Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

 
بحث مخصص

 

المفكر السوري د. طيب تيزيني للراية الأسبوعية:
لستُ نادماً علي نشاطي السياسي لكني أعمل علي قراءة التجربة وتعميقها


تاريخ النشر: السبت2/2/2008, تمام الساعة 04:08 صباحاً بالتوقيت المحلي لمدينة الدوحة
  • ما أسوأ الحضارة إذا قادت لمحاصرة الناس وانتزاع ذواتهم منهم

  • المقهي نقطة هامة من العلاقات الإنسانية التي تعيش الآن أزمة كبيرة

  • التلفزيون العربي مثّل امتداداً لخواء النظام الثقافي والإعلامي العربي

  •  

دمشق -الراية- خالد الأحمد: يقف المفكر السوري الدكتور طيب تيزيني أستاذ الفلسفة والدراسات الاجتماعية في جامعة دمشق في الصف الأول من جيل المفكرين العرب المعاصرين، ولو ألقينا نظرة فاحصة علي أعماله الفكرية وهي مراجع يقصدها الدارسون والباحثون ممن تعنيهم دراسة الفكر العربي المعاصر وتلمس آفاقه، لوجدنا فيها خير دليل، وشاهداً صادقاً علي ما نقول .

وأمام مفكر كبير من طراز د. تيزيني يصعب الحديث عن قضايا ومشاغل بعيدة عن الفكر العربي وأسئلته أو بعيداً عن مِشْرَط الفلسفة، ومع ذلك استطعنا أن ننتزعه من مجاله الفلسفي في حوار علي "بساط أحمدي"، كما يقال، تناول حياته اليومية وعلاقته بالعائلة والمجتمع وقضايا الحياة العامة.

الراية الأسبوعية حاورت المفكر السوري وكانت البداية عن صورة الطفولة في مرفأ ذاكرته.. وكيف يراها اليوم..

يقول د. تيزيني: لعل الذكري الأولي من طفولتي الباكرة تتمثل في حدث مؤلم ألَّم بي. فقد كان من العادة أن تخزن العائلة مؤونتها السنوية من عصير الحصرم بعد غسله وغليه ممزوجاً بكمية كافية من الملح، وصبَّه بعد ذلك في طبق نحاسي كبير يبرد فيه لتعبئته في قنان أو علب مناسبة، ومن جهتي، كنت ذات يوم من أيام ذلك العمل المنزلي، وربما كان عمري آنئذ بحدود الخامسة ألعب لعبة "الغمّيضة" وحيداً في ساحة منزلنا العربي، مستمتعاً بقدرتي علي الخَطو الحذر الوئيد والمفعم بألوان ساذجة زاهية من التخيل، وإن كنت أتذكر بمرارة شيئاً مما حدث بعد لحظات من الخطو المذكور، فهو انزلاقي السريع باتجاه الطبق النحاسي والغوص فيه لهنيهات، أحسستُ بعدها أن يداً انتشلتني منه، لتضعني تحت مضخة المياه القريبة، حيث راح الماء يتدفق علي جسدي الصغير.

كانت تلك اليد، يد أخي الثاني ضمن ترتيب أخوتي من أمي، ذلك لأن الوالد كان قد تزوج خالتي، أولاً، ثم تزوج أمي بعد وفاة الخالة عن طفلين "فتاة وصبي" وقد انطلق بي أخي هذا، بإشارة من أمي وبعد اضطراب قصير حدث في العائلة إلي "أم مكاوي" المرأة العريقة المجربة والتي غالباً ما كانت تزورنا لتقدم مساعدة جادة في شئون المنزل، وأظن أنها قدمت من الخدمة العلاجية ما سكَّن من آلامي وأسهم في شفائي.

كان علي بعد ذلك الحدث أن أحذر ما أواجهه وألمسه وأفكر فيه.. "الغمّيضة" أيقظت في طفولتي الوجه المقابل لها، وهو "الفتّيحة".. ومع استمرار ذكري الحدث إياه، استمرت عملية تقوم علي "التحذير" و "الهجاء": التحذير من مسببه "إغماض العينين والسير في طريق مجهولة" والهجاء لكل انزلاق عن هذه القاعدة الذهبية. وسوف تتبلور عملية التحذير والهجاء هذه، حيث يلح عليها الأبوان "والوسط القريب" محاولين أن يعمماها علي كل المستويات الحياتية لطفل آخذ في النماء الجسمي والعاطفي والعقلي. والحق، كان الوالد أكثر حزماً من الوالدة في المطالبة بالتعميم المذكور، وهذا أمر لعله يدخل في طبائع الأمور ضمن مجتمع ذكوري، فالوالد كان واحداً من مثقفي مرحلته، يقرأ ويحاور، أحياناً بشيء من القسوة، نظراً لاقتناعه بموقفه، الذي يراه صحيحاً، والذي يسعي إلي إقناع ذويه وأصدقائه ومعارفه به.

بين الفكر والسياسة

تحضر السياسة في أعمالك الفكرية بقوة، ومع ذلك لم تمارس العمل السياسي بشكل مباشر لماذا؟.

