Arabic symbol

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

 متابعة لـ الآيات القرآنية والقراءات الحداثية واستعراض ندوة (2 ـ2):
عبدالرحمن: النص الخاتم يمتد زمنه الي ما وراء زمن نزوله. حتي ان كل زمن يليه يكون زمنه
 
بحث مخصص

 

ندوة: دعوة لقراءات جديدة. والاستفادة من الدراسات الاستشراقية التي كسرت تابو المقدس

منتصر حمادة

القدس العربي - لندن

21 ديسمبر 2004



 

ماهية القراءة الحداثية الابداعية

للجواب عن سؤال الخروج من الوصاية الشاملة بهدف تحقيق الابداع، ينطلق المحاضر من حقيقتين تاريخيتين:
الحقيقة الأولي تقول أنه لا دخول للمسلمين الي الحداثة الا بايجاد قراءة جديدة للقرآن الكريم، علي اعتبار أن القرآن هو سر وجود الأمة المسلمة وسر صنعها للتاريخ، فاذا كان هذا الوجود والتاريخ ابتدأ من القراءة النبوية للقرآن باعتبارها دشنت الفعل الحداثي الاسلامي الأول، فان استئناف هذا الوجود لعطائه وهذا التاريخ لمساره وكذا تدشين الفعل الحداثي الاسلامي الثاني لا يكونان الا بقراءة تجدد هذه القراءة النبوية. أما الحقيقة الثانية فتذهب الي أن واقع الحداثة في المجتمع الغربي قام علي أساس مواجهة المؤسسات الكنسية التي مارست وصايتها علي الدين ووصاية علي الثقافة والسياسة والفكر باسم هذه الوصاية الدينية، اضافة الي أنها تسببت في حروب دينية مزقت هذا المجتمع، كل ذلك دعا الي العمل علي تحرير الانسان الغربي وتحرير عقله وتوجيه تاريخه بما يدفع عنه شر الحروب المقدسة.
يترتب علي هاتين الحقيقتين التاريخيتين أن مقتضي الحداثة الاسلامية يضاد مقتضي الحداثة الغربية، فاذا كان الفعل الحداثي الغربي قام علي أصل التصارع مع الدين، فان الفعل الحداثي الاسلامي لا يقوم الا علي أصل التفاعل مع الدين، سواء في طوره النبوي الأول أو في طوره الابداعي الثاني، واذا ثبت هذا الأمر، تبين مدي الخطا الذي ارتكبه أهل القراءة الحداثية لما ظنوا أنهم يحققون الفعل الحداثي المطلوب بالحد من هذا التفاعل الديني والسير به الي نهايته، تقليدا لواقع الفعل الحداثي الغربي الذي قضي بقطع الصلة بالدين، في حين كان ينبغي لهم أن يرعوا هذا التفاعل بما يجعله قادرا علي توليد الطاقة الابداعية لدي المسلم، اذ بقدر ما تعتمل في صدره القوة الايمانية، تستعد ملكاته للانتاج والابداع. ليخلص الي أن قراءة الآيات القرآنية لا تكون قراءة حداثية مبدعة بحق حتي تستوفي شرطين اثنين: أحدهما ترشيد التفاعل الديني، والثاني تجديد الفعل الحداثي (ويحصل باستبدال هدف ذي صبغة ايجابية مكان هدفه السلبي، وهذا يعني أن مبدأ البناء في القراءة المبدعة مقدم علي مبدأ الهدم، علي خلاف القراءة المقلدة التي يتقدم فيها مبدأ الهدم الذي يزيل الغيبية والقدسية والحكمية).

البديل الطاهائي: خطط القراءة الابداعية

بعد تحديد المفكر المغربي ماهية الترشيد الديني والتجديد الحداثي، يطرق باب التفصيل في شروط وآليات القراءة الحداثية المبدعة للآيات القرآنية، وتتفرع علي ثلاث خطط:

