلام هي ظاهرة عالمية، ومن أبرز تجلياتها في العالم الإسلامي أننا بدأنا ندرك ضرورة وأهمية الإبداع، وأيضا ضرورة تحديد الأولويات.


* كثر في السنوات الأخيرة الحديث حول حوار الحضارات والانفتاح على الآخر..إلا أن من الملاحظ، في هذا الصدد، أن المقصود بالحضارات هنا الحضارة الغربية تحديدا، وأن المراد بالآخر الغرب أساسا.. ألا يمكن أن يؤدي تركيزنا على الغرب في عملية الانفتاح إلى حرماننا من التقارب مع ثقافات وحضارات أخرى قد تكون أقرب إلى دائرتنا الحضارية من الغرب.. ونذكر هنا على سبيل المثال، بعض الحضارات الأسيوية التي لم يعرف تاريخها معنا صراعات حادة كما هو الشأن مع الاستعمار الغربي، أضف إلى هذا أنها ثقافات ذات نزوع روحي في معظمها؟
** الانفتاح في خطابنا المعاصر عرف على أنه انفتاح على الغرب، بينما الانفتاح الحقيقي هو انفتاح على العالم..فنحن- مثلا- نعرف تاريخ إنجلترا وفرنسا، والاشتراكيون يعرفون تاريخ روسيا الاشتراكية، وليس تاريخ روسيا ككل!
لكن في المقابل، لا تعرف الكثير عن تشكيلات حضارية مختلفة داخل الغرب، مثلا في بولندا وإسبانيا، وعدد الذين يعرفون تاريخ اليابان يعدون على الأصابع، وقد لا نجد من يعرف تاريخ الإمبراطوريات الإفريقية.. وهذا يعني أن الغرب يتحول في هذه الحالة إلى إشكالية وحيدة وكبرى، وبالتالي نكون أمام خيارين، إما أن نقبله وإما أن نرفضه!
إنما إن اكتشفنا أن الغرب نسبي وليس مطلقا، فستكون علاقتنا به مستريحة؛ يمكن أن نأخذ منه ما نريد ونرفض ما نريد..وليست المسألة كما قال بعضهم أن نأخذه بحلوه ومره، لأننا في هذه الحالة سنكون كالبلهاء!


* إذا كانت مختلف مدارس العمل الإسلامي المعاصر منقسمة حول طبيعة الغرب الدينية، هل هو ديني أم لا ديني، هذا من جهة..ومن جهة ثانية إذا كانت الحداثة الغربية تشكل أهم التحديات التي تواجه العرب والمسلمين، بل والإنسانية بوجه عام، ألا يمكن، في هذا الصدد، أن نعتبر أن الاختلاف حول طبيعة الغرب الدينية قد يجعل العمل الإسلامي يفشل في مواجهة والتصدي لهذه الحداثة؟
** على حملة الخطاب الإسلامي المعاصر أن يدركوا أن الغرب ليسا غربا مسيحيا، وإنما هو غرب وثني وعلماني..وهذه مسألة أساسية، ولا يزال الخطاب الإسلامي يدور في إطار أن الغرب نصراني.
وفي اعتقادي فإن الحداثة شئ جديد تماما في تاريخ البشرية؛ فمن قبل كانت دائما أي منظومة عقدية، حتى لو كانت كفرا، تدور حول مطلق ما، فيكون المطلق إما صنما، أو إلها، أو شمسا..أما الحداثة الغربية فلا يوجد فيها مطلق، حيث تنادي أن كل الأمور نسبية، وفي هذه الحالة تكون المنظومة الداروينية هي المهيمنة، وتصبح هي الميتافيزيقا والأخلاق الوحيدة التي تحسم الصراع..لأن مسألة الصراع والتدافع جزء من الطبيعة البشرية.
فيجب أن يفهم فقهاؤنا طبيعة هذه الحداثة الغربية، ويدركوا أنها ليس فيها مطلق، أنها نسبية، وأنها في نهاية الأمر تفتت الإنسان وتحوله إلى مادة استعمالية.
وحينما أحاول أن أشرح هذه المنظومة لبعض الفقهاء، أقول لهم إننا عندنا في الإسلام أنه إذا اجتمع رجل وامرأة كان الشيطان ثالثهما، لكن مشكلة الحداثة الغربية أنه إذا اجتمع رجل وامرأة فإن الشيطان لا يحضر، حيث تتحول المسألة إلى إجراءات.
وأعتقد أن حضور الشيطان مسألة مهمة؛ لأن الشيطان يستدعي إلها، فإن جاء الشيطان فهذا يعني أن هناك إلها، بمعنى آخر أن هناك تمييزا بين الخير والشر، وغياب الشيطان يشير إلى عدم وجود تمييز بين الخير والشر، حيث تصبح كل الأمور متساوية وعبارة عن إجراءات، ومن ثم يفقد الإنسان كل شئ على الإطلاق. وهذه خطورة الحداثة الغربية فهي جذابة ومحايدة، لكن في جاذبيتها وحيادها تهدم كل ما هو إنساني.