-في الحقيقة هنالك بعض الجذور التي تشدني إلي السياسة فكراً وممارسة، فلقد أسهمت في بعض الأحزاب اليسارية التي نشأت في سوريا لفترة زمنية كنت بعدها أعود إلي العمل الفكري خصوصاً بصيغة الفكر السياسي، لذلك فالتجارب التي عشتها في أحزاب سياسية معينة كانت تقدم لي تجربة عميقة، سعيت وأسعي إلي التنظير لها في إطار الفكر السياسي العربي. وقد تعمق هذا الاتجاه لدي حين لاحظت ضرورة العودة إلي الفكر السياسي العربي في التاريخ العربي علي نحو العموم، فكتبت مثلاً بعض كتاباتي التي امتزجت باهتمام عميق بالسياسة وبالفكر السياسي.

هل يراودك شعور ما بالندم علي طروحات سياسية تبنيتها في الماضي؟

-لستُ نادماً علي ما قدمته من نشاط سياسي وطروحات سابقة، كنت قد أخذت بها في مرحلة منصرمة، لكن بالمقابل كنت منذ ذلك الحين وحتي الآن أسعي إلي إعادة بناء ذلك كله، في سياق فكري منهجي، أري أنه أكثر تقدماً، إنَّ أي فكر إذ ينشأ فإنه يستجيب لعصره، سواء أكان ناضجاً أو ساذجاً، ومن ثم لا يصح الندم هنا بالمعني المعرفي المنهجي، بقدر ما يصح العمل علي قراءة ما حدث، وتعميقه بأفق معرف أكثر تقدماً وعمقاً.

ثمة تحولات في المفاهيم والقيم.. ما مدي انعكاس ذلك علي قناعات ومفاهيم تبلورت في فكرك؟

-بطبيعة الحال إن الأحداث والتحولات التي يفرزها العصر الراهن تفرض نفسها علي كل فكر ومنهج. وهذا من شأنه أن يعني أن ما أخذت به وآخذ به من أراء نظرية ومنهجية، أحاول أن أدقق فيها في ضوء المعطيات الجديدة، وأحاول ممارسة الاستجابة التي تقوم علي استكشاف الجديد في سياق القديم سلباً أم إيجاباً، لكن دون أن يقودني ذلك إلي استسهال الموقف، عبر الزعم بضرورة القيام بقطيعة معرفية وتاريخية تامة مع ما كنتُ آخذ به، بل لعلي أقول هنا أن تاريخي الفكري بأخطائه وتصويباته، يبقي تاريخي الخاص الذي علي أن أقرأه بصورة متجددة، وعلي أساس أن هذا التاريخ هو بأحد معانيه تاريخ أخطائي، فالخطأ هنا مفهوم ينطوي علي بُعد قد يكون عميقاً من المعرفة الدقيقة، وأستذكر هنا مقولة جميلة وصائبة للفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" وهي أن العلم هو تاريخ أخطائه، بمعني ما، وبقدر ما.

بين المهنة والهواية

كيف يمضي الدكتور طيب أوقاته اليومية خارج البحث الفكري والعمل في التدريس الجامعي؟

-معظم وقتي مخصص للعمل الفكري والتدريس، وقليل من الوقت الذي أقضيه مع العائلة حيث أجد متعة كبيرة في الجلوس مع ولدي الصغيرين، ومشاركتهما إما بقراءة كتاب، أو بمتابعة برامج الأطفال، وكأني بذلك أستعيد شيئاً من طفولتي، وفي بعض الأحيان القليلة أرتاد المقاهي مع الأصدقاء.

أليست لديك هوايات أو اهتمامات أخري خارج المجال الفكري؟

-الهوايات التي أمارسها امتداد لعملي الفكري، إذ أن المهنة والهواية كلاهما مكمل للآخر، وبالتالي فحياتي ذات مستوي واحد، بوجوه متعددة، ألعب رياضة، وأسمع موسيقي بصورة مطردة، وأقرأ الأدب من رواية وشعر.. الخ، وهذا ما يجعلني أسعي دائماً وحثيثاً نحو تجلياتٍ وصيغٍ جديدة لعملي الفكري، وقد يكون السفر هنا أحد هذه التجليات الهامة، فحين أسافر أبقي في حالة من اللهاث وراء آراء وأفكار جديدة، أسمعها هنا وهناك لأنسقها وأؤرشفها علَّها تقدم مادة فكرية لبحث ما لاحق، وبهذا المعني حياتي تمتلك بعداً واحداً بأوجه قد لا تُحصي.