خطة التأنيس المبدع

علي عكس خطة التأنيس المقلدة التي يروج لها الحداثيون، لا تقصد خطة التأنيس المبدعة محو القدسية، وانما تقصد تكريم الانسان، بحيث يكون تعريفها هو أنها نقل الآيات القرآنية من وضعها الالهي الي وضعها البشري، تكريما للانسان. وبدهي أن الاعتبار الذي يأتي موافقا للارادة الالهية خير من الاعتبار الذي يأتي مخالفا لها، اذ يكون الاله هو الضامن لاستمراره واستكماله، فخطة التأنيس المبدع تعيد وصل الانسان بخالقه وصلا يرفع مكانته ويحقق كرامته.
واذا كانت العمليات المنهجية في خطة التأنيس المقلد تشتغل بمحو القدسية من النص القرآني، فانها في خطة التأنيس المبدع تشتغل ببيان تكريم الانسان في هذا النص، بحيث يكون الانشغال بالانسان فيها أكثر منه في الأخري، ذلك أن التأنيس المقلد يشتغل بدفع ما يتوهم أنه يضر بالأصالة الانسانية، أي القدسية، في حين أن التأنيس المبدع يشتغل بجلب ما ينفع هذه الأصالة، ومن هنا، يكون التأنيس المبدع أكثر حداثة من التأنيس المقلد بموجب المبدأ الحداثي الأول الذي يقضي بالعناية الانسان.
وبهذا تبطل المماثلة اللغوية التي أقامها التأنيس المقلد بين النص القرآني والنصوص البشرية، قاصدا صرف قدسية هذا النص، فليست عبارات اللغة مجرد أشكال نطقية، وانما مضامين تبليغية، وهي الأصل فيها، ويأتي في مقدمة هذه المضامين بالنسبة للنص القرآني المضمون العقدي، ثم ان الآيات القرآنية تختص دون سواها بكونها أحدثت ومازالت تحدث تثويرا عقديا جوهريا لا يمكن أن يحدثه كلام غيرها، اذ يرفع مبدأ التوحيد الي أعلي درجات التجريد، وعليه، فلا نظير للنص القرآني في حداثته اللغوية.

خطة التعقيل المبدعة

لا تقصد خطة التعقيل المبدعة محو الغيبية كخطة التعقيل المقلدة، وانما تقصد توسيع العقل. فهذا التعامل العلمي مع الآيات القرآنية لا يضعف التفاعل الديني متي تخلينا عن أسلوب الاسقاط عند العمل بهذه المنهجيات، اذ نظفر فيها بالأسباب المنهجية التي نستطيع بواسطتها أن نستكشف بعض المعالم المميزة للعقل الذي يختص به القول القرآني، والذي ليس عقل الآلات، وانما عقل الآيات، ولا عقل النسب، وانما عقل القيم.
كما أن هذا التعامل لا يخل بالفعل الحداثي، علي اعتبار أن العقل يستعيد نوره، لكن ليس بانتزاعه من عالم الغيب كما هو الأمر في خطة التعقيل المقلدة، وانما بتوسيع آفاقه بما يجعله يدرك أسرار التوجهات القيمية للانسان، فضلا عن الأسباب الموضوعية للوقائع، بل ان هذا العقل الموسع ـ وهذه اشارة هامة تغيب عن أذهان الكثير من المتتبعين ـ يسهم في الارتقاء بالفعل الحداثي نفسه، مخرجا اياه من طوره المادي الخالص الي طور يزدوج فيه المادي بالمعنوي، انقاذا له من سابق أخطائه.
واذا كانت العمليات المنهجية في خطة التعقيل المقلد تشتغل بمحو الغيبية من النص القرآني، فانها في خطة التعقيل المبدع تشتغل ببيان توسع العقل في هذا النص، بحيث يكون الانشغال بالعقل فيها أكثر منه في الأخري، ذلك أن التعقيل المقلد يشتغل بدفع ما يتوهم أنه يضر بالفكر العقلاني، أي الغيبية، في حين أن التعقيل المبدع يشتغل بجلب ما ينفع هذا الفكر، ومتي تحقق جلب هذه العقلانية، اندفع بالضرورة ما يضرها من الغيبية الغالية، ومن هنا يكون التعقيل المبدع أكثر تغلغلا في الحداثة من التعقيل المقلد بموجب المبدا الحداثي الذي يقضي بالعناية بالعقل.
بالنتيجة، نري أن العمليات المنهجية في التعقيل المبدع تعقب مظاهر توسيع العقل في الآيات القرآنية ومواطنه وأقداره، مستخرجة منها مختلف الأدلة التي تثبت مبدأ التدبر الذي دعت اليه هذه الآيات، فتوضح هذه العمليات كيف أن العقل القرآني يصل الظواهر بالقيم ويصل الأحداث بالعبر، وأيضا كيف أنه يرتبط بالقلب ارتباطا خاصا، وأخيرا كيف أن القلب في القرآن يصبح ملكة جامعة هي مصدر كل الادراكات الانسانية في تداخلها وتكاملها، عقلية كانت أو حسية أو روحية، بحيث يكون أفق الادراك الحسي موصولا بأفق الادراك العقلي وأفق الادراك العقلي موصولا بأفق الادراك الروحي.
وحينئذ، تبطل المماثلة الدينية التي أقامتها خطة التعقيل المقلد بين النص القرآني وبين النصوص الدينية الأخري، وذلك من وجهين، أحدهما أن الفرق بين العقل الذي يتضمنه النص الديني التوحيدي وبين العقل الذي يتضمنه النص الديني الوثني فرق لا يطوي، فالعقل التوحيدي يرتقي علي العقل المادي مراتب تختلف باختلاف الأديان المنزلة، بينما العقل الوثني ينحط عن العقل المادي مراتب تختلف باختلاف الأديان غير المنزلة، واذا كان الأمر كذلك، لزم أن تكون العبادات والقصص في النص التوحيدي غيرها في النص الوثني، اذ تمثل في الأول وسيلة لممارسة عقل أعلي، وفي الثاني وسيلة لممارسة عقل أدني، والوجه الثاني، اذا سلمنا بأن النصوص الدينية المنزلة انما هي تجليات لوحي واحد، كل تجل يصدق التجلي الذي سبقه ويهيمن عليه، وجب أن يكون النص القرآني مهيمنا عليها جميعا، فيفضلها عقلا.

