عابر الحدود بين فراق الأهل وعدم الترحيب به عند الآخر
ربما كانت أفضل طريقة لوصف حياة ونشاطات محمد أركون حسب
استيفان فلد هي القول بأنها دائما تتخطى الحدود . فالحد الأول هو مسقط
رأسه . ولد محمد أركون عام 1928 في الجزائر من أصل بربري . وقد تخطى
الحدود الجغرافية عندما ذهب للدراسة الجامعية حيث قطع البحر الأبيض
المتوسط من الجزائر إلى باريس
للدراسة في السوربون ثم تجنس بالجنسية
الفرنسية بذلك يكون قد تخطى الحدود اللغوية ثم الحدود الثقافية السياسية.
وكل تخط لأي حدود هو تعب ووداع وحزن وبنفس الوقت هو انطلاق جديد ثم فرصة.
وكل تخطٍ للحدود يترك أشخاصاً على ناحية تحزن على الفراق في الوقت الذي لا
يُرحب فيه بكل شخص على الناحية الأخرى . وهذا يعني أن حياة مجتازي الحدود
ليست دائماً سهلة. وفي عام 1968 عين محمد أركون أستاذا لتاريخ الفكر
الإسلامي والفلسفة في السوربون. وعلاوة على ذلك كان هو من الأساتذة
المرغوبين لدى الكثير من الجامعات والمؤسسات العلمية.
فمنذ أول دراسة
له عن مسكويه، ذلك الفيلسوف وباحث علم الأخلاق في القرن العاشر حتى
دراساته الأخيرة المنتظمة نجده مشغولاً بتطوير منهجه العلمي . فنظرية
المعرفة العلمية و كما هو معروف هي موضوعه المفضّل ومعنى هذا أن عالِم
أبحاث الدراسات الإسلامية مثله مثل أي عالِم آخر يجب أن يقدم تقريراً
كاملاً عن منهجه وهذا ما فعله محمد أركون بحماس طيلة حياته لأنه يحاول في
نطاق الدراسات الإسلامية تطبيق كل ما هو متوفر من نظريات العلوم الإنسانية
في وقتنا الحاضر.
أما منهجه الأساسي الثاني بجانب نظرية المعرفة
العلمية والذي يرتبط بها ارتباطاً وثيقاً فهو النقد. وهنا لا يتفادى محمد
أركون أي نزاع أو خصام. فهو ينتقد مثلاً نهج الدراسات الإسلامية التقليدية
لدى المستشرقين التي تعتمد على التفريق الجوهري الدائم بين الشرق والغرب
كما وأنه ينتقد الكثير من مشاريع المفكرين العرب المسلمين التي عفا عليها
الدهر والذين يعتقدون أن إعادة الصيغ القديمة كافية للتوصل إلى المعرفة
العلمية.
وكلمة النقد هنا لا تعني المفهوم الدال على الفكر المنصف غير
المنحاز لكنها تستعمل بكل ما تحتوي عليه من مدلول لدى كانط. لقد بحث في :
نقد العقل الخالص (المحض)، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم
(نقد الحاكمة)
ولعل نقد "كانط" الثلاثي عن شروط العلوم والأخلاق
والإدراك الجمالي يُعتبر من أشهر نظريات النقد الفلسفية في العصر الحاضر.
وفي واحد من أهم مؤلفاته يستعين محمد أركون بكانط حيث يعنون كتابه كالآتي
: في نقد الفكر الإسلامي.
استعمل محمد أركون واستعان وقيّم كثيرا من
الوافد في كتاباته مما أدى إلى لومه خاصّة من قِبَلِ زملائه العرب
والمسلمين . وفي الحقيقة فإن محمد أركون قد اعتمد في كتاباته ودراساته عن
الدين الإسلامي والتاريخ والحضارة الإسلامية دون وجل على كتّاب أجانب مثل
: جورج هانز، كارل ماركس، جادامير، ريقوير باول وغيرهم . وهؤلاء المفكرون
هم فلاسفة عصر الحداثة مثلما كان الأرسطوطاليون والأفلاطونيون فلاسفة
العصور الوسطى. ومن الطبيعي أن يتعرض هؤلاء المفكرون المعاصرون أيضاً
للنقد كذلك، كما أنه لا يوجد خبير في معرفة الحقيقة دون منازع لا يعرض
نفسه للنقد لأن هذا مستحيل في مجال العلوم الإنسانية. وهنا نجد أن محمد
أركون مصرّ ومصمّم على رأيه وفي جميع كتاباته بأنه ليس بالإمكان عزل
الثقافة الإسلامية والتاريخ والدين عن الحداثة بواسطة جدار رقابة علمية.
