Arabic symbol

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

 مفارقات الخطاب الإسلامي المعاصر (2 من 2)
لا يمكن للمسلمين استعادة دورهم الحضاري دون التخلص من تحريف العلماء للقرآن. وإفساد الأمراء لمؤسساته
لو طبق المسلمون قاعدة الاستعداد الرادع القرآنية لما اضطروا لتحويل الجهاد الي هذا السلوك البدائي الانتحار
 
بحث مخصص

 

أبو يعرب المرزوقي

القدس العربي - لندن

25 مايو 2005 

قبل هجرتي الطوعية إلي جنوب شرقي آسيا كنت لا أنظر إلي الأوضاع الاسلامية إلا من منطلق الوضعية العربية. لذلك فإن التشخيص قد مر عندي بمرحلتين لعل من المفيد عرضهما عرضا سريعا. فقد كنت اعتبر أوضاع المسلمين بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة منذ ما يسمي بالاستقلالات العربية يحددها بالأساس الاستقطاب الدولي الذي قسم الأمة إلي صفين احدهما اصطف مع امريكا وكان شعاره الاسلام والليبرالية والثاني مع الاتحاد السوفييتي وكان شعاره القومية والاشتراكية.
وفي هذا الاصطفاف كان كل منهما مخربا لفعل الآخر برعاية حركة سياسية معارضة جعلت الاسلاميين في حرب علي القوميين في البلاد العربية التي تحكمها أنظمة بشعارات قومية واشتراكية بزعامة مصر خاصة وبحماية سوفييتية وجعلت القوميين في حرب علي الاسلاميين في البلاد التي تحكمها أنظمة بشعارات اسلامية بزعامة السعودية خاصة وبحماية أمريكية.



لنبدأ في عجالة بالحد الأقصي كميا والأدني كيفيا حتي نفرغ لمقصود الاسئلة اعني الحد الأدني كميا والاقصي كيفيا أو الخطاب الاسلامي الصادر عن الحركات الاسلامية. فمم يتألف هذا الخطاب؟ أليس هو خطاب مؤلف من فكرتين رئيسيتين مستحيلتي التحقيق ودالتين علي الجهل بشروط العمل الحقيقي في التغيير الثقافي الحضاري والاقتصادي السياسي:
1- الفكرة الاولي يمكن عنونتها بالتنمية البشرية: يتضمن الجمع بين مطالب الديموقراطية الشعبية التي كان عليها فكر اليسار والقوميين بمطالب الديموقراطية البرجوازية التي صار عليها. واذن أليس هو فكرا أدواته مناقضة لغاياته إذ هو ينسي أن ما حققته الديموقراطية البرجوازية مما يسمونه التنمية البشرية في تقاريرهم الثلاثة التي صارت وسيلة أمريكا الأساسية للكذب علي الشعوب العربية لا يمكن أن يتحقق من دون تضحيات قدمها الغرب خلال قرون الثورات العلمية الصناعية والسياسية الاجتماعية والثقافية التربوية وكررته آسيا غير الاسلامية بنفس التضحيات التي يتصور مفكرونا المتعجلون التنمية البشرية قابلة للتحقيق من دونها بل يعكسون فيتصورونها شرطا فيها.
2- والفكرة الثانية يمكن عنونتها بالثورة الثقافية: وتتضمن الجمع بين ما قبل الاسلام من حضارات الشرق العربي (مثل الفرعونية والبابلية الفنيقية والقرطاجنية والسبأية إلخ من الخرافات السخيفة) وما يتصورونه فعلا إن ليس قولا وتضمينا إن ليس تصريحا تاليا للاسلام من الحضارات الغربية ظنا أن دوره قد انتهي. ولا أحد منهم أدرك أن المحافظة علي ما كان حيا في ما تقدم علي الإسلام هو أولا من أهم أركان الثورة المحمدية احياء لما قتله التحريف من تجارب بشرية كادت تحصر الاديان والنبوات في بني اسرائيل فاعاد القرآن البشرية بخصوصها إلي الحقيقة التاريخية مذكرا بعموم الرسالات لكل شعوب العالم. كما أنهم لا يدرون ثانيا أن من أهم أركان الثورة المحمدية هي التحرر من كل ما يحول دون الاستئناف الدائم للحضارة حتي إن أهم نقد يوجهه للشعوب هو الاحتجاج بـ هذا ما وجدنا عليه آباءنا .
فما يدعون إليه من ثورة ثقافية ليس إلا محاولة لقتل الثورة الثقافية الحقيقية التي هي ثورة الاسلام لتبرير تقليدهم الذليل للغرب بالعودة السخيفة للشرق أو لنكن صرحاء ليماشي ذلك أمنية دفينة في نفوس مسيحيي الشرق سواء كانوا من العرب الأصليين أو ممن استعرب من بقايا الصليبيين المتحالفين مع الغالي من فرق الاسلام (متوسلين النعرات القومية التي فتتت الامة الإسلامية) أمنية محو الاسلام من ذاكرة الشرق حتي يعود إليهم لكأنه قوسان فتحتا ويجب غلقهما إلي الابد: إذ ليس من الصدفة أن يصدق ذلك علي جل زعماء الفكر العلماني والقومي المغالي في هذا الاتجاه. وخاصة من كان من المؤسسين المزعومين ! وهذا أيضا تقليد سخيف لأن ما حاوله الغرب في نهضته هو ادعاء تجاوز الدور الاسلامي والعودة إلي ما تقدم عليه عند اليونان في بلاد اليونان وفي ما صار مستعمرات لها من الشرق العربي حتي يتخلص من دور الاسلام في تاريخه الوسيط دوره الذي لا يمحي: فكل فكر الغرب بعد القرون الوسطي بما في ذلك الاصلاح المسيحي لا يمكن أن يفهم إذا جردناه من هذا الدور وآثاره.
فتكون ثورتهم ليست مقصورة علي تقليد الغرب من حيث علاقته بذاته فحسب بل هي تذهب إلي تقليده في محاولته محو ذاتنا من تاريخه مرتين باسطورة العبقرية اليونانية للتخلص مما تقدم علي الحضارة اليونانية وبأسطورة العبقرية الاوروبية للتخلص مما توسط بينهم وبين الحضارة اليونانية كما يتبين من محاولات مؤرخي الغرب وفلاسفة التاريخ محاولاتهم التي يغلب عليها كبت هذا التأثير للتحرر من سلطان التراث الشرقي عامة والشرقي العربي الاسلامي، خاصة كما بينا في الكثير من بحوثنا لكأن اليهودية والمسيحية من الغرب. وحتي اليونان فدعوي انتسابهم إلي الغرب الحالي من الاساطير: فلا هم كذلك جغرافيا و لاهم كذلك حضاريا بدليل أن أكبر فلاسفة اليونان كان يعرف اليونان في كتاب السياسة بالمقابلة بين ذكاء الصيني الجبان وغباء الاوروبي المتهور!

تقويم التاريخ لبيان الحق

وإذن فليس تقويمنا التاريخ بهدف بيان فضل المسلمين بل لإحقاق الحق فتكون الحقيقة التاريخية حقيقة سوية وليست مجرد دعاية لتثبيت الذات الغربية: فلا يعقل أن يؤرخ المرء للبشرية ويهمل من تاريخها ثمانية قرون علي الاقل كانت فيها الريادة الفكرية والحضارية في الرقعة التي يؤرخون لها بيد المسلمين. لذلك كان الدين الوحيد الذي يعترف بكل الاديان المتقدمة عليه بالزمان حتي إنه اشترط في اسلام المسلم أن يؤمن بكل الرسالات والنبوات لانه لا يمكن أن يكون الدين صحيحا إذا اعتمد علي نفي التاريخ الحقيقي لتجــــربة البشرية الدينية السابقة.
ولنعد الآن إلي موضوعنا المقصود بالذات. فنأخذ القسم الذي يعنينا أي الحد الأدني من خطاب المسلمين: خطاب الاسلاميين منهم. ولندرسه في مذهبيه. فكلاهما مذهب متعدد التقازيح لكنه قابل للرد إلي حدين متقابلين تماما كما كان الشأن دائما في الفكر الاسلامي منذ بداية الحرب الاهلية الاسلامية أو ما يسمي بالفتنة الكبري: المذهب السني بغالبيته إلي أن صيغت نسقيا في المذهب الاشعري والماتريدي وما شابههما وأقليته إلي أن صيغت في المذهب الظاهري والحنبلي وما شابههما ثم المذهب الشيعي بغالبيته إلي أن صيغت في المذهب الاثني عشري وما شابهه وأقليته إلي أن صيغت في المذهب الباطني وما شابهه.
ولما كان حزب الأغلبية في الحركة الشيعية المعاصرة قد وصل إلي تحقيق دولته بعد ما يسمي بثورة الخميني التي استغلت منطق أقليتها ومنطق ما يماثلها في العلمانية الايرانية (أي الحركة الشيوعية والعلمانية الفرنسية) فإنه قد تخلص منهما بعد ذلك بأن قضي علي ثانيتهما ووظف أولاهما في خارج العالم الشيعي لمد سلطان الثورة فحصل الصلح بين البعدين. ولما كان حزب أغلبية الحركة السنية المعاصرة (الاخوان) لم يحقق بعد دولته رغم محاولة استغلال منطق أقليته فإنه ظل في الفعل التاريخي تابعا لاقليته المغالية أي للشكل الحنبلي من الظاهرية أو الحركة السلفية (لأسباب ظرفية أهمها أن المال يوجد مع اؤلئك وهؤلاء أصبحوا موظفين عندهم).
فيرجع خطاب الاسلاميين المؤثر حاليا إلي الفكر العقيم الذي يمثله رجلان هما الخميني وابن لادن. فما هو مضمون هذا الخطاب؟ وهل يمكن أن يحرر المسلمين بحيث يؤدون دورا تاريخيا مناسبا لمقتضيات العصر ومحققا لقيم الاسلام الحقيقية التي هي أكثر ثورية من كل ثورات العالم لو كان المسلمون يعلمون ؟ ويمكنني أن ازعم أن نسبة ما يفهمه العرب والمسلمون اليوم من الإسلام إلي ما فيه من قيم ثورية للانسانية كلها وليس للمسلمين وحدهم هي عينها نسبة ما في أرضهم من ثروات مادية عاشوا عليها آلاف السنين وهم بها جاهلون. و لو لم يحقق الغرب ثوراته العلمية والصناعية لما أصبحت الثروات الاسلامية ذات وجود فضلا عن أن تكون مادة لوعيهم وأداة لارادتهم.
ونفس الامر يمكن أن يقال عن الثروة الرمزية التي في دينهم. فلو لم يجرب الغرب في ثوراته السياسية والاجتماعية نظائر محرفة مما أوصي به القرآن لما ادرك المسلمون معاني ما دعا إليه من ضرورة تحرير البشرية من المستبدين بالسلطان الروحي (أو الكنيسة التي عوضها عندنا استبداد العلماء لما نقلوا سلطة التشريع من منزلة فرض العين علي كل مسلم إلي منزلة فرض الكفاية بالاستحواذ عليه) ومن المستبدين بالسلطان الزماني (الدولة ذات الحق الالهي التي عوضها عندنا استبداد الامراء لما نقلوا سلطة التنفيذ من منزلة فرض العين علي كل مسلم إلي منزلة فرض الكفاية بالاستحواذ عليه).
لكن القرآن الكريم الذي سعي إلي تحرير البشرية من الاستبدادين حدد طبيعة سلطتي الامة الحقيقيتين:
1- سلطة التواصي بالحق في الاجتهاد الذي يطلب علوم الدين والدنيا وكان علي المسلمين ابداع مؤسسات تنظمها لتكون أداة كل عمل تشريعي.
2- وسلطة التواصي بالصبر في الجهاد الذي يحقق الاستخلاف بتطبيق تلك العلوم في تنظيم حياة البشر وتمكينهم من تسخير العالم مع رعايته. وكان علي المسلمين ابداع المؤسسات لتكون أداة كل عمل تنفيذي.