خطة التأريخ المبدع

يختتم طه عبد الرحمن عرضه القيم بالتفصيل في طبيعة خطة التأريخ المبدعة، والتي تروم ترسيخ الأخلاق، وليس محو الحُكمية كما هو الحال مع خطة التأريخ، فيكون تعريفها اذا هو أنها وصل الآيات القرآنية بظروف بيئتها وزمنها وسياقاتها المختلفة، ترسيخا للأخلاق.
كما أن هذا الوصل لا يضر بالفعل الحداثي، ذلك أن التاريخ يستعيد اعتباره، لا يمحو الحكمية كما هو الشأن في خطة التأريخ المقلدة، وانما بالارتقاء بمفهوم الحكم، فلم يعد مضمون آية الحكم ينحصر فيما تأتي به من تشريع، وانما يتسع لما يرمي اليه هذا التشريع من تخليق، بحيث يصبح لهذه الآية وجهان: وجه قانوني ووجه أخلاقي، مع تبعية الوجه القانوني للوجه الأخلاقي، حسب فيلسوف الأخلاق، وعندئذ، تقدر الأحكام بقدر الأخلاق التي تورثها، مع التأكيد علي أن الأخلاق ليست كمالات، وانما ضرورات.
واذا كانت العمليات المنهجية في خطة التأريخ المقلد تشتغل بمحو الحكمية من الآيات القرآنية، فانها في خطة التأريخ المبدع تشتغل ببيان رسوخ الأخلاق في هذه الآيات، بحيث يكون الانشغال بالسلوك في الحياة في هذه الخطة أكثر منه في الأخري، ذلك أن التأريخ المقلد يشتغل بدفع ما يتوهم أنه يضر بالسلوك، أي الحكمية، في حين أن التأريخ المبدع يشتغل بجلب ما ينفع هذا السلوك، أي الأخلاق، وعليه، يصبح التأريخ المبدع أكثر تغلغلا في الحداثة من التأريخ المقلد بموجب المبدا الحداثي الثالث الذي يقضي بالعناية بالسلوك الدنيوي.
وبالنتيجة، تبطل المماثلة التاريخية التي أقامتها خطة التأريخ المقلدة بين النص القرآني وبين النصوص التاريخية، ذلك أن لهذا النص وضعا تاريخيا لا يضاهيه فيه غيره، حيث انه النص الديني الخاتم، والنص الخاتم يمتد زمنه الي ما وراء زمن نزوله، حتي ان كل زمن يليه يكون زمنه.

ندوة حول القراءات الحديثة للظاهرة القرآنية

بعد مقاربة عبدالرحمن اصبح تقييم القرارات الحداثية أصبح القاسم المشترك بين أغلب الندوات الفكرية التي تتطرق للقرآن الكريم خلال الآونة الأخيرة. وهذا هو عنوان الندوة التي نظمتها بالدار البيضاء مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الاسلامية في الفترة ما بين 10 و11 كانون الأول (ديسمبر) الجاري تحت عنوان: من تفسير القرآن الي القراءات الحديثة للظاهرة القرآنية ، وقد تميزت بمشاركة جهابذة الفكر المحسوب علي الفكرانيات (الايديولوجيات) العلمانية، وتمحورت حول المواضيع التالية: البناء الاجتماعي للحقيقة: من المصحف الي المتون الرسمية المقفلة لمحمد أركون و المقاربة التاريخية النقدية في فهم النص القرآني (ألفريد لويس دوبريمار عن الدار المتوسطية لعلوم الانسان بايكس أون بروفاس، فرنسا) و ما الحاجة الي تفسير جديد للقرآن؟ (المنصف عبد الجليل عن معهد الدراسات حول حضارات المسلمين بلندن، وهو أحد المشاركين الجدد في تعديل المناهج الدراسية في تونس) و الاتجاهات الحديثة للتفسير علي الصعيد الدولي (جان دامن ماكوليف ـ جامعة جورج ثاون ـ واشنطن) و أوامر الهية أم أخلاقية قرآنية؟ (عبده الفيلالي الأنصاري عن معهد الدراسات حول حضارات المسلمين بلندن، وهو رئيس تحرير فصلية مقدمات المغربية والتي تصدر باللغتين العربية والفرنسية)، و القرآن: من النص الي الخطاب (نصر حامد أبو زيد) و فلنقرأ (يوسف صديق، باحث من باريس ذهب الي حد وصف أبو حسن الأشعري بأنه من الشخصيات التي جنت علي التقدم في تعاملنا مع النص القرآني !) و القراءة المعاصرة من التساؤل الحرج الي البناء العلمي (فيصل العوامي المشرف العام علي مجلة القرآن نور القطيف) و البحث عن المعني الضائع للقرآن: بين أحكام المؤسسة وشؤون الفرد (ألفة يوسف عن المعهد العالي لأطر الطفولة ، تونس) و في بنية ومستويات النص الديني في الاسلام (المختار بنعبدلاوي عن جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء) و الاستخدام السياسي للنص القرآني في الفكر الاسلامي المعاصر (محمد الشريف فرجاني عن مجموعة البحث والدراسات حول العالمين العربي والاسلامي بجامعة ليون الثانية بفرنسا).

نقد التفاسير الأرثوذوكسية!

نقرأ في الكراسة التعريفية بأشغال الندوة أنه بالموازاة مع التفسير التقليدي للقرآن، ظهرت قراءات جديدة أحدثت بعض الشرخ في الجدار السميك الذي تحصن به ما وصفته بالتفسير الأرثوذوكسي المسيطر منذ قرون طويلة علي المتخيل والوعي الاسلاميين، وهكذا أصبح النص القرآني منذ بداية القرن العشرين موضوعا لثلاثة أنواع من التفسيرات:
1 ـ القراءات التي تواصل العمل بالتقاليد الاسلامية للتفسير (التفسير المأثور، التفسير بالرأي، التفسير بالصوفي، الخ) وهو التفسير الموصوف سلفا من قبل الكراسة بالأرثوذوكسي!
2 ـ القراءات التي تعد امتدادا للتقليد الاستشراقي.
3 ـ القراءات التي أنتجها مسلمون مدركون لمأزق التفسير التقليدي والذين يحاولون اخضاع النص القرآني لأدوات ومناهج القراءة الحديثة، مع الاعتراف به كنص مؤسس لدين استطاع أن يتجاوز حدود الزمان والمكان والثقافات.
بعد ذلك استعرضت الكراسة مآزق التفاسير التراثية ، مؤكدة أنه لأسباب تاريخية، هيمن اتجاه تفسيري محدد علي غيره وهمشت خيارات تفسيرية من قبل التفسير الفلسفي للفخر الرازي أو التفسير الاعتزالي للزمخشري (القرن 12 الميلادي) وكذا مختلف القراءات الصوفية، وقدم التفسير التراثي اليوم ثلاث مشكلات ابستمولوجية علي الأقل:
ـ اتساع حقله المرجعي، فالتفسير التراثي لا يكتفي بادراج النص القرآني ضمن مرجعيته، بل يضيف اليه أيضا كل الانتاجات الثقافية التي تلته، ويتعلق الأمر علي وجه الخصوص بالنصوص الثانية التي يرتبها وفق تصور كرونولوجي (الأحاديث النبوية وأخبار وأقوال الصحابة والتابعين)
ـ تتعلق المشكلة الثانية بالغاية من التفسير نفسه، فالقراءة التراثية تقعيدية معيارية تعبئ المصادر اللغوية والأدبية والتاريخية بهدف استنباط القواعد الفقهية والعقدية بالأساس، وهذه في الواقع مقاربة براغماتية وظيفية تفرض اجماعا مذهبيا مؤداه هو توظيف النص وافقار التجربة الايمانية التي هي محور علاقة المؤمن بالنص القرآني وافراغها من التوتر الناجم عن مسعي المؤمن وتساؤلاته الملازمة لكل حالة ايمانية.
ـ وفيما يتعلق بالمشكلة الثالثة، فتبقي لصيقة بمفهوم المعني، علي اعتبار أن التفسير التراثي ينطلق من فكرة وجود معني واحد وأصلي أودعه الله في النص وأوحي به الي نبيه. والحال أن هذه المقاربة أنتجت تفسيرا ذا مشروعية مؤسساتية تحول مع مرور الزمان الي عائق دون نفاذ المسلمين المعاصرين الي النص القرآني.

نحو اسلامولوجيا جديدة!

لن تخرج مداخلات الحضور المشار اليه عن هذا الاطار التمهيدي المؤسس، حيث ركزت علي ابراز حاجتنا من جهة الي ما يسمي بـ القراءات الجديدة للقرآن، وعلي ضرورة الاستفادة من المقاربة الاستشراقية للنص الديني، والتي بحسب نفس الكراسة، يرجع الفضل اليها في تكسير التابوهات والأفكار المسبقة التي أحاطت بقراءة النصوص المقدسة عموما والنص القرآني خصوصا(!) فعلاوة علي النتائج المترتبة علي المقاربات التي هيمنت علي دراسة الظواهر الدينية حتي أواسط النصف الثاني من القرن العشرين مثل الوضعية والعلمية والتاريخانية والمقاربة الثقافية، فان الاسلامولوجيا الحديثة، التي تدين كثيرا للتقليد الاستشراقي، واجهت المشاكل الابستمولوجية التي تعترض عادة أي علم يغامر باكتشاف حقل معرفي بكر، من قبيل: تعميمات تعسفية، مقاربات تبقي أسيرة مقاربة تنطلق بشكل واعي الي هذا الحد أو ذاك من مركزية اثنية أو شبه كونية، اختزال الحقائق المركبة في الروايات الرسمية أوفي ظواهر عارضة جري تضخيمها.. الخ.
أما القراءات الحديثة، وهي عين التوجه الفكراني/العلمي الذي يجمع بين الحضور المتدخل، فتقوم علي اعتبار أن ما أنجز من تفاسير وقراءات للنص القرآني لا تعدو كونها انتاجا بشريا، يتوجب اخضاعه للنقد التاريخي. فالمحدثون ـ بيت القصيد في الخلاف الدائر اليوم حول التعاطي مع القرآن الكريم ـ ينظرون الي الطابع التأسيسي والمرجعي للنص القرآني لا من باب سبقه الزمني بل من منطلق أن الوحي يتميز كنص بحضور مسامر ومعاصرة متواصلة.
والقرآن بهذا المعني نص تأسيس أي كلام حي أو تنزيل مستمر بتعبير المفكر التونسي محمد الطالبي، ويبقي الرهان الحقيقي عند الاسلامولوجيين الجدد ان صح الوصف، هو تحرير العقل الذي يتولي مهمة استقبال الوحي وتأويله، انه يتمثل في تحرير الفعل التأويلي المعاصر والعمل علي أن لا تظل الثقافة العربية ـ الاسلامية للقرون الثلاثة الأولي في أعين المسلمين بمثابة المعبر الوحيد الممكن للنفاذ الي النص القرآني ! ولا تنكر الكراسة ـ التي يحسب لها أنها كانت صريحة، حتي نعلم مع من نتحدث أو نتحاور، وضمن أي فكرانية نجادل ـ أن المقاربة الحديثة هذه تستند الي مفهوم المعني في ضوء مكتسبات نظرية التلقي الحديثة (الهرمينوطيقا) دون سواها، وان أمكن، فسوف نضيف الفيلولوجيا أو البنيوية ما جاورهما.
ومعلوم أن المعني وفق المنظور الحديث، هو ثمرة علاقة جدلية معقدة بين القارئ والنص ضمن محيط اجتماعي وثقافي وتاريخي ونفسي. فمعاني النص سواء أكان نصا مقدسا أو غير مقدس، لا توجد مودعة فيه بمقتضي مقاصد مؤلفه، بل تتولد باستمرار، من خلال العمـــــلية التأويلية التي تمثلها القراءة المحكومة بنسبية مداركنا وتنوع تجاربنا، فتكون المعاني بذلك متغيرة ونسبية باستمرار .
وما دمنا نعيش في زمن الحداثة العربية المقلدة، نقرأ أن المقاربات الحديثة هذه تنطلق من وعي عميق ودقيق بمحدودية الخطاب التفسيري التقليدي وبالحاجة الملحة لثورة نقدية علي غرار تلك التي دشنتها أعمال اسبينوزا في أوروبا، وهي الثورة الفكرية التي أكدها عصر الأنوار، وفيما يتعلق بالاسلام ـ المستهدف الأول من قيامة القراءات الحداثية ـ فان المطروح هو الانتقال من تلك القراءة النمطية العقائدية الي مقاربة تأويلية والقبول بنتائجها سواء علي مستوي التصور الجديد للحقيقة الدينية أو فيما يخص انبثاق تعددية عقدية داخل المجتمعات ذات المرجعية الاسلامية ، ولو كان الأمر يتطلب نزع القداسة عن القرآن الكريم بتعبير طه عبد الرحمن.
