Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

 
بحث مخصص

 

مجلة العربي

ألأول من مايو 1999

 

 الكيان الصهيوني والمسألة اليهودية
        

برغم أن المسألة اليهودية كانت أحد نتاجات المجتمع الغربي فإننا كعرب ندفع الثمن.

          منذ القرن الماضي وهذا القرن تثار قضية عرفت باسم "المسألة اليهودية" عند عديد من المفكرين تعبر عن وضع اليهود في الغرب، هل هم جزء منه أم منفصلون عنه، هل هم جزء من كل، أم هم كل ، والشعوب كلها أجزاء فيه؟ وهي قضية في الفكر الغربي وحده دون غيره من الحضارات غير الأوربية. تعرضت إليها معظم التيارات الفكرية مثل الليبرالية كما قال بورنو بارو في كتابه "المسألة اليهودية"  1843 أو الماركسية كما فعل ماركس في "المسألة اليهودية" 1843 والوجودية كما كتب سارتر "تأملات في المسألة اليهودية" 1954. أراد بارو تحرير اليهود في ألمانيا عن طريق الدولة الألمانية القومية الليبرالية التي تقوم على الايديولوجية الألمانية، الوعي بالذات، الجماعة والحرية، وهي مثل التنوير الألماني. فلا بقاء للخاص إلى في العام، ولا تحرر للجزء إلا بتحرر الكل. وأراد ماركس أن يحقق نفس الهدف ولكن عن طريق تحرير المضطهدين في العالم كله وليس اليهود وحدهم، فالتحرر حق الجميع. وهذا لا يتم إلا عن طريق القضاء على البرجوازية المستغلة وتوحيد جميع المضطهدين في العالم ضد الاستغلال العالمي. فلا تحرر لليهود إلا بتحرير العالم وليس الدولة القومية الليبرالية عند باور. أما جان بول سارتر فقد جعل السبب الرئيسي للمسألة اليهودية هو رؤية الآخرين. فاليهودي ما يراه الآخرون أنه يهودي فالحظأ من الآخر وليس من الذات. ولما كان الآخرون هم الجحيم فإن اليهودي ليس مسئولا عن اضطهاد الآخرين له. وبالتالي ينكر سارتر الأسباب الموضوعية للمسألة اليهودية ويضحي بها من أجل وصل العلاقات بين الذوات، تجعل اليهودي ضحية تشيؤ الآخرين له. ومن ثم فتحرر اليهودي ليس من داخله بل من خارجه. فهو الضحية وليس الجلاد. والسبب الرئيسي للمسألة اليهودية هو باختصار المعادة للسامية.

          وسبب بروز "المسألة اليهودية" في الفكر الغربي هو عزلة اليهود في المجتمعات الأوربية، وعيشهم في "الجيتو" لاهم من المجتمع، جزء منه، متساوون مع باقي أفراده في الحقوق والواجبات، ولاهم خارج المجتمع، مجتمع أخر منفصل عن المجتمع الأم. لا هم وطنيون ولا هم غرباء، لاهم من أهل البلاد ولا هم من خارج البلا>ز ففي حالة المد الوطني أو القومي في المجتمعات تبرز المسألة اليهودية، وماذا عن اليهود؟ هل هم جزء من المجتمع الألماني أو الفرنسي أو الإيطالي أم هم خارجه قومية خاصة؟ وفي حالة الترابط القومي والاجتماعي كيف يسمح بوجود قوميتين أو مجتمعين داخل المجتمع الواحد والقومية الواحدة؟ هل اليهود جزء من الأغلبية أم هم أقلية؟ هل ولاؤهم للمجتمع العام وللدولة الوطنية أم ولاؤهم للمجتمع الخاص أو لمجتمع آخر ودولة أخرى خارج الحدود؟