* إذا كانت الحداثة الغربية جديدة، وإذا كان الغرب لا دين له، ألا يمكن أن نولد من النص القرآني نماذج تحليلية تساعدنا على فهم الحضارة الغربية المعاصرة.
فعلى سبيل المثال نسعى إلى فهم الحضارة الغربية المعاصرة انطلاقا من نماذج فرعون وقارون..ونماذج الأخرى التي ذكرت في القرآن الكريم، وليس انطلاقا- مثلا- من النماذج التي تشير إلى أهل الكتاب..ومن خلال هذا التحليل نقول بأن الفكر الغربي ليس شيئا جديدا على البشرية وإنما هو تعبير عن نماذج ذكرت في القرآن الكريم وردت في سياق الحديث عن مآلات الاستناد إلى مرجعية الشرك.

** أنا قمت بمحاولة شبيهة في محاولة التعامل مع لفظ يهودي كما جاء في القرآن، لأن هناك إشكالية تتمثل فيما يلي، هل لفظ يهودي كما جاء في القرآن يشير إلى يهود المدينة وحسب، أم إلى يهود العالم في ذلك الوقت، أم إلى يهود العالم في الماضي والحاضر والمستقبل؟
ثم هناك سؤال آخر، هل أنا ملزم بالتعريف اليهودي لليهودي، أم بالتعريف الإسلامي لليهودي؟
فهذا السؤال خطابي؛ لأنني لست مسؤولا عن التعريف اليهودي، بل أنا ملزم بالتعريف الإسلامي.
التعريف الإسلامي يقول: اليهودي من أهل الكتاب، يؤمن بالتوراة واليوم الآخر..


* معنى هذا الكلام أن اليهود الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه لا وجود لهم أصلا في الواقع المعاصر!
** أنا أقول أن 95 في المائة من يهود العالم لا ينطبق عليهم التعريف الإسلامي، ومن ثم اقترحت ما يلي: إن لفظ يهودي مثل لفظ "فرعون"..فلفظ "فرعون" لا يعني حاكم مصر، وإنما يشير إلى نموذج معين.. ونفس الشيء بالنسبة للفظ يهودي، حيث إن قمنا بتجريد الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها اليهود، سنجرد النموذج اليهودي، وسينطبق على كل من يتسم بهذه الصفات سواء كان يهوديا أم مسيحيا أم مسلما أم بوذيا، بمعنى سيتحول هذا اللفظ إلى نموذج تحليلي نتعامل معه من خلال الواقع.. وكأن الناس عندهم إحساس فطري بهذا الأمر؛ فحينما يبدأ أحد في الخيانة والغش..يقولون إنه يهودي أو أمه يهودية وهكذا..بمعنى أنهم يحاولون أن يطبقوا عليه هذه الصفات حتى لو كان مسلما.
وأعتقد أن هذا حل لهذه الإشكالية..وقد عرضت هذا الأمر على بعض الفقهاء فوافقوني عليه. لكني أطرحه كاجتهاد أولي من مفكر لم يدرس المنظومة الفقهية وقواعد الفقه بما فيه الكفاية..لكنه مجرد اجتهاد أولي أو تساؤل يطرح، وعلى من هم أكثر مني علما أن يأخذوه ويختبروه، ويقوموا بتعديله وتوثيقه.


