Arabic symbol

 

                          

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

                               

 

 

            

 

ما بعد الحداثة

  ستيفن بست ودوجلاس كلنر

 

English

 

 

 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

مقدمة البحث

 

في عالم الفلسفة والخطابات النظرية الأخرى، هناك مسارات عديدة مختلفة للتحول من الحداثي إلى مابعد الحداثي، تمثل جينيولوجيا معقدة لتداعيات متنوعة، وأحيانا متباعدة، للمجالات العلمية والثقافية المختلفة. أحد المسارات يتحرك من خلال تقليد لاعقلاني من الرومانسية إلى الوجودية إلى مابعد الحداثة الفرنسية من خلال شخصيات مثل نيتشه، هايدجر، وباتايي (Bataille) إلى انتشار النظرية الفرنسية لمابعد الحداثة. هذا المسار رسمه يورجين هابرماس في "الخطاب الفلسفي للحداثة" (1987)، وهو مسار يقود بالنسبة إليه إلى نقطة نهاية ميتة للاعقلانية وكارثة الفاشية.

تتضمن الروايات الأكثر إيجابية لجينيولوجيا تداعيات مابعد الحداثة من الناحية النظرية رحلة ريتشار كيرني (Reachard Kearny) من خلال تقدم حالات الفكر ما قبل الحداثي، الحداثي، ما بعد الحداثي إلى نجاح خيال ورؤية مابعد حداثية جديدة (1988). كذلك بشكل مغروس بعمق في النظرية الجمالية، يصف إيهاب حسن (1987) الخطوط العامة لثقافة مابعد حداثية "للاعمل" "unmaking" والتي تنبثق من خلال الحداثة، البرجماتية، والتغيرات في العلم الحديث، والتي، في أفضل الحالات، سوف تساعد على تقدم رؤية وليام جيمس لـ "عالم متعدد غير مكتمل". بدوره يحكي جون ماكجوان "John McGowan" (1991) قصة انبثاق نظريات مابعد بنيوية "poststructuralist"، ماركسية جديدة "neo-Marxist"، وبرجماتية جديدة "neo-pragmatist" لمابعد الحداثة والتي تنشأ من تقليد كانت، هيجل، ماركس، ونيتشه، تبني على، ولكنها تتعدى حدود، سابقيها. تضع العديد من التصورات عن التحول إلى مابعد الحداثة أفضلية لنيتشه وهايدجر باعتبارهما المبشرين الأساسيين للتحول إلى مابعد الحداثة والذين استحدثا حالات نقدية وجديدة من التفكير، أشكال جديدة للكتابة، وقيم تحررية (Vattimo, 1988; Kolb, 1990)، مقدمين دوران إيجابي حول التحول إلى مابعد الحداثة في الفلسفة.

 نحن نبين في هذه الدراسة كيف أن التقديرات المختلفة للفرضيات الأساسية لفلسفة الحداثة بواسطة كييركجارد، نيتشه، وهايدجر أفرزت صيغ مستفزة من الخطاب، الكتابات، والنقد مابعد الحداثي.  قامت مجموعة من المفكرين الفرنسيين في السبعينيات بالاشتراك مع مفكري مابعد البنيوية "poststructuralists" بتقديم نقد جذري لفلسفة الحداثة وأصبحوا يعرفون بمنظري "مابعد الحداثة" (بست وكلنر "Best and Kellner"، 1991). طور دريدا، فوكو، ليوتار، بودريارد، وأخرون صيغا مبتكرة ومتحدية للتفكير والكتابة، دافعين الفلسفة إلى مجالات وموضوعات جديدة. في الثمانينيات، انتشرت نظرية مابعد الحداثة في العالم، وأصبح المفكر الأمريكي ريتشارد رورتي أيضا مرتبطا بالتحول إلى مابعد الحداثة في الفلسفة. رافضين كل من الاستبعاد الإجمالي والتأكيد الحماسي لفكر مابعد الحداثة، نتبنى مقاربة جدلية تتوسط ما بين النظرية الحداثية وتلك مابعد الحداثية حتى نطور نظرية نقدية وسياسية للعصر الحاضر. نحن نجادل بأنه بينما تحمل نظرية مابعد الحداثة نقدا جذريا وبعض الأفكار البناءة لنظرية وسياسات الحداثة، إلا أنها فسدت نتيجة رفضها شديد التطرف للمنظورات المعيارية وللنظرية الحداثية، ولذلك نحن ندعو إلى التوسط بين الخطابات الحداثية ومابعد الحداثية.1