وجدار الرقابة هذا لا يمكن أن يكون في مصلحة المسلمين، بل بالعكس فإن ذلك
يعني ضمناً أنهم غير قادرين على المضي مع حقائق العصر، وأن لا قدرة
لديهم في مماشاة حقيقة الواقع الحاضر ويتطلّب حمايتهم كما تتطلب حماية
الأطفال. وهذا الموقف هو في واقعه موقف استشراقي سلبي في الأساس كما حلله
إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق . وأما المفكر السوري صادق جلال العظم فقد
وصف ظاهرة الإنعزالية الشخصية بـ " ظاهرة الاستشراق المعكوسة" أي أنها
صورة للموقف الاستشراقي. إنّ النظرية الاستشراقية كانت تنظر إلى المسلمين
على أنهم مختلفون عن الأوروبيين اختلافاّ تاماً، لذلك لا يمكن إدراك
طبيعتهم بالشكل المنطقي. وهكذا يمكن أن تُعكس الصورة. وليس القليل من
المفكرين العرب يعتقد أن الأوروبيين لا يمكنهم إدراك ما يدور في فكرهم،
وهذه هي تماماً الصورة المعكوسة للا ستشراق.
أما مصطلح "اللامفكر
فيه" فهو يلعب دورا هاما في مؤلفات محمد أركون. فبحكم اللغة فإن أي نظام
فكري توجد فيه انقطاعات ونواقص. محمد أركون يستخدم مصطلحا من جاك ديريدا
ويبحث في محدودية مركزية العقل في البحث العلمي لأسباب لغوية، وذلك يعني
أن كل معرفة علمية لا يمكن أن تتوفر إلا بواسطة وسيط أي لغة، لذلك فإنها
إلى حدٍ ما معتمدة على تلك اللغة. ففي كل نظام فكري مركزي قائم على اللغة
هناك إمكانية في التلاعب السياسي طالما أن هناك أمراً لا مفكر فيه وغير
مذكور. والخطورة في ذلك تكمن في أن كل فكرة أو عقيدة يمكن أن تتحول إلى
أيدولوجيا. لقد شرح محمد أركون ذلك بوضوح في كتابه "اللامفكر فيه، المهمل
في الفكر الإسلامي المعاصر " (لندن 2002) ولعلّ هذا الكتاب من أهم كتبه
المنشورة باللغة الإنكليزية والذي يلخص فيه أفكاره في الأعمال السابقة.
والواجب الذي تعهد القيام به هو أن يبحث في"اللامفكر فيه" في الثقافات
الإسلامية ويدونه في كتاباته . أما من ناحية تقبل القرّاء العرب لكتبه
والمترجمة معظمها عن اللغة الفرنسية فلم يكن بدون عقبات في بادئ الأمر.
وإذا نظرنا الآن إلى العديد من الكتب المؤلفة باللغة العربية أو المترجمة
إلى العربية من كتبه لم يعد بالإمكان القول أن كتبه لم تعد معروفة بالدول
العربية.
محمد أركون لا يُقرأ اليوم في أوروبا والولايات المتحدة فحسب
بل هو حاضر في الخطاب الإسلامي الفكري من أندونيسيا مرورا بماليزيا ثم
جنوب إفريقيا ومصر حتى المغرب.
إذا اعتقدنا أن محمد أركون يملك حلولا
لجميع المشاكل العلمية والسياسية التي يتعرض لها نكون قد أخطأنا فهمه .
فنظرته هي الفصل بين المجال السياسي والديني وهو يعتقد أن هناك ضرورة
للحوار بين الشرق والغرب ويؤمن بنظام الحكم الديموقراطي وحركة الأنْسَنَة
"الهيومانزم" العربية الإسلامية، كل ذلك يتوافق مع تقاليد المثقفين الذين
يشعرون بالمسؤولية.
البرج العاجي لم يكن أبدا ًموطنا لمحمد أركون .
اهتم محمد أركون بالنازحين في أوروبا الوسطى وخصوصا الشباب منهم على خلفية
الدراسات الإسلامية الملتزمة اجتماعياً وسياسياً وقد سمى محمد أركون هذا
النوع من العلم " علم الإسلام التطبيقي " .
هنا نرى أن دوافع هامة
تبلورت لتؤثر على طابع الدراسات الإسلاميه : التفهم الجديد للوحي الإلهي
بوجه عام والنص القرآني بالأخص، مشروع تخطيط للمجتمع المدني يضمن الحقوق
لجميع الأفراد، تفهم انتقادي حاسم للرمز الديني الإسلامي والذي يسميه محمد
أركون التخيل الديني في إطار دراسات مقارِنة للمعاني الرمزية في الديانات
التوحيدية الثلاثة. وهنا تكمن واجبات الدراسات الإسلامية الرئيسية في
يومنا هذا كما لخصها محمد أركون .