بالعودة الي ما جاء في مداخلات المتدخلين، نبدأ بالذي صدر عن المنصف عبد الجليل، الذي أكد في مطلع مداخلته علي أن صيغ التفكير تحتاج الي الكثير من المراجعة والنقد حتي نكون أوفياء للبحث العلمي وللذهنيات التي نشأنا فيها، والتي تقف وراء التساؤل عن الحاجة الي تفسير جديد للقرآن، مشيرا بشكل واضح الي أن التفاسير القائمة أصبحت متجاوزة وكذلك الشأن مع وظائفها، والي ضرورة تطليق الوهم اللصيق بأي محاولة تفسيرية جديدة والتي قد تقرأ من قبل البعض علي أنها تطاول علي الائمة .
يورد المنصف عبد الجليل مجموعة أسئلة يعتبرها حرجة من منطلق أنه ابن الألفية الثالثة، أولها أن التفسير التقليدي للقرآن هو بيان علي أن العالم كله، وهو بيان في كلام الله وعن الله، فكأنما التفسير يصبح ايغالا في كشف الحقيقة الربانية، وهذا معطي غريب للغاية من الناحية الفلسفية. وبالنتيجة يصل عبد الجليل أن الوظيفة التي كان يؤديها التفسير لم تعد كذلك اليوم، ولم يعد للمفسر أهمية، ونفس الأمر ينطبق علي الفقيه والمؤسسة الدينية.
يتمثل الحرج الثاني عند المتدخل في مصادرة المفسرين للنص، بحيث رأوا بأنه لا يساءل، والواقع أن هذه المصادرة تصطدم بثلاث اشكاليات، أولها التساؤل عن الدلالة الأساسية وأهمية النتائج التي تتجلي للباحث المعاصر عندما يقيم تفسيرا جديدا للوحي والقرآن باعتباره انجازا لغويا!
اشكال آخر خاص بالانتقال الدقيق من القرآن الي المصحف، وهناك أخبار تتحدث عن تدوين القرآن في الحقبة النبوية، وعن الجمع والتدوين أيام عمر وعثمان. متساءلا أيضا عن معني تواجد مصاحف بعض الصحابة (علي وأُبَي وعبد الله بن مسعود وحفصة وعائشة)!
أما الاشكالية الثالثة فترتبط باللغة العربية التي تخول لنا فهم القرآن! وما ان كانت العربية القرآنية ، أم عربية قريش المصطفاة أو أفضل عربية تكلمت بها العرب! ليخلص المحاضر الي أن التفسير القديم لا يمنح الطمأنينة، وخاصة اذا أخذنا بعين الاعتبار المواصفات والمستجدات العلمية التي نعيش علي ايقاعها نحن أبناء الألفية الثالثة. ثم ان الهرمية المعيارية تغيرت عند مسلمي اليوم، فلم يعد للمحمود أو للمذموم أي معني! بدليل أنه لا يوجد هناك من يفكر في أن يدرس أبناءه الشريعة، بقدر ما يهرول نحو تدريسه لغة الحاسوب وعلم الطب، وكل ما نطمح اليه هو النهل من المعارف العالمية التي تبتعد عن المعارف القديمة ومنها المعارف الشرعية.
أما الأدهي في محاضرة المنصف عبد الجليل فكانت تأكيده علي أن الوحي لم يعد مصدرا للحقيقة !! وكونه لم يعد مصدر الشرعية، فالحقيقة أصبحت في مكان آخر، وأصبحت الشرعية تمنح بأسس أخري يمكن أن تكون خارج الدين، وأخيرا، وليس آخر: ما استقر لم يعد بالامكان مقنعا .
وفيما يتعلق بالبدائل التي يطرحها المحاضر بخصوص تدشين تفسير جديد للقرآن، فقد أوجزها المنصف عبد الجليل في نقاط ثلاث:
ـ التشبث بجديد الأبحاث المتعلقة بالنص وتكوينه بالتركيز علي مبدأ تاريخية النص.
ـ ضرورة المقاربة الاناسية للمضامين القرآنية.
ـ ضرورة البحث المقارن في عربية القرآن.