* في السياق نفسه، يتعامل الكثير من المفكرين الإسلاميين وغير الإسلاميين مع الفكر الغربي وكأنه فكر جديد في تاريخ الإنسانية.
فيقال مثلا إن من ثوابت الحضارة الغربية المعاصرة العنف والهيمنة والإخضاع، وكأنها ثوابت خاصة بهذه الحضارة، إلا أن الصواب- في اعتقادي- أن نقول إنها ثوابت ملازمة لنموذج الشرك، وهي ثوابت قد نص عليها النص القرآني أثناء الحديث عن النماذج التي عبرت عن نموذج الشرك في تاريخ البشرية..والسؤال المحوري هنا، ألا يمكن أن يكون استدعاء الخطاب القرآني مدخلا أساسيا في تأسيس رؤية لفهم ومواجهة المشروع الغربي الشركي/الوثني؟
** أنا عندي محاولات مبدئية، فحينما نترجم- مثلا- عبارة نيتشه "موت الله"، والتي أقول إنها تؤدي إلى "موت الإنسان"، أجد أنها تترجم بطريقة أكثر دقة حينما يأتي في القرآن ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم).
بمعنى أن الظاهرة الإنسانية مرتبطة بالله، وإنك إن نسيت الله - أو قتلت الله كما يقولون- تقتل الإنسان والطبيعة..لأن الإنسان، في نهاية الأمر، إنسان بمقدار ما يحوي داخله من مقدرات غير طبيعية وغير مادية؛ هذه المقدرات غير الطبيعية وغير المادية، لا بد وأن يكون مصدرها غير طبيعي وغير مادي، أي مصدرها الله سبحانه وتعالى..فالقضاء على الله هو قضاء على الإنسان.
والعلمانية الشاملة- مثلا- إنما هي الحياة الدنيا، أي أن يعيش الإنسان داخل الزمان، وسقف هو الزمان.
وأعتقد أن تجربتكم مهمة، وأرجو أن تكتمل، لأنه بهذه الطريقة يتحول الخطاب الفلسفي المعرفي إلى -أيضا- خطاب ديني بإمكانه أن يحرك الجماهير ويجعلها تدرك طبيعة الخطر المحدق بها.


* بعض المسلمين قد ييذلون جهدا كبيرا في مواجهة ما يمكن تسميته بالاختراق الأخلاقي الذي يأتينا من الغرب، مع إغفال كبير لما يمكن تسميته بالاختراق المعرفي. فعلى سبيل المثال، عادة ما يحدد الموقف من التلفزيون بناء على ما يبث فيه من صور خليعة (الجانب الأخلاقي)، في المقابل قد يتساهل مع برامج قد لا يظن للوهلة الأولى أنها تحمل قيما تتنافى والمنظومة المعرفية الإسلامية، كالرسوم المتحركة التي تكرس فلسفة الصراع..
وأذكر في هذا الصدد- أيضا- المثال الذي ذكرتموه في بعض كتاباتكم عن الفتاة المتدينة التي سألتها زوجتكم عن الرجل الذي تطمح بالزواج منه، فأجابتها بأنه شخص يمتلك سيارة BMW، فهذا نوع من الاختراق الذي لا يدرك مباشرة.