اشكالية الإسلام والحداثة كما يراها أركون :
""الإسلام"
و "الحداثة": مفهومان محوريان يفترض إعادة الانكباب عليهما للخروج من
دائرة الغموض الشائع في استخدامات جدلية وأيديولوجية تنحى إلى إبراز
التضاد بين قوتين متعارضتين خارج أي تحليل تاريخي أو سوسيولجي أو أناسي أو
لاهوتي أو فلسفي. من الضروري والحالة هذه الاستفادة من العلوم جميعها
لجلاء التحديات الفكرية والثقافية والحضارية التي يتجنبها عموماً حتى
الخبراء المفترضين في هذا القطب أو ذاك مما أسميه "تاريخ الزمن الراهن".
فإذا كان الخلاف بين ما يسمى عموما "الإسلام" و"الغرب" واضح المعالم في
الخطاب القرآني، فإن الحروب القاسية والمتكررة ابتداء من 1945 قد ألهبت
المشاعر وغذت الأحقاد الدفينة ونبذ الآخر على قاعدة المعطيات اللاهوتية
الاسلامية واليهودية والمسيحية والتي شكلت منذ القرون الوسطى أنظمة فكرية
و"روحية" وأخلاقية وقضائية عملت على هذا العزل المتبادل.
إن هذه
الأنظمة التي شيدتها كل طائفة من الطوائف كي تدعي أنها المختارة من الله
والمؤتمنة الحصرية على الحقيقة المنزلة ما زالت تستخدم حتى اليوم كمرجعيات
لتشريع "الحروب العادلة" المتواترة منذ 1945، حرب التحرير الجزائرية
(1954-1962)، حملة السويس (1956)، حرب الأيام الستة (1967)، حرب الغفران
(1973)، حرب الخليج (1990)، الحرب على الارهاب... تجدر الملاحظة أن
الأطراف المتواجهة في هذه الحروب ترتبط بموروث ديني وثقافي ورمزي مشترك
للحيز المتوسطي المنقسم منذ بزوغ الاسلام بين ضفة "يهودية ـ مسيحية" ومن
ثم حديثة علمانية وضفة عربية ـ تركية ـ إيرانية مسلمة.
من كتب محمد اركون
نزعة الأنسنة في الفكر العربي : جيل مسكويه والتوحيدي
الاكتشاف
الاساسي الذي توصل اليه محمد اركون في هذا العمل هو تبيان وجود مذهب فكري
انساني في العصر الكلاسيكي، وتحديدا في القرن الرابع الهجري - العاشر
الميلادي، في ظل البويهيين. فقد إزدهرت العقلانية الفلسفية المستلهمة من
الإغريق واتخذت على المستوى اللغوي والأسلوبي صيغة "أدب الفلاسفة، وفلسفة
الأدباء".
لكن هذه الأنسنة ضمرت فيما بعد وماتت إلى درجة أننا نسيناها
تماماً، واعتقد أنها لم توجد قط! ثم دخلنا في عصور الإنغلاق الطويلة التي
فصلتنا تماماً عنها وجعلتها طي النسيان التراثي.
الكتاب هذا يكشف
النقاب عن لحظة منسية سبق ان ضربت في ارض الاسلام بمجيء السلاجقة في القرن
الحادي عشر. وهو، بهذا، يستبطن سؤالاً: كيف السبيل إلى بعث الأنسنة من
جديد في العالم العربي والإسلامي؟ كيف يمكن أن نصل ما إنقطع ونستلهمه
مجدداً لكي نبني عليه نهضتنا المقبلة؟.
الفكر الأصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر للفكر الاسلامي
يطرح
هذا الكتاب قضية تأصيل انواع الخطابات والاحكام، من دون ان يتعرض لتاريخ
علم الاصول في الاسلام، اوتحليل اعمال هذا المجتهد او ذاك.
والكتاب يركز على النقد المعرفي العميق لمفهوم التأصيل ذاته، كما مارسه العقل الديني، وكما حلله العقل الحديث في آن.
الاسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة
هذا
الكتاب عبارة عن حوار بين الاسلام والغرب من خلال رمز بارز للفكر التنويري
في الفكر الاسلامي المعاصر (محمد أركون)، ورمز الحزب الليبيرالي
الهولندي(بولكستاين). انه مقارعة حامية بين المواقع الفكرية للتراث
الاسلامي، وبين اكثر القيم الغربية حداثة ورسوخا: كالعلمنة والحرية،
والديموقراطية، والتعددية الدينية والسياسية، والعقل النقدي، وحقوق
الانسان، الخ..