النظرية الحداثية وهجوم كييركجارد على العقل

فلسفة الحداثة كانت إلى درجة كبيرة علمانية وإنسانية، مركزة على قدرات البشر على اكتشاف الحقائق الطبيعية والاجتماعية و بناء عالمهم طبقا لذلك. يفترض المنظرون الحداثيون أن هناك نظاما وقوانين في الكون والمجتمع يمكن أن يكتشفها العقل حتى يمكن أن يتمثل ويتحكم في الطبيعة والظروف الاجتماعية. يعتبر العقل هو القدرة الإنسانية المميزة، القدرة المعرفية التي يمكن أن تمكن الإنسان من الهيمنة على الطبيعة وخلق المجتمعات الأخلاقية والعادلة. ولد الإيمان بالعقلانية خلال مرحلتي النهضة "Renaissance" والثورة العلمية في القرنين السادس والسابع عشر، وتوجت بتنوير القرن الثامن عشر، وانتصرت، بشكل لم يخل من التحدي، في القرن التاسع عشر. على أية حال، وضع مفكرو القرن التاسع عشر الرئيسيين مثل كييركجارد، ونيتشه، دعاوى العقل ونظرية الحداثة محل تساؤل، معبدين الطريق، بذلك، نحو تحول مابعد حداثي في الفلسفة.

حمل الفيلسوف الدانمركي المتدين سورين كييركجارد نقدا منهجيا لدعاوى العقل والعقلانية المجردة التي اعتقد أن العصر الحديث يغذيها. مدينا التفكير المجرد باعتباره "خطرا" يوقع الناس في شرك الإعاقات المنطقية والميكانيكية، قارنها كييركجارد بالسجن. التفكير المجرد بالنسبة له هو نوع من الأسر، رابطة لا يمكن كسرها إلا بواسطة الشعور الديني [العاطفي] الداخلي (1978، 81). التفكير يغري الأفراد بالتفكير في أن إمكانياته هي "أكثر سموا من القرارات الرديئة" (1978، ص 82). إنها تقودهم إلى الفعل "طبقا للمبادئ"، للانهماك في تدبر سياق أفعالهم وحساب قيمتها أو نتائجها. يجادل كييركجارد بأن ذلك يستبعد الإحساس، الإلهام، والتلقائية، والتي هي ضرورية بشكل حاسم للوجود الداخلي الحقيقي ولعلاقة حيوية بالإله. بالنسبة لكييركجارد، وكما سوف يتفق معه لاحقا نيتشه، الوجود الداخلي الحقيقي (والثقافة) يتميز بكونه مشدودا إلى الروح التي تميز الوجود العاطفي. ولكن "العلاقات المعقدة لينابيع الحياة... تفقد مرونتها" مع التفكير (1978, ص 78)، و"يصبح كل شيء خارجي بلا معنى، مفرغا من الشخصية [الداخلية]" (1978، ص 62).

 يساهم كييركجارد بذلك في تطوير تقليد لاعقلاني والذي سيكون له صدى في الفكر مابعد الحداثي اللاحق. يمكن أن يكون كييركجارد قد اتفق مع معاصره فيودور دوستويفسكي الذي كتب: "لا يمكن للشخص الذكي [المفكر] أن يصبح حقيقة أي شيء...الوعي الزائد هو مرض" (1947، ص 3،5). في عصر محمل بالقواعد والنظم، الفعل الحقيقي – الذي يفترض كييركجارد أنه ذاتي وتلقائي – هو محبط في كل خطوة. متذمرا من أننا "جادون وملتزمون" جدا (1978, ص 71) حتى في الولائم، ينعى كييركجارد حقيقة أنه حتى حالات الانتحار يتم التفكير فيها مسبقا. (1978، ص 68)! "أن يتوقف أو يقع شخص ما في أفعاله أصبح أمرا مستبعدا؛ بدلا من ذلك، كل شخص يجلس ويفعل عملا باهرا، هو في النهاية أخرق، بمساعدة بعض التفكير وكذلك بواسطة إعلان أنهم جميعهم يعرفون جيدا ماذا يجب أن يفعل" (1978، ص 73). وهكذا، العاطفة، وليس التفكير، التي تضمن "علاقة تواضع لائقة بين الإنسان والإنسان وتمنع العدائية الخشنة" (1978، ص 62). استبعد العاطفة وستختفي أيضا اللياقة" (1978، ص 64)".