** طبعا فيه اختراق، لأن منظومة الحداثة جديدة تماما على تاريخ البشر، وبالتالي تفضلت أنت وذكرت عدة أمثلة عن الاختراق الكامل.
فالناس- مثلا- ينظرون إلى " توم وجيري" من منظور أنه حلال أو حرام بالمعنى السطحي..فيقولون أنه حلال مادام لا يوجد فيه تقبيل ولا إباحية بالمعنى المباشر.
ولكن هناك إباحية- أخرى- معرفية تعري الإنسان من كل أخلاقياته، و"توم جيري" يفعلان ذلك، إنهم يعريان الإنسان من أي قيم، وهكذا..فهناك اختراق وأعتقد- كما تفضلت- أن البعد المعرفي يمكن أن يكشف لنا هذا الأمر إن ركزنا عليه.


* نشهد في كثير من بلدان العالم العربي بروز اتجاهات تنادي بالعودة إلى أصولها العرقية أو اللغوية التي كانت قبل مجيء الإسلام إلى تلك البلاد، وقد تتحول هذه المطالب إلى دخول تلك البلاد حالة من الفوضى تقود في النهاية إلى تفتيت المجتمع. في رأيكم ما منبع مثل هذه المشاكل؟
** أعتقد أن المفهوم الغربي المتعلق بالوحدة والدولة هو المسؤول عن هذه المشاكل، وهي وحدة عضوية، ودولة مركزية..وأنا أطالب بما أسميه الوحدة الفضفاضة..حيث لا تتطلب الدولة الولاء المطلق من أعضاء الأقليات أو أعضاء الأغلبية.
في الوحدة الفضفاضة هناك مجال واسع لكل إنسان كي يعبر عن هويته، طالما أن هذا التعبير لا يفت في عضد سيادة هذه الدولة..فالنظام التعليمي- مثلا- ينبغي أن يقبل بالتعددية والتنوع طالما أنهما يدوران في إطار الوحدة.
فالمغرب - على سبيل المثال- بلد عربي إسلامي، يتسع لأقليات أخرى، سواء أمازيغية أو حتى مسيحية.
وأعتقد- أيضا- أن نموذج مصر جيد، حيث نجد أن أقباط مصر لهم عقيدتهم وهويتهم، لكن هم جزء من المجتمع المصري.


* لكن قد يقال في هذا الصدد أن النسبة الغالبة والكبيرة من المجتمع المغربي- على سبيل المثال- أمازيغ وليست عربا!
** العروبة ليست عرقا، وإنما ثقافة..ومن يتحدث العربية فهو عربي حتى لو كان من أصل أمازيغي، ومن يتحدث العربية وهو داخل الإطار الحضاري فهو عربي.


* ألا يمكن أن يعتبر هذا التحليل، في نهاية الأمر، بمثابة نوع من المركزية العربية..في الوقت الذي ننتقد فيه المركزية الغربية بكل تمظهراتها؟
** يمكن أن نقول عربي أمازيغي، ولا بد أن نعرف الهوية- أيضا- بطريقة فضفاضة..بمعنى، أنا مسلم وعربي ومصري ودمنهوري.
والجانب الدمنهوري في يظهر وأنا في مصر، والجانب العربي في يظهر وأنا في أمريكا-مثلا-، والجانب الإسلامي يظهر وأنا في الباكستان..وهكذا.
فلو أنتم تتحدثون عن المغرب أنا أتحدث عن مصر، ولكننا جميعا يمكن أن نتحدث عن العالم العربي، و الإخوة الأمازيغ سيتكلمون عن العالم الإسلامي.
أتذكر جيدا أنه في الستينيات كانوا يسألونني، هل أنت عربي أم مسلم؟ وكان هذا السؤال يحيرني، لأنه من الممكن أن أكون عربيا ومسلما في آن واحد..لكن الذي حدث في الغرب أنه في إطار المنظومة العلمانية وفكرة الدولة القومية، وقع نوع من التماثل بين الحدود اللغوية والدينية والديمغرافية مع الحدود الجغرافية..وبالتالي تم القضاء على جميع الأقليات.
فالثورة الفرنسية قضت على كل الأقليات, واختفت مجموعة من اللهجات، كلهجة "الإستانية"، و"البريتون" يختفون الآن.. وهذه صفة في أوربا منذ القديم، فعلى سبيل المثال حينما كان الأتراك يستولون على آسيا الصغرى، كان الأسبان الكاثوليك يستولون على ابريا الصغرى..وبالمقارنة نجد أن ابريا الصغرى لا يوجد فيها غير المسيحيين الكاثوليك، بينما آسيا الصغرى فيها عشرات الأقليات الإثنية والدينية.
بمعنى أن هناك حاجة في الإسلام تجعله يقبل التعددية في مختلف مستوياتها، الدينية( سنة، شيعة) واللغوية والإثنية.. فيجب أن نقبل بهذا التعريف الفضفاض للهوية.
وأعتقد أن هذا هو الحل المثالي، ليس للمغرب والعالم العربي وإنما للعالم الثالث أيضا..لأن العالم الثالث عامر بالأقليات.
وهذه بالمناسبة، إحدى مشاكل استيراد النموذج الغربي..فهذا النموذج يصر على دولة مركزية لها رموز قومية، على الجميع أن يشاركوا فيها، إلا أنه من الممكن أن تكون هناك دولة قومية ذات رموز متنوعة، بعضها أساسي وبعضها فرعي، وأن الإنسان ستكون عنده ولاءات متعددة..الأمازيغي- مثلا- يكون عنده ولاء للمغرب وللإسلام، وليس عنده عداء للعروبة...