من فيصل التفرقة الى فصل المقال... اين هو الفكر الاسلامي المعاصر؟
يحاول
محمد اركون، في هذا الكتاب، ان يثير من خلال العنوان ذكرى الغزالي
وابن رشد. وهو يفعل ذلك عن قصد لكي يبين حجم الفارق بين جدية المناظرات
الفكرية التي حصلت اثناء الفترة الكلاسيكية المبدعة من تاريخ العرب
والاسلام، وبين الوضع المؤسف الذي تردى اليه الفكر الاسلامي المعاصر.
الفكر الاسلامي: نقد واجتهاد
كتاب
يضع القرآن في مواجهة الصيغ النظرية للفكر الحديث، هادفا من ذلك الى انشاء
رؤية نقدية في ميادين العلوم الانسانية، بما يتجاوز التفاسير المتداولة.
فالمطلوب،
في عرف الباحث، اعادة تحديد المفهوم الغربي ذاته بصفته فضاء تاريخيا
وثقافيا. واعادة التحديد تتعدى المثال الاسلامي لكنها، في رأيه، تتم بفضل
هذا المثال.
معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية
يتحدث
هذا الكتاب عن سبب ضمور الفكر الفلسفي - العقلاني في الساحة الاسلامية منذ
انهيار الحضارة الكلاسيكية في القرن الثالث عشر الميلادي. ويكشف عن وجود
تيار تنويري ذي حس انساني واحترام للعقل البشري في القرنين الثالث والرابع
للهجرة بشكل خاص/ اي التاسع والعاشر للميلاد.وقد نتج هذا التيار الانساني
(او الانسني) عن تزاوج الفلسفة الاغريقية مع التراث العربي - الاسلامي.
فالتراث الديني وحده لا يكفي لتوليد تيار عقلاني يحترم امكانيات الانسان
ويثق بها. وانما ينبغي ان يخصبه او يتفاعل معه تيار فلسفي قوي يعطي العقل
كل حقوقه في الكشف المعرفي والابداع الفكري: كالتيار الافلاطوني -
الارسطوطاليسي مع امتداداته واكتشافاته الحديثة. وهذا ما حصل في الفترة
الكلاسيكية من تطور الحضارة العربية - الاسلامية. فكان ان ازدهر الفكر
العربي وتولد هذا التيار الانسني العقلاني المتمثل في شخصيات كبرى:
كالجاحظ، والتوحيدي، ومسكويه، وابن سينا، وابن رشد، والغزالي وفخر الدين
الرازي، وابن الجوزي، وابن عقيل، الخ... ولا يزال هذا التيار يدهشنا حتى
اليوم على الرغم من المسافة الزمنية الكبيرة التي تفصل بيننا وبينه.
ويحرضنا هذا الوضع التاريخي للفكر الاسلامي على الانخراط في معارك فكرية
جديدة.
القرآن من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني
لاول
مرة يطبق احد الباحثين بعض المنهجيات الحديثة كعلوم الالسنيات
والسيميائيات والمنهجية البنيوية على النص القرآني، بغرض الكشف عن البنية
اللغوية لهذا النص، وشبكة التوصيل المعنوية والدلالية التي ينبني عليها..
هذا فضلا عن تطبيقه المنهجية التاريخية لتبيان حقيقة العلاقة القائمة ما
بين الوحي والتاريخ. وهو انما يهدف بذلك الى زحزحة مفهوم الوحي التقليدي
والساذج الذي قدمته الانظمة اللاهوتية عنه، وتجاوزه الى تصور اكثر محسوسية
وموضوعية وعلمية. فهدف اي نقد حقيقي للخطاب الديني، عند محمد اركون، يجب
ان يتم باستخدام جميع مصادر المعقولية والتفكير التي توفرها لنا علوم
الانسان والمجتمع للانتقال باشكالية الوحي، تحديدا، ومن الموقع
الابستمولوجي الدوغماتي الذي تحتله حاليا، الى قضاءات التحليل والتأويل
التي يعمل على افتتاحها تباعا ما يسميه اركون: "العقل الاستطلاعي المنبثق
حديثا"لدينا هنا نظرية جديدة ومبتكرة في ما يخص ظاهرة الوحي، الظاهرة
المحورية البالغة الاهمية والخطورة بالنسبة لكل الديانات السماوية.
والعمود الفقري لفكر اركون انما يكمن هنا بالذات. فهو يفكك النظرة
التقليدية الراسخة منذ مئات السنين لكي تحل محلها نظرية جديدة قائمة على
آخر ما توصلت اليه العلوم الانسانية من عقلانية ومنهجية وفهم عميق. ومن
هنا الطابع التحريري الهائل لفكر محمد اركون، وكذلك الطابع الريادي
لمشروعه في نقد الخطاب الديني عموما، والعقل الاسلامي خصوصا.