ذكرت أنك ترتاد المقاهي الشعبية في بعض الأحيان ما الذي يستهويك في ذلك؟

-أنا لست من رواد المقاهي ولكنني من المستمتعين إذا سنحت لي فرصة ارتيادها، وهناك عدة أسباب تدفعني إلي المقهي، منها: أنني أجد نفسي في لجة الناس، أعايشهم وأحاورهم وأراقبهم، وهذا أمر هام بالنسبة لي، وأيضاً هناك ألتقي مع أصدقاء نادراً ما أراهم، وكذلك أتعاطي النرجيلة التي تقدم لي بعض المتعة، حين أجد نفسي مدعواً للتفكير في نفسي، وفيما أنجزت، وفيما ينبغي علي أن أنجز، وضروري أن يُقال إن المقهي يمثل عادة نقطة هامة من العلاقات الإنسانية التي تعيش الآن أزمة كبيرة، ولذلك نلاحظ أنه مع تعاظم ضحالة النظام الإعلامي العربي، وتعاظم عملية التدخل العولمي في المجتمع العربي، يسعي الناس إلي التعويض عن ذلك كله، حيث يجدون في المقهي شيئاً من حميميتهم، ولكنهم قد يُفاجؤون بمستقبل قادم بأن هذه الحميمية قابلة للانتزاع أكثر فأكثر منهم، بصيغة إغلاق بعض هذه المقاهي بزعم أن الخطط الجديدة للتنمية الحضارية تستدعي ذلك، وهنا لا يسعني إلا أن أقول ما أسوأ الحضارة إذا قادت إلي محاصرة الناس وانتزاع ذواتهم منهم.

حالات ذهنية تافهة

ولكن هناك من يري في تعاطي النرجيلة عادة سيئة وقد تعطي الفكر "إجازة بلا راتب"؟

-النرجيلة تمارس وظائف متعددة بتعدد الأنماط الاجتماعية والشروط التاريخية.. فهي في حالة أولي تسهم فعلاً في تعميق حالة الترهل والفراغ الفكري والانسحاب إلي الداخل.. ولكنها في حالة أخري قد تنجز مهمة مناقضة، تقوم علي محاولة الذات محاورة نفسها، وتستدعي ما لم تستطع استدعاءه في حالات أخري من الزوايا المضمرة والمقصية، ولذلك فالنرجيلة تمارس في مثل هذه الحالة دوراً إيجابياً تحفيزياً، كما هو الأمر بالنسبة إلي الغليون الشائع في بلدان أوروبا. المسألة إذاً تتحدد في الوظائف المنوطة بهذه الأداة "الترفيهية" وبغيرها.. وعلي كل حال فأنا لا أمارس هذه الهواية إلا علي نحوٍ ضعيف لا يتعدي المرتين أو الثلاث في الأسبوع الواحد ضمن أحد مقاهي حمص أو دمشق.

هل تشاهد التلفزيون وماذا تتابع من برامج؟

-لا أري التلفزيون إلا نادراً لسببين: الأول أن من يسعي للعمل علي مسائل فكرية كبيرة ومعقدة فإنه قد لا يملك دائماً الوقت لمشاهدة التلفزيون أو للذهاب إلي ملهي أو سينما، مع أن ذلك يمثل أحد أشكال الممارسة الاجتماعية، وإحدي صيغ الكشف الاجتماعي والثقافي. أما السبب الثاني فيقوم علي أن كثيراً مما يُعرض علي شاشات التلفاز قد لا يثير الرغبة الفكرية ولا الثقافية ولا الجمالية في المشاهدة، بقدر ما يلح علي استفزاز حالات ذهنية تافهة، أو أخري حسية رخيصة، ولكنني مع ذلك أتابع ما يبث أحياناً من برامج فكرية وثقافية وسياسية تعالج ما هو قائم علي صعيد الواقع العربي أو العالمي المشخص.

الأب الثاني

يري علماء النفس والاجتماع أن التلفزيون أصبح "الأب الثاني" في الأسرة العربية. كيف تري خطورة هذا الأمر؟

-هذا الأمر يشغل الكثير من اهتمامي، فعبارة أن التلفزيون هو الأب الثاني في المنزل معبرة بدقة بقدر ما هي ذات أبعاد خطيرة علي الأقل في المرحلة العربية الراهنة، فالتلفزيون بقدرته علي إثارة المشاهد لاعتبارات عديدة، جمالية وبصرية وجنسية وسيكولوجية.. يستطيع أن يسهم في تربية هذا المشاهد، وقد كان علي علم التربية في مثل هذه الحالة أن يعود إلي مقولته الشهيرة، وهي التربية المباشرة والتربية غير المباشرة، ليستضيء بها في بحثه، فيما هو قائم من علاقات بين التلفزيون العربي ومشاهده، فالتربية غير المباشرة هي التي يصنعها التلفزيون، ولأنها غير مباشرة فإنها أكثر خطورة وتأثيراً، ذلك أن آلية هذه التربية تقوم علي كونها قادرة علي التأثير في المشاهد من حيث لا يدري، ومن ثم فإن إعادة بنائه تتم بطريقة أو بأخري، وإذا ما وضعنا باعتبارنا أن معظم ما يُطرح في الفضائيات العربية يتمثل في برامج استهلاكية، فإننا سوف نلاحظ خطورة هذا الأمر، ولعل التلفزيون العربي قد مثَّل امتداداً لخواء النظام الثقافي والإعلامي العربي، إضافة إلي كونه امتداداً للنظام العولمي الجديد، وفكرته المركزية في السعي إلي ابتلاع الطبيعة والبشر من أجل أن يتمثّلهم ويتقيأهم سُلعاً.