Arabic symbol

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة

فلاسفة العرب

 الدكتور رشدي راشد     
 
بحث مخصص

 

الدكتور رشدي راشد (م 1936)، فيلسوف ومؤرخ العلم، ناقد أكاديمي لتاريخ العلم العربي، قدم العديد من المساهمات الهامة لتاريخ الرياضيات والعلم.

حياته

ولد رشدي حفني راشد في عام 1936م، بالعاصمة المصرية، القاهرة، حيث درس في جامعتها، ليحصل على ليسانس الفلسفة وهو في العشرين من عمره، ثم ينتقل إلى فرنسا، فيكمل دبلوم الرياضيات من جامعة باريس، وينال دكتوراه الدولة في تاريخ فلسفة الرياضيات في الجامعة نفسها. بعد ذلك شغل رشدي راشد مناصب عدة في المركز الفرنسي القومي للأبحاث العلمية عام 1965م، ومنصب مدير أبحاث الابستمولوجيا وتاريخ العلوم في جامعة دنيس ديدرو - باريس، حتى عام 2001م، ومدير مركز الفلسفة والعلوم والفلسفة العربية للعصور الوسطى حتى عام 2001م.

       أسس رشدي راشد في 1984م - وأدار منذ سنة 1993م - فريق بحوث الابستمولوجيا وتاريخ العلوم والمعاهد العلمية. نشر العديد من المقالات والأبحاث والكتب في مختلف الدوريات عن مساهمة العلوم الإسلامية والعلماء العرب في تطوير وتقدم العلوم، كما يرأس تحرير دورية العلوم والفلسفة العربية، بجامعة كامبريدج، ويشغل حالياً منصب المدير الشرفي لقسم أبحاث المستوى الرفيع في مركز البحوث العلمية الوطني في فرنسا CNRS.

          وضع رشدي راشد أكثر من 30 كتابًا، ومن أعماله المهمة إشرافه على موسوعة تاريخ العلوم العربية التي صدرت في لندن ونيويورك طبعتها الأولى في 1996م، وقد حرر فيها الأجزاء التي تقع في تخصصه المباشر، وهي الحساب والجبر والبصريات الهندسية. ومن أشهر أعماله: مدخل لتاريخ العلوم (باريس، 1971)، كتاب الجبر لديوفنطس (القاهرة، 1975)، أعمال عمر الخيام في الجبر ـ بالاشتراك مع أحمد جبار (حلب، 1981)، العلوم في عصر الثورة الفرنسية (باريس، 1984)، أعمال الكندي الفلسفية والعلمية (ليدن،  1998)، أعمال السجزي الرياضية (باريس، 2004)، فلسفة الرياضيات ونظرية المعرفة عند جول فيامين (باريس، 2005). ويلقي رشدي راشد محاضراته في تاريخ العلوم في كثير من عواصم العالم.

مواقفه السياسية

يتخذ الدكتور رشدي راشد موقفا نقديا صارما من كل من الفكر الناصري وفكر "الإسلام السياسي". وهو ينقد الفكر الذي قام في المرحلة الناصرية بدءا من عام 1952 لسبب أساسي هو كبت الحريات. ويقرر بأنه قد قرر عدم العودة لهذا السبب. كما يرى أن ذلك هو السبب الأساسي في حدوث كارثة 1967. يعبر عن ذلك في حوار مع جريدة المصري اليوم (2009) كما يلي،

كان هذا هو المناخ العام فى مصر، ليبرالية فكرية وسياسية، انتهت ملامحها مع النظام الجديد الذى جاء فى يوليو ١٩٥٢ والذى تنبأت منذ وصوله بأنه سيزيد الأمور سوءاً، رغم أننى لا أشكك فى وطنية أى من رموزه، ولكن الوطنية شىء والسياسة شيء آخر.

- فى العام ١٩٥٦ كان السفر إلى السوربون بفرنسا لاستكمال الدراسات العليا فى فلسفة العلوم.. لماذا لم تعد؟

لم يكن فى بالى وقتها أن أستقر بعيداً عن مصر، ولكن الله منحنى هبة احترام العقل، وتقدير مسؤولية وأمانة الكلمة، وحدث فى العام ١٩٥٩ أثناء اجتماع لنا فى السفارة المصرية أن كان الحديث عن الوحدة بين مصر وسوريا، فأخذت الكلمة وأكدت أن الوحدة ليست استعماراً، وأن ما بين مصر وسوريا مآله الزوال حتى لو استمر لبعض الوقت.

بالطبع غضب نظام عبد الناصر وبخاصة أنه كان من بيننا كمبتعثين، من يكتب التقارير لأجهزة الأمن فى القاهرة، وبالمناسبة منهم من يتبوأ الآن مناصب عليا فى الدولة، فجاء قرار إلغاء بعثتى، وحاولوا أخذ جواز سفرى، لكننى رفضت وأكملت الدراسة على حسابى، سافرت إلى ألمانيا وعملت كمعيد بجامعة «همبولدت» فى برلين لمدة عام ونصف تقريباً، ولكننى لم أتحمل مناخ الحياة هناك فرجعت إلى فرنسا وأنهيت رسالة الدكتوراه.