والمعلوم أن مجموع الاستحواذين هو اغتصاب سلطتي الامة التي نسب إليها الرسول الكريم وحدها ودون سواها العصمة في الامرين. وذلك هو شرط التحرر من الطاغوت الذي قرنت الآية 256 من البقرة الكفر به بالايمان بالله إيمانا حرا لا اكراه فيه لتبين الرشد من الغي.
لكن أصل فكر الرجلين المؤثرين في الخطاب الاسلامي عند الاسلاميين مناف تماما لهذه القيم القرآنية وليس مناسبا للعصر فضلا عن أن يكون مناسبا لاستئناف الإسلام دوره التاريخي من منظور المتعاليات التي تصلح لكل العصور. فكيف يمكن لفكر يستند إلي نظريات ابن عربي الوجودية والقيمية أن يؤسس نهضة تحرر الانسان وتحقق قيم الاسلام وهي مبنية علي الجبرية والسلطة الروحية البديل من سلطة الامة: وذلك هو جوهر التناقض في الدستور الايراني بين الجمهورية التي تستمد شرعيتها من الانتخاب أو إرادة الشعب والمرجع الذي يستمد شرعيته من كنسية منافية لجوهر الاسلام ؟ وكيف يمكن لفكر لم يحتفظ أصحابه من فكر المنظر (ابن تيمية) الذي ينسبونه إليه إلا وجهه السلبي قصدت مجرد سلب نظريات ابن عربي الوجودية والقيمية أن يؤسس نهضة تحرر الانسان وتحقق قيم الاسلام: وذلك هو جوهر الحل البنلادني الذي يستبدل سلطان الكنسية علي الدولة بسلطان الدولة المسيطرة علي الكنسية في ما يدعو إليه من نظام ؟ فلا يكون الفرق بين بن لادن والخميني إلا بتقديم الاستبدادين وتأخيرهما: إما أن يكون استبداد العلماء تابعا لاستبداد الامراء أو العكس فيكون استبداد الامراء تابعا لاستبداد العلماء . وقد وضعت النوعين بين ظفرين لأن الامير هو من أمرته الامة والعالم هو من أجمع أهل الاختصاص علي علمه. فلا يكون الأول بدائيا ومستندا إلي تحويل الشعوب إلي عبيد الخوف من القوة المادية ولا يكون الثاني خرافيا ومستندا إلي تحويل الشعوب إلي عامة تابعة للتخويف بالقوة الغيبية.
وبذلك يكون خطاب فكر الاغلبية السنية التي لم تصل إلي الحكم ولم يعترف بها حركة اصلاحية ذات وجود مشروع في أي قطر وخطاب الاغلبية الشيعية التي يمثلها في إيران ما يسمي بالاصلاحيين فإنهما لا حول لهما ولا قوة وهما مضطران للبقاء عاجزين عن الفعل خوفا من أن يتهما بالتحالف مع أعداء الاسلام ممن هم خدمتهم الفعليون. فلا يكون للاصلاحيين الشيعيين وللاصلاحيين السنيين أدني امكانية للفعل خوفا من هذه التهمة وعجزا عن الاعلان الشجاع علي أنه لا يمكن استئناف التاريخ الاسلامي من دون حل المعضلتين اللتين يعاني منهما الاسلام منذ الحرب الاهلية التي بدأت منذ اليوم الأول لموت الرسول الكريم لكونها عين تحريفه.
فأما المعضلة الأولي فهي تبدو خاصة بالشيعة لكنها في الحقيقة تعم الحزبين الشيعي والسني: كيف يمكن التحرر من الاستبداد التنفيذي الذي صار بديلا من الإرادة الإلهية أعني مما صار بديلا من سلطة الأمة التنفيذية أو ولاية الفقيه فوق السلطة السياسية بديلا من سلطة الأمة ؟ فهذه النظرية التي هي مبدئيا خاصة بالشيعة صارت فعليا عامة لكل المسلمين. وما تبرره الوصية في حالة الشيعة تبرره الشوكة في حالة السنة.
وأما المعضلة الثانية فهي تبدو خاصة بالسنة لكنها في الحقيقة تعم الحزبين السني والشيعي: كيف يمكن التحرر من الاستبداد التشريعي الذي صار بديلا من الشرع الالهي أعني مما صار بديلا من سلطة الامة التشريعية ؟ فهذه النظرية التي هي مبدئيا خاصة بالسنة صارت فعليا عامة لكل المسلمين وما يبرره القياس الفقهي عند السنة يبرره العلم اللدني عند الشيعة.
وفي الجملة فإن أم المسائل هي كيف تستعيد الأمة الاسلامية ما أمرها الله أن تقوم به فرض عين علي كل أفرادها فلا تتركه للاغتصابين التشريعي للعلماء والتنفيذي للامراء فتحقق الشروط التي تؤهلها لان تكون خير أمة. ذلك أن القرآن الكريم لم يجعلنا خير أمة بصورة مرسلة بل هو جعل شروط الخيرية في الاية 104 من آل عمران ثم أردفها بجواب الشرط في الآية 110 منها: ما يعني أننا نكون ما وصفت الآية 110 إذا حققنا ما طلبت الآية 104 من آل عمران.

مقترحات للعلاج الممكن

إذا فكر المسلم حقا فإنه لن يكون محكوما بمعايير ظرفية في تحديد منزلته التاريخية واشكالات راهنه. فاحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) مثلا لا يمكن أن يكون لها حسبان في فكره من حيث هي تلك الأحداث بل من حيث ما تدل عليه من انخرام في نظام العالم. أما إذا كان دمية سياسية أو لاعبا بايديولوجية حزب حاكم أو معارض فيمكن أن يتكلم عن نوع تأثير هذا الحدث في فكر المسلمين وفي استراتيجية اصلاح شؤونهم ويهمل محددات الظرفية الفاعلة ليحصر فعل الامة في رد الفعل. مشكلة المشاكل بالنسبة إلي المسلمين هي هذا الاقتصار علي الظرفي ورد الفعل. فليس ما حدث في الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) بالحدث الأهم في الظرف التاريخي الراهن لو فكرنا حقا من منطلق ما يوجبه القرآن علي الامة لعلاج قضايا الحياة البشرية ورعاية الكون.
فالحدث في ذاته أمر لو قيس بغيره من الأحداث التي تجري في عالمنا لاعتبر حدثا عاديا جدا. لكن توازن العالم المنخرم يضفي عليه ما لا يستحق بالقياس إلي ما يهمله العالم من مآس أكبر حجما وأخطر علي مستقبل المعمورة. فحادثة واحدة لاحدي الشركات الامريكية في الهند قبل ذلك بعقد قتلت عشرة اضعاف ما قتلت حادثة الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). وبيع الشركات الغربية الدواء أو الغذاء المغشوش فضلا عن تجريب الأدوية الجديدة في الأفارقة قتل الملايين بقصد ومن سلط رسمية لدول تدعي القيم الإنسانية والديموقراطية. وهم علي أبواب تحقيق أمر في افريقيا سبق أن حققوا مثله في أمريكا عندما أفنوا أهلها بالكحول والجدري والسلاح: الايدز والمخدرات والحروب القبلية هي البديل الجديد من الأدوات التي أفنت الهنود الحمر. وقنابل أمريكا في فيتنام قتلت الزرع والضرع فضلا عن ملايين البشر. ومع ذلك فإن ذلك كله لم يعتبر حدثا مهما ليسأل الناس عن أثره في فكرهم. فلم اعتبر الحدث مهما إذن؟ ذلك هو المشكل.
وهذا يشبه التعامل مع العدوان علي أطفال الفقراء بالقياس إلي التعامل مع مجرد خدش يصيب أحد أطفال الاغنياء. وقس عليه قتل مئات الفلسطينين أو العراقيين بالمقارنة مع قتل يهودي واحد. وقس عليه قتل ملايين الغجر فعليا بالمقارنة مع ما يسمي بالمحرقة. أهمية الحدث الوحيدة بالنسبة إلي مفكر مسلم هي أنها تكشف عن أكبر أدواء البشرية الحالية. فانخرام توازن العالم وتحريف القيم يجعل قتل ملايين الافارقة من أجل مصلحة شركة دواء او ذهب أو بترول أو غاز أو أورانيوم وافناء شعوب أمور أكثر من عادية فلا يؤبه بها ولا تعتبر أحداثا فاصلة في التاريخ. أما قتل بعض المدللين في امريكا فإنه يراد له أن يكون من شواغل فكرنا الاولي بحيث لا ننظر في شؤون الصحوة والنهضة واستئناف الدور الكوني للاسلام إلا من خلاله.
إنما سبب ذلك أمران:
ففكرنا قد بات مجرد رد فعل.
ومؤسساتنا الخائرة يحكم المستبدين بها الخوف من الخوف.
لذلك فإن التهديد بالنفخ في الهواء تسيل له بطون المستبدين بالسلطتين ماء. لا يهمني ما يقوله الأمريكي أو الإسرائيلي. ما يعنيني هو تحديد شروط استئناف المسلمين دورهم الكوني لرعاية العالم تكليفا من رب العالمين ولتحرير البشرية من هذا الانخرام الذي أفسد العالم المادي بالتلويث الصناعي والتسليحي والعالم الروحي بالتلويث الثقافي.
لكن كيف يمكن أن يسهم المسلمون في تحرير البشرية من الطغيان العالمي في المجالين الروحي والمادي إذا كانوا هم أول ضحاياه بسبب ما حل بالقرآن من تحريف جعل علماء المسلمين وأمراءهم أول من يفسد كل المؤسسات التي أوصي بها؟ ماذا يعنيني رأي الامريكي أو الاسرائيلي في ما ينبغي أن يدرس أو أن يقال في خطب الجمعة إذا كان ما يدرس وما يقال ليس ضرره بالامريكان واليهود بأكبر من ضرره بالمسلمين أنفسهم ؟ فليست القضية قضية نصوص تبقي أو تزال. ذلك أننا نستطيع أن نقلب التحدي فنسأل من يريد منا ذلك أن يجربه هو علي نصه المقدس. ونحن علي يقين أنه لو فعل لما بقي منه إلا ما اعتبره القرآن غير محرف أي القرآن نفسه الذي هو أصل كل ما بقي من حقائق فيه ! أما القرآن فهو غني عن التطهير لان ما فيه ليس هو ما يلام علي الناطقين باسمه: فما كان الاجتهاد يوما هو ما يصوره عليه الجهلة ممن يسمي بقادة الجهاد في فوضي حركاتهم الحالية.
ذلك أن المسلمين لو طبقوا قاعدة الاستعداد الرادع بحسب أحكام القرآن لما اضطروا لتحويل الجهاد إلي السلوك البدائي الذي هو حيلة فاقد الحيل. فكل استشهادي من المسلمين أعتبره شهادة منه بأن المسلمين فشل علماؤهم وساستهم في الاستعداد الرادع المغني عن اللجوء لهذه الحلول اليائسة التي لا يمكن أن تربح بها أمة حربا إلا بشرط أن تخسر كل شروط الحفاظ علي المستقبل في المعترك الدولي القادم. فهي تشترط أن تبقي الحرب من جنس حروب القرون الوسطي. لكن العدو لن يقبل بمجاراتنا في حرب يمكن فيها للافراد أن يصلوا إليه ليفجروا أنفسهم بين شعبه. فإذا واصلت الامة مثل هذا السلوك فإن مستشهديها لن يستطيعوا تفجير أنفسهم إلا في شعوبهم فضلا عن كون ذلك سيقنع به العدو شعبه بضرورة اللجوء إلي ما عنده من الأسلحة الرادعة التي تعيد الأمة إلي القرون الوسطي: كل ما في الامر هو انتظار الحد الذي يقنع الرأي العام الغربي بأن استعمال السلاح الرادع أصبح مشروعا فيكون الفناء لاصحاب هذه الاستراتيجيات السخيفة التي لا تصلح إلا للدفاع عن قرب أي في الحروب البدائية.