          وأصل المسألة اليهودية في وجود نزعتين في تاريخ اليهودية منذ العبرانيين الأوائل حتى الصهيونية المعاصرة. الأولي للنزعة الخاصة التي تظهر في أسفار موسى الخمسة وأثناء الأسر البابلي والاحتلال الروماني لفلسطين والصهيونية الحديثة منذ القرن الماضي. وهي نزعة تقوم على عقائد التوراة مثل العهد والوعد وأرض الميعاد. فقد عقد الله حلفا خاصا بينه وبين إسرائيل يعطيهم بمقتضاه الأرض والمدينة المقدسة والمعبد والهيكل، ويؤيد بالنصر.. فالشعب شعب الله، والحرب حروب الله، والأعداء أعداء الله، والنصر نصر الله. وفي مقابل ذلك لم يطلب الله منهم شيئا، لا تقوى ولا طاعة ولا عملا صالحا ولا إيمانا بالله ولا تصديقا بالأنبياء. فالعهد أحادي الطرف، الله يعطي واليهود يأخذون. الله يعطي مجاناً، واليهود يأخذون بلا مقابل. هو عهد غير مشروط. إنما الالتزامات وحدها من جانب الله، واليهود أبناء الله وأحباؤه لا التزام عليهم بشيء ولا حتى بمحبة الله. وهو عهد مادي لا أخلاقي، يعطي الفول والعدس والبصل وأرض مصر ولا يتطلب الإيمان أو الطاعة أو كمال الأخلاق. وهو عهد جماعي يتم بين اليهود كشعب وبين الله وليس عدا فرديا يقوم على الاختيار الحر والمسئولية الفردية. المسئولية في العهد جماعية. والإنقاذ جماعي، ولا عقاب. وكيف يعاقب الله أبناءه وأحباءه؟ ويتم الإنقاذ للجماعة المذنبة الخاطئة حتى ولو كان فيها واحد مؤمن. فالأقلية الصالحة تغفر للأغلبية العاصية. ومادام هناك مؤمنون متعبدون في البيع يؤمنون بإله الأجداد والآباء فإن بوسع الأبناء والأحفاد أن يفعلوا أي شيء حتى ولو كان القتل والذبح والعدوان والاستيلاء على أراضي الغير.

          وفي مقابل هذه النزعة الخاصة كانت هناك نزعة عامة تضعف وتقوى طبقا للعصور ومدى قبول العبرانيين ثقافات الشعوب الأخرى وحضاراتهم. فلقد ثار الأنبياء ضد هذه النزعة الخاصة عودا بالوحي إلى شموله لكل الشعوب، الإيمان بالله والعمل الصالح، وهو ما أثبته الإسلام، أخر مرحلة للوحي، باعتباره جوهر الإيمان، وعادت النزعة العامة باتصال العبرانيين باليونان عند فيلون السكندري وتأويل اليهودية بما يتفق مع العقل والفضيلة، وظهرت مرة ثالثة مع المسيحية، عند الأسينيين الذين كانوا يفسرون اليهودية تفسيراً روحيا بعيداً عن العنصرية والعدوان. وقد كان المسيح منهم كما تبين "مخطوطات البحر الميت". ثم ظهرت النزعة الشاملة داخل الحضارة الإسلامية لدى يهود مصر والعراق واليمن والمغرب العربي وإسبانيا. ولم تعرف اليهودية علم كلام أو فلسفة أو فقها إلا بفضل نماذج هذه العلوم في الحضارة الإسلامية. سعيد بن يوسف الفيومي مثل الفارابي ومعاصريه، بهيا بن باقودة مثل مسكوية، ويهودا هاليفي مثل الغزالي، وموسى بن ميمون مثل أبن رشد. ولأول مرة عرفت اليهودية بالحكمة العقلية والبراهين الفلسفية بعيدا عن العنصرية والاختيار. وفي الفلسفة الغربية الحديثة ظهرت النزعة الشاملة في القرن السابع عشر إبان الليبرالية الغريبة عند اسبينوزا الذي نقد العهد اليهودي المحافظ، المادي، أحادي الطرف، المجاني غير المشروط، ونادي بعهد آخر أخلاقي تبادلي مشروط، نقلا للديكارتية من المسيحية إلى اليهودية ونقل موسى مندلسون الكانطية والفلسفة النقدية إلى اليهودية جاعلاً مدينة القدس أثينا جديدة، عاصمة التنوير. النزعة الخصوصية مورثة من الداخل والنزعة الشاملة وافدة من الخارج. بل إن بعض التيارات اليهودية المعاصرة مثل الظاهراتية الاشتراكية عند بوبر أو الوجودية اليهودية عند روزنزفيج تدعو إلى التحرر عن طريق تحرير الوجدان والذات والوجود الإنساني الفردي والاجتماعي وليس عن طريق الكيان الصهيوني.