* وما ذا عن الدعوات التي تنادي بالعودة إلى الفرعونية والأمازيغية..وإلى الاتجاهات الأخرى السابقة عن ظهور الإسلام؟
** هذا جزء من المخطط الصهيوني، وجزء من محاولة التطبيع المعرفي..لأنه لو عدنا إلى ما قبل الإسلام، سيكون هناك وطن فرعوني ووطن آشوري ووطن بابلي، وبالتالي يمكن أن يكون هناك وطن عبري.. أما حتى الآن فيتسم هذا الوطن بالشذوذ، لأن هناك وطنا عربيا وبداخله هذه الخلية السرطانية.


* ما هي في تقديركم، المفكر المسيري، أهم المواصفات، التي ينبغي أن تتوفر في العناصر المسلمة التي بإمكانها أن تحقق قفزات نوعية بالمشروع الإسلامي؟
** لعل من أبرز المواصفات التي ينبغي توفرها في الجيل الجديد، المقدرة على الحوار مع الذات ومع الآخر، على أن يكون البعد المعرفي قائما وموجودا وبشكل راسخ.
ولعل هذا من أسباب انجذابي نحو المغرب، حيث نجد أن البعد المعرفي واضح جدا في الخطاب التحليلي المغربي.
وقد حاولت أن أفسر ذلك، فوجدت أن وجود المغرب على مقربة من الغرب، جعله مدركا لأهمية الهوية ولما يتهددها، وهذا ينطبق على القطاعات من الشعوب التي تعيش في الأطراف، بينما الذين يعيشون في الوسط، مثل مصر والسودان، فلا توجد عندهم مشكلة الهوية لأنهم غير مدركين للأخطار.


* ما موقع القراءة ضمن مواصفات الجيل الجديد، خاصة ونحن نلاحظ على المستوى العالمي تراجعا في نسب القراءة والإقبال على الكتاب، في الوقت الذي نشهد فيه هيمنة لثقافة الصورة؟
** الصورة في الحضارة الغربية شغلت مركزية غير عادية، والصورة لا تدعو للتفكير والتأمل، إنما تدعو للتلقي. بينما القراءة فيها جانب انعتاقي؛ لأن الكتاب يمكن أن تغلقه متى تشاء، وأن تتوقف لتتأمل فيما تقرأ..أما الصورة التي تظهر- مثلا- على التلفزيون، فعليك أن تتقبلها بسرعة، والآخرون هم الذين يحددون لك الإيقاع، وبالتالي أعتقد أن الحفاظ على القراءة مسألة أساسية.