ولما كان العدو ليس ملزما لا خلقيا ولا فنيا بمواصلة هذا الشكل من الحرب فإنه يمكن أن يحسهما بمجرد أن تقنع قياداته شعبه بضرورة الحسم. ولهم في غباوة قيادات هذا السلوك أفضل حليف لتحقيق القناعة. لذلك فإن مثل هذه الحلول دليل عن العجز وليست دليلا عن الشجاعة وهي اعتراف بعدم القيام بما طلب القرآن القيام به وعودة إلي حروب الجاهلية حيث يحارب الفرد الشجاع وليس الامة المنظمة التي تحارب بعقلها قبل يدها. لذلك فلا علاقة لها باستراتيجية الجهاد القرآني لانها مبنية علي نفي أول مبادئه. إنها عودة إلي الحرب الجاهلية خاصة وهي مشروطة بنفي أول قانون دولي للحرب وضعه القرآن: حصر القتال بين الجيوش عندما لا يكون الاستعداد الرادع رادعا. أما إذا غاب الاستعداد الرادع فالقتال ليس قتالا جهاديا بل هو حيلة من صاحب عدم الحيلة الذي أخذ غيلة.
وليس قصد مقترحاتي الاستسلام للعدو. كلا. بل معناه ضرورة فهم منطق الحرب كما حددها الإسلام وشروط النجاح فيها حتي تحول قوة العدو إلي أداة بيدك لمحاربته بها. وتعود الشروط إلي نوعين أحدهما سالب والثاني موجب:
أ ـ النوع السالب من الشروط وفيه خمسة فروع:
1 ـ الحيلولة دون حصول الاستبداد الروحي حتي لا تتحول الامة إلي عامة جاهلة لا سلطان لها علي قوانين الظاهرات الطبيعية والتاريخية لأن العلم والمعرفة أصبحا فرض كفاية للمستبدين بالامر الروحي في حـــين أن القرآن طالبنا بجعلهما فرض عين.
2 ـ والحيلولة دون حصول الاستبداد المادي حتي لا تتحول الامة إلي عامة عاجزة لا سلطان لها علي تحقيق آثار العلم بتلك القوانين في الطبيعة والتاريخ لان العمل أصبح فرض كفاية للمستبدين بالامر الزماني في حين أن القرآن طالبــنا بجعلهما فرض عين.
3 ـ الحيلولة دون اضفاء الاستبداد الاول الشرعية علي الاستبداد الثاني، اضفاء الشرعية الدينية علي الدكتاتورية السياسية قبلية كانت أو عسكرية.
4- الحيلولة دون مد الاستبداد الثاني الاستبداد الأول بالقوة التي تجعله يعمل بآليات السلطان المادي من خلال تعويض الكفاءة العلمية بالولاء لمن بيدهم رزق العلماء فيزول التنافس المـــبدع في المعرفة.
5 ـ وأصل كل هذه الشروط السالبة مبدأ واحد عام وضعه القرآن وطبقه الرسول منع تكون مافيات حاكمة في أي مـــيدان من مـــيادين الحياة العمرانية أعني في الذوق والرزق والنظر والعمل والوجود.
ب ـ النوع الموجب من الشروط وفيه خمسة فروع كذلك:
1 ـ مؤسسة التواصي بالحق ليكون العلم ثمرة الاجتهاد الجماعي لكل أفراد الامة لانه فرض عين.
2 ـ مؤسسة التواصي بالصبر ليكون العمل ثمرة الجهاد الجماعي لكل أفراد الامة لأنه فرض عين.
3 ـ أثر الأول في الثاني: العمل علي علم.
4 ـ أثر الثاني في الاول: تحول العمل الي مادة للمعرفة فتكون الامة في مراقبة ذاتية دائمة.
5 ـ والمبدأ الموحد لكل هذه الشروط هو الاستعداد الرادع أي القوة عامة والقوة العسكرية خاصة.