نموذج الدولة

          كان القرن التاسع عشر هو عصر القوميات الكبرى، الألمانية والفرنسية والإيطالية والروسية والأمريكية. الوحدة المتجانسة القائمة على العرف واللغة والأرض والتاريخ والدين والثقافة. نشأت في العصر الرومانسي الذي كانت غايته العودة إلى الأرحام والارتباط بالجذور الأولى حيث منشأ الروح الذي تجلى في التاريخ، واتحد بالطبيعة. اندلعت الحروب بين القوميات من أجل استقرارها على الأرض والاعتراف بحدود ثابتة لها طبقا لصراع القوى في ذلك الوقت. نشأ الفكر القومي اليهودي على هذا المنوال. وترك فلسفة التنوير عند اسبينوزا ومندلسون. ورفض عرض نابليون على يهود فرنسا أن يكونوا مواطنين فرنسيين متساوين في الحقوق والواجبات مع باقي الفرنسيين. وتحولت الصهيونية من نزعة روحية، المحافظة على التراث اليهودي والتمسك بالهوية الثقافية اليهودية ضد مخاطر التمثل والاستيعاب والذوبان في باقي القوميات وثقافاتها في القرن الثاني عشر عند الكالي إلى صهيونية سياسية ترى حل المسألة اليهودية على النموذج القومي الأوربي في القرن التاسع عشر، الدولة كما تصورها هرتزل. ولما ضاقت القوميات بحدودها انتشرت خارجها وتحولت إلى غزرات استعمارية في إفرييا وآسيا وأمريكا اللاتينية خارج الحدود الأوربية الأمريكية. وللمرة الثانية تم تصور الكيان الصهيوني خارج حدود أوربا وأمريكا، في الأرجنتين في أمريكا اللاتينية أو الجابون في إفريقيا أو فلسطين. ففيها تتحقق العودة إلى الأرحام، والنشأة الأولى، وعليها عقد العهد الأول، عهد نوح وإبراهيم وموسى  وهي أرض المعاد التي بها المدينة والمعبد والهيكل. وفي نفس الوقت كانت فلسطين مع العرب من ممتلكات "الرجل المريض" مطمعا للقوى الأوربية الناهضة لا تحميها إلا الجيوش.العثمانية. كلها فراغات. فلسطين أرض بلا شعب واليهود شعب بلا أرض.

          ولما كانت فلسطين جزءاً من دولة الخلافة، وأراد اليهود الغربيون شراءها من السلطان رفض السلطان بيعها. فأمانة التاريخ لا تباع. كما رفض محمد علي التنازل عنها، وفتح الشام حفاظا عليها وتوحيداً لمصر والشام والسودان وشبه الجزيرة العربية من أجل رد الحياة إلى دولة الخلافة بزعامة مصر. ولما خسرت تركيا الحرب الأولى استعمرت بريطانيا ممتلكاتها في مصر والسودان وفلسطين والعراق واليمن والخليج. واستعمرت فرنسا سوريا ولبنان والمغرب العربي. واحتلت إيطاليا ليبيا والصومال. وبدأت الهجرات التطوعية الأولى في فلسطين كمواطنين داخل الدولة العثمانية طبقاً لنظام الملة. تحولت بعدها إلى هجرات منظمة بعد احتلال بريطانيا ووعد بلفور من أجل إنشاء وطن قومي لليهود. وكلما ازدادت الهجرات في المزارع الجماعية زادت المقاومة الفلسطينية حتى ثورة عز الدين القسام قبيل الحرب الثانية. وتحت غطاء الإحساس بالذنب للمحرقة أثناء الحكم النازي لألمانيا ازدادت الهجرات بعد الحرب حتى تأسيس الكيان الصهيوني في 1948 وعليها كلها بعد هزيمة 1967.

           وبفضل حرب 1973 بدأت مشاريع التسوية في مدريد 1994 وأوسلو في 1996 واتفاقات القاهرة وواشنطن وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية على نصف الضفة الغربية حتى محادثات الوضع النهائي.

الكيان والأمن

          والسؤال الآن: هل حل قيام الكيان الصهيوني المسألة اليهودية؟ هل ساعد نشأة الكيان الصهيوني على جعل اليهود أكثر قبولا لهم أو هم أكثر قبولا لجيرانهم؟ لم يحصل اليهود على الأمان المطلوب بإنشاء الكيان الصهيوني بل عاشوا في جيتو كبير بدلا من الجيتو الصغير. لا يتعامل مع غيره من غير اليهود. لا يشعر بالأمان إلا إذا أحيط باليهود من كل جانب. يشعر بالذنب، طرد شعب من أرضه والاستيلاء على ثرواته. ولا تتقادم السرقات خاصة أن جسم الجريمة شعب بأكمله في الخيام وفي المنفى. بل ويرفض اليهود التعايش مع الآخرين متساوين في الحقوق والواجبات في دولة متعددة الأطراف والملل لأن ذلك سيفقدهم مقومات وجودهم الخاص، يعيشون على معاداة السامية. وبقدر ما تقوى النزعة المعادية للسامية تقوى الصهيونية وتجد مبررا لوجودها. بل إنهم كثيراً ما يساعدون في خلقها حتى يجدوا المبرر لعقدة الاضطهاد. وبقدر ما يتسع نشاطهم وتقوى سلطتهم الاقتصادية والسياسية بقدر ما يزداد العداء لهم في السر أو العلن. بل كثيرا ما يكونون وراء سقوط العديد من الدول العظمى مثل نهاية الاتحاد السوفييتي. ويسيطرون على مراكز التفكير والقرارات في الولايات المتحدة خارج البيت الأبيض وداخله. ويتوعدون من يخرج على الطوع أو من يرفض التبعية مثل الجنرال ديجول بعد عدوان 1967 ومهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا وتحميلهم مسئولية الأزمة المالية في آسيا. وما منظمة دولية إلا وهم داخلها لتوجيهها لخدمة مصالحهم الخاصة.