الغموض في كلمة "عاطفة" يمكن أن يؤدي إلى بعض الارتباك هنا. القول بأنه ليس لدى العصر وأفراده "عاطفة" ليس معناه القول بأنه ليس هناك عاطفة من أي نوع، وإنما، ليس هناك روحانية داخلية حقيقية في العمق، ليس هناك أفعال لها دافع داخلي قوي وملتزم. هذا القول يقترح أن العاطفة توجد فقط في تمثيل شبه شكلي "إعادة ميلاد العاطفة" من خلال "الثرثرة" (1978، ص 64). التعبير التلقائي "Chattering" بالنسبة لكييركجارد يقف في وجه "التحدث المثالي" و"يعكس" الأحداث غير المنطقية (1978، ص 89-99). لذلك في "عصرنا الحالي" تحولت العاطفة – والتي ينطق بها في الحقيقة كثيرا – إلى قوة سلبية.2 مستبقا جينيولوجيا نيتشه المتعلقة بـ"تمرد العبد" في الأخلاقيات، يدعي كييركجارد أن "تعصب" العصر السابق للثورة، باعتباره "المبدأ الإيجابي الموحد" قد أصبح "حسدا" فارغا من المعنى، "مبدأ سلبي موحد" (1978، ص 81)، قوة مسوية مستقلة بذاتها بقدر ما أن هؤلاء الذين يفتقدون الموهبة والموارد يريدون أن يقطعوا هؤلاء الذين يملكونها.

يرجع كل من كييركجارد ونيتشه سياسات المساواة إلى حقد الدهماء للنبيل القوى. ومع ذلك يرتفع كييركجارد بشكل منتظم بالعاطفة على العقل. بالنسبة إلى كييركجارد، هناك ثلاثة مراحل للوجود – الجمالي، الأخلاقي، والديني. في كل من هذه المراحل، تعتبر العاطفة والعناصر غير العقلانية ذات قيمة أعلى من العقلانية. في المرحلة الجمالية، تقدم اللذة الحسية ذات الطعم المطبخي، الفن، والشهوة الجنسية المباهج الأرضية للحياة اليومية، وليس ميكانيكية العقل. في المرحلة الأخلاقية، يقيم كييركجارد عاطفة العزيمة، الاختيار، والالتزام على المبادئ الكونية وقدرة الحكم الأخلاقي. المرحلة الدينية، على كل حال، هي أعلى حالات الوجود بالنسبة لكييركجارد، الذي ينتصر للعاطفة اللامحدودة لاختيار الاعتقاد المسيحي، الإيمان اللاعقلاني بأسرار ومفارقات المسيحية، والحنين الذاتي للانعتاق والفداء كقلب وروح الحياة الدينية.

    أكثر من ذلك "الحقيقة هي الذاتية" بالنسبة لكييركجارد، الذي يهلل للعاطفة الذاتية والالتزام حيث تعيش الذات المسيحية في الحقيقة، جاعلا منها الصورة والجوهر للحياة اليومية. مثل هذه الحقائق الوجودية لها قيمة أكثر بكثير بالنسبة لكييركجارد من دعاوى الفلسفة والعلم. على وجه الخصوص، يتهكم كييركجارد على هيجل ودعاواه عن الحقيقة الموضوعية المطلقة التي يتم تحصيلها من خلال منظومة كلية للمعرفة. بالمثل، يسخر كييركجارد من ضمانات عقل التنوير والعلم الحديث في تقديم مناهج معصومة من الخطأ تؤدي إلى الوصول إلى المعرفة الموضوعية. مثل هذه "الحقائق" بالنسبة لكييركجارد، لم يكن لها سوى مردود وجودي محدود بالمقارنة مع متع وتبصرات الفن، واجبات الالتزام الأخلاقي، والقيمة اللانهائية وغير القابلة للتعبير للفداء الديني. 

بالنسبة لكييركجارد، الموضوع كان موناد واحدي "solipsistic monad"، يحن إلى الانعتاق والسعادة اللانهائية، معذب بالقلق والذنب، مهووس بالإله والعلو الديني. الروابط الاجتماعية، الجماعة، صور الترابط التي تقدرها النظرية الاجتماعية الحديثة باعتبارها انجازات متميزة للحداثة، مع أشكال التكامل الاجتماعي، والقيم المجتمعية، جميعها تطايرت لتصبح عصر طيفي من جمهور شبحي، يترك الفرد في خوف وارتعاش، وحيدا أمام الإله وعاطفة الاختيار الديني. لذلك، يحمل كييركجارد نقدا للعقل، التفكير، المعرفة الموضوعية، والفكر الحداثي الذي سوف يترك بصمته على التحول إلى مابعد الحداثة في الفلسفة. 


 

 

Paul Sheehan, 2004, " Postmodernism and philosophy ", in Steven Connor (ed.), "the Cambridge Companion to Postmodernism", Cambridge University Press, Pp. 20-42