البحث عن المعني في القرآن

من جهته، أشار نصر حامد أبو زيد الي أن مداخلات الندوة تنطلق من سؤال أساسي مرتبط بالبحث عن المعني، أو المعني الذي يجب أن نتبناه من أجل أن نعيش في مجتمعاتنا. والحال أن الباحثين المعاصرين يسيرون علي نهج الانفتاح علي الثقافات والمناهج وادراك أن المتن القرآني يتحمل هذه المناهج، وأنه لا يجب أن نقصره علي المناهج التقليدية، والا فاننا نجمد معناه في الزمان، وهذا خلاف من يزعم أنه قادر علي الحياة في كل زمان ومكان.
وأضاف أبو زيد أننا نؤمن علي المستوي النظري بمحيط المعاني في القرآن، وعلي المستوي العملي نجمد معاني القرآن ومناهج دراسات القرآن فيما استقر عليه البحث العلمي الذي استقر في القرن العاشر، وهذه أزمة محرجة، واذا لم نثق بأننا نستطيع أن نري أبعد مما رأي أسلافنا، فنحن لا نستحق الحياة.
كما تساءل أبو زيد عن الامكانيات التي تجعلنا نطور منهجا لفهم المتن القرآني يكون قادرا علي اخراج الفكر الاسلامي من أزمة التأويل والتأويل المضاد، من صــــنف التوفيق بين آيات قرآنية تحض علي القتـــــال (قاتـــــلوا الذين كفروا) وعلي السلام في آن (فان جنحوا للسلام فاجنح لها)، وهـــذا تاريخ بدأ منذ القرن الثاني أو الثالث الهجري، بمعني أن حقيقة المعني تبقي خاضعة لايديولوجيات المفسرين. وواضح أن البحث عن منهج هو محاولة للخروج من أزمة لها تاريخ طويل في الممارسة.
اشتغال المحاضر علي علوم القرآن تجعله يؤكد علي أن القرآن يبقي نصا بالدرجة الأولي، وهذا يتطلب منا أن نتعامل معه بمقاييس النص بأن تطبق عليه معايير تحديد النص. لولا أن تطور المعرفة والاسئلة تتطلب منا الأخذ بعين الاعتبار أن كلمة نص في اللغة العربية لها معانٍ تاريخية تخـــــتلف عن معاني النص في الدراسات الحديثة (text) ليخلص فيما بعد الي القرآن كان خطابات قبل أن يتحول الي نص، وهذا يتبين من خلال قراءته، فهــــناك خطاب لمجموعات مختلفة من قبيل: يا أيها الناس ، يا أيها الكافرون ، يا أيها النبي ، يا نساء المؤمنين .. وهناك بالتالي خطاب لمجمــوعات مختلفة تمر عبر استخدام أساليب متــــنوعة ما بين الجدل والتهديد والتفاوض. انها مستويات خطاب وليست مستويات نص.
واذا كان الايمان منطقة لا يجب المساس بها، فان البحث والمعرفة ومحاولة اغناء الفهم يتطلب منا ذلك لأن هناك تبعات مصيرية علي عملية الخوض هذه.