          وإذا تم للكيان الصهيوني تأمين نفسه ضد المخاطر الخارجية فإن المخاطر الداخلية أعظم. فقد نشأ الكيان على أكتاف اليهود الغربيين الأكثر تحضرا وعلما ثم تمت هجرة اليهود الشرقيين بعد 1948 من مصر والعراق والمغرب واليمن. ونشأ صراع مكتوم أو معلن بين "الاشكناز" و"السفرديم" بيد اليهود الغربيين كل مظاهر القوة والسلطة، واليهود الشرقيون لهم العمالة والخدمة. كما أن هناك صراعا بين العلمانيين وهم دعامة الحكم والمتدينين الذين يوغلون في التطرف الديني كدعامة للتطرف السياسي، حرب داخلية حول هوية الكيان، قوانينه وأساليب حياته. ولما كانت الصهيونية قد قامت على أساس عرقي ظهرت مشكلة اللون، اليهود البيض في مقابل اليهود السود "الفلاشة" المهجرين من الحبشة. ويصل اللون إلى الدم، الدم الأبيض والدم الأسود. بل ويوجد صراع مكتوم بين اليهود المهاجرين، الرعيل الأول، واليهود المولودين في فلسطين "الصابرا" الذين لا يعرفون لهم موطنا آخر هاجروا منه كما فعل الآباء. وأخيراً هناك الأغنياء والفقراء، المسألة الاجتماعية التي تفرق أبناء المللة. فالصراع الاجتماعي هو الذي يجلب الصراع الطائفي. والطبقة أحياناً تضم المللة وتحتوي الطائفة.

          وبدلا من حل المسألة اليهودية نشأت المسألة الفلسطينية، إخراج شعب من أرضه ونهب ثرواته إحضار يهود العالم من الدياسبورا إلى العاليا، وإبعاد عرب فلسطين من العاليا إلى الدياسبورا. ونشأت المسألة العربية باحتلال جنوب لبنان والجولان والتهديد بالعدوان لدول الجواربل لمنابع النفط ولإيران، لثروات العرب وثروة المسلمين. وإزداد التطرف والعنف في الوطن العربي، تطرف بتطرف، وعنف بعنف، ويتم التخطيط لتجزئة الوطن العربي بين عرب وبربر في المغرب العربي، عرب وأكراد وشيعة في العراق مسلمين وأقباط في مصر، مسلمين ومسحيين في السودان بين الشمال والجنوب، زيدية وشافعية في اليمن، سنة وشيعة في الخليج، بدو وحضر في شبه الجزيرة العربية، عرب وآسيويين في عمان والإمارات، أصلاء وبدون، وطنيين ومهاجرين، علمانيين وسلفيين إلى آخر هذه الثنائيات التي تنحر بالتجزئة والتشرذم في الجسم العربي.

النموذج الأندلسي

          لقد قام الميثاق الوطني الفلسطيني منذ البداية على أن حل المسألة اليهودية والفلسطينية إنما يتم في إطار دولة ديمقراطية متعددة الثقافات والملل، يتساوي فيها المواطنون في الحقوق والواجبات. وهو ليس حلما طوباويا بعيد المنال أو تكتيكيا سياسيا لتصفية الكيان الصهيوني بل هو النموذج الأندلسي القديم الذي عاش فيه المسلمون واليهود والنصارى كعرب في طليطلة وغرناطة وأشبيلية وقرطبة. وكان هو العصر الذهبي للحضارة اليهودية حيث نشأت علومهم العقلية مثل الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، وعلومهم النقلية مثل اللغة والنحو وعلومهم العقلية في الرياضيات والطبيعيات بفضل وجودهم في الحضارة العربية، يكتبون بالعربية أو بالعربية بحروف عبرية، ويعيشون بين المسلمين. بل إن اليهود كانوا يذهبون للقضاء الإسلامي لأنه أكثر عدلا من القضاء اليهودي لا يحابي ولا يظلم. وما حدث في الأندلس حدث أيضا في مصر وتونس والعراق واليمن. فقد جمع اليهود بين العروبة والثقافة الإسلامية أسوة بالمسلمين والنصارى وكان منهم الأطباء والحكماء والعلماء في بلاط الخلفاء. كان ابن ميمون طبيب الكامل. ووصل حسداي بن شبروط إلى منصب وزير التجارة وله تجارته وربحه. وراسل حسداي ابن باجة. وظهر حيوي البلخي داعيا ومصلحا لليهودية قبل اسبينوزا معبرا عن روح الاعتزال. وتكونت فرقة القرائين على نموذج المتكلمين المسلمين في مقابل الربانيين. كان القراءون يقولون بالتأويل العقلي للنصوص، وبالكتاب وحده مصدار. وينفون التصور العنصري الخاص للمعاد. بل إن من كبار فلاسفة التنوير اليهودية في العصر الحديث من تلامذة المسلمين مثل اسبينوزا. وينقد الإسلام بعض الانحراف في اليهودية من اليهودية إلى الصهيونية بعقيدة العهد أو الميثاق اللاأخلاقي المادي غير المشروط المناقض لقانون الاستحقاق. كما ينقد تحريف التوراة والوقوع في الحرفية والصورية والمظهرية التي قد تخفي غير ما تبطن وتؤسس النفاق. وينقد العصيان اليهودي، والغدر بالناس، والكفر بالأنبياء وقتلهم أي قسوة القلب وغياب الرحمة، وهي المكونات الرئيسية للصهيونية الدينية والسياسية.

          إن الذي يمنع اليهود الآن أن يصبحوا يهودا من النزعة العامة وانضراءهم تحت النزعة الخاصة هو رد فعل على التنوير الأوربي، ونموذج القوميات والتغريب. أصبح اليهودي غريبا عن تراثه، يتبنى القيم الغربية تاركا قيمة المورثة، يستمد هويته من الأرض والعرق، ومتصورا أمنه في الحدود الجغرافية الآمنة في العلم والنشيد والعلاقات الدولية والقوة وليس في أمنه الداخلي، مساواته لغيره من البشر، لا أكثر ولا أقل. تربطه بالناس قيم أخلاقية وبباقي الشعوب. مأساة اليهودية الآن مأساتان: الأولى التغريب وتبنية قيما ليست نابعة منه، نموذج الدولة القومية الدينية الطائفية العرقية النازية. لذلك حدث الصدام بينها وبين النازية الألمانية. هذه هي الصهيونية وليست اليهودية. هوية اليهودي تأتي من إيمانه بالله وبالأنبياء، وبالعقيدة والشريعة. وصدقة في التزامه بالتوراة. والنازية الأرثوذكسية السياسية التي تقرأ التراث اليهودي أيضاً كما تقرؤه الصهيونية العلمانية، وتعيد إبراز النزعة الخاصة في التوارة والتلمود. لا فرق إذن بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية إلا في المنبع وليس في المصب، في الوسيلة وليس في الغاية. وكلاهما صهيونية سياسية تريد العودة إلى جبل صهيون لتأسيس الكيان الصهيوني. أما التيارات اليهودية الأخرى فمازالت أقرب إلى اليهودية منها إلى الصهيونية، مثل اليهودية الإصلاحية التي تريد كيانا يهوديا سياسيا دون صهيونية، دولة يتعايش فيها الجميع أقرب إلى نموذج الميثاق الوطني الفلسطيني، واليهودية الأرثوذكسية التي ترفض الكيان السياسي، وتريد المحافظة على التراث الروحي اليهودي. فالخلاص ليس بالدولة وليس الآن، بل بظهور المخلص في المستقبل، استمرارا للصهيونية الروحية، التيار الصوفي في التنوير اليهودي. اليهودية الإيمان بإله موسى في السماء وبالتوراة على الأرض. وهي اليهودية التي يعبر عنها القرآن في نقده لعقيدة العهد أو الميثاق في النزعة الخاصة، ودفاعه عن النزعة العامة التي يمثلها الإسلام، ويستأنفها ويطورها في ميثاق أخلاقي جديد من أجل وضع دستور لجماعة مؤمنة جديدة تحقق رسالة الأنبياء على الأرض، المساواة بين البشر بعد تحرر الضمير.

 

حسن حفني