وفى العام ١٩٦٥ نظمت القاهرة مؤتمراً للمبعوثين فى فرنسا، جاءت دعوتنا للحضور إلى مصر ولقاء الرئيس عبد الناصر الذى منحنا الأمان فى السماح لنا بالعودة لفرنسا إن أردنا. فتحدث عبد الناصر، مؤكداً قوة مصر السياسية والعسكرية وغير هذا من الأمور، يومها شعرت أنه لا وجود لفكر المواطن سواء أكان مثقفاً أو غير مثقف.

فكان قرارى بالعودة لفرنسا، حيث خيرت بين العمل فى المركز الفرنسى القومى للبحوث، أو العمل فى السوربون، وقتها كان لايزال لدى تفكير فى الرجوع لمصر، فاخترت العمل فى مركز البحوث، لتكون العودة أسهل. ولكن مع وقوع نكسة ٥ من يونيو سنة ٦٧ كان قرارى بالبقاء هناك. وزاد يقينى به بعد كارثة الانفتاح التى أتت على الأخضر واليابس. فكان قرار اللاعودة.. (حوار مع المصري اليوم، 10 مايو 2009)

كذلك ينقد الدكتور راشد مشروع "الإسلام السياسي" وشعاره "الإسلام هو الحل"، باعتباره مشروعا خياليا وباعتبار أن هذا الشعار لا يعبر عن مضمون أو برنامج سياسي. يظهر ذلك في حواره مع مجلة الأهرام العربي (2008) كما يلي،

‏-‏ في هذه اللحظة المفصلية هل كان المشروع الإسلامي معوقا لهذه النهضة أم كان جزءا منها؟

أولا ليس هناك مشروع إسلامي‏، هناك عدة مشاريع إسلامية،‏ منها المشروع الإسلامي السلفي،‏ ومشروع الإخوان المسلمين‏،‏ وهناك نوع من الليبرالية التقليدية المصرية‏،‏ التي هي مثقفة ومسلمة‏.‏ الإسلام السياسي هو مشروع خيالي وأعرف أنها كلمة قاسية فليسامحني من يقرأها‏، هو مشروع بدون مشروع‏، وعندما تقول إن الإسلام هو الحل،‏ فأنت لم تقل شيئا،‏ فهو حل ماذا؟ حل للمشكلة الاقتصادية‏..‏ التعليمية‏..‏ الاجتماعية‏،‏ حل مشكلة توازن القوي في العالم،‏ حل مشكلة إسرائيل،‏ حل مشكلة المهزلة والجريمة التي تحدث في العراق‏،‏ أي حل من هذه الحلول‏،‏ وما الإمكانيات والوسائل‏، هذه عبارات جوفاء‏،‏ وليس وراءها برنامج بالمعني الحقيقي للكلمة‏، ولا تحليل للمجتمع،‏ ولا للفترة والعصر ولا لميزان القوي‏،‏ أنا لا أقول بإتباع التهادن أو ما يقوله الآخرون إطلاقا‏،‏ ولكن هذا شكلي شعبي في الحديث عن الإسلام‏،‏ فيه شعاراتية وليس فيه مشروع‏.‏ (الأهرام العربي، 9 فبراير 2008)

 

أوسمة وشهادات تكريم

حصل الدكتور رشدي راشد على جائزة الملك فيصل العالمية عن الدراسات الإسلامية للعام 2007، كذلك حصل على العديد من الجوائز في مجال تاريخ فلسفة العلوم، ومنها؛ ميدالية الرئيس الفرنسي للإنتاج العلمي عام 1989م، وميدالية الأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم (ميدالية ألكسندر كويري) عن أعماله عام 1990م، وميدالية مركز بحوث التاريخ الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي، وجائزة أفضل كتاب في البحوث الإسلامية من رئيس الجمهورية الإيرانية، لأعماله عن تاريخ العلوم العربية في عام 1998م، وجائزة وميدالية مؤسسة التقدم العلمي الكويتية التي منحها له أمير الكويت عن أعماله في تاريخ الهندسة عام 9991م، وجائزة ابن سينا الذهبية من فيدريكو مايور، المدير العام لليونسكو «عن مساهمته في التعريف بالثقافة الإسلامية باعتبارها جزءًا من التراث الثقافي العالمي ولإذكاء الحوار بين الثقافات المختلفة» عام 1999م، وجائزة مركز البحوث العلمية الوطني في فرنسا CNRS عام 2001م.

 

فلسفته

جوهر الفكر الفلسفي للدكتور رشدي راشد هو فلسفة التاريخ وفلسفة العلم، والعلاقة الفلسفية بينهما. والرابط بين هذين الجانبين هو المنطق والرياضيات. فالتاريخ هو أحد موضوعات الفلسفة، وفي ذات الوقت هو أحد موضوعات العلوم الاجتماعية. وبصفته فلسفة يخضع للعقلانية وللتنظير الفلسفي، ويرتبط من حيث كونه كذلك بفهمنا لفكر الحداثة وللمستقبل الإنساني. وبصفته علما يخضع لفلسفة العلم ولتطبيق المنهجيات العلمية الحديثة. والأداة المنهجية الأساسية في الفلسفة الحديثة هي المنطق، في حين أن الأداة المنهجية الأساسية للعلم الحديث هي الرياضيات، لذلك يجب أن يخضع التاريخ بصفتيه الفلسفية والعلمية للمنطق والرياضيات.

يعتمد الدكتور راشد في فهمه وتحليله للتاريخ على فكرة "التقاليد" "tradition"، فالتطورات التاريخية، من الناحيتين الفلسفية والعلمية، تعتمد على ظهور تقاليد فلسفية وعلمية جديدة تؤشر على ظهور هذه التطورات وانتهائها. لذلك يعتمد تحليله التاريخي من الناحيتين الفلسفية والعلمية ليس على المقارنة الصورية للنماذج التاريخية المختلفة، وإنما على التحليل المجتمعي التفصيلي للظروف المصاحبة لظهور التقاليد التاريخية المختلفة. لذلك يمكن القول بأن التحليل التاريخي للدكتور راشد ينتمي بشكل أساسي إلى مجال علم اجتماع المعرفة الذي يربط بين الوقائع والشروط الاجتماعية والتاريخية وبين نشوء وتطور المعرفة العلمية.

وقد طبق الدكتور راشد وطور هذا المنهج على ظهور وتطور العلم العربي/الإسلامي القديم، وعلى بيان علاقته التطورية بالعلم اليوناني السابق عليه والعلم الغربي الحديث اللاحق له. وأمكن له بواسطة هذا المنهج أن يكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم العربي/الإسلامي وللمجتمعات العربية/الإسلامية التي أنتجته وكيفية تميزه عن العلوم السابقة واللاحقة عليه. كما أمكن له أن يثبت نوعا من الاستمرارية والتطور في الفكر العلمي عموما، وفي العلاقة بين الفكر العلمي العربي/الإسلامي القديم والفكر العلمي الحديث خصوصا. وهو ما غير من نظرة المجتمع العلمي الإنساني المعاصر لتاريخ العلم وللعلاقات المجتمعية المؤدية إلى نشأة العلم، وأدى كذلك إلى احتلال العلم العربي/الإسلامي القديم مكانا أساسيا فيه.

المشروع الفلسفي

على هذا الأساس يتكون المشروع الفلسفي للدكتور راشد من شقين، مشروع عام يعبر عن المستوى العمومي لهذا الفكر، ومشروع خاص يعبر عن التطبيق التاريخي له. المشروع العام هو صياغة التصورات النظرية لكيفية تطبيق الرياضيات على العلوم الاجتماعية عموما والتاريخ خصوصا. أما المشروع الخاص فهو تطبيق لهذه التصورات على تاريخ العلم العربي/الإسلامي القديم.

في مناقشة جاءت في مقدمة كتاب بعنوان "من زينون الإيلي إلى بوانكرييه: مجموعة دراسات مهداة إلى رشدي راشد"، عام 2004، يشرح الدكتور راشد تصوراته عن مشروعه العام كما يلي،

عندما أتيت إلى باريس، كان هناك أستاذين يعلمان في السوربون المنطق وفلسفة العلم، رينيه بوارييه "René Poirier" و جورج كونجيلام "Georges Canguilhem". قمت بتسجيل موضوع البحث مع رينيه بوارييه، فقد أردت أن أعمل على موضوع كان في صيغته الأولية، "موضوعية القوانين السوسيولوجية"، والذي تحول بعد ذلك، ليكون حول ترييض المذاهب غير الصورية "la mathematization des doctrines informes". بعد سنتين، أقنعني أحد أصدقائي بأن أذهب إلى "معهد تاريخ العلم"، هذا كان عام 1959، حيث بدأت عملي مع جورج كونجيلام حتى سفري إلى ألمانيا. (مناقشة مع رشدي راشد، 2004، VII)

ويشرح الظروف المصاحبة لظهور مشروعه العام ثم بعد ذلك الجانب الخاص له كما لي،

سوف أعود إلى وقت مبكر نوعا ما، إلى وقت تكويني كشاب. أعود إلى هذه الوقت من أجل أن أقول أن اختياري الأول للموضوعية في العلوم الاجتماعية كان ناتجا عن اشتراك بين انشغالي بالمنطق، والذي بدأ أن يكون أساسيا بالنسبة لي ومشروع شاب مصري، يعيش في بيئة حيث يمكنه أن يتحدث عن كل الأنظمة، الفلسفية أو الاجتماعية، والذي رفض أن يكون ماركسيا. هذا الموضوع سوف يتحول سريعا تحت تأثير الرياضيات ليكون عن "رياضيات الأنظمة غير الصورية". كان ذلك أيضا عندما بدأت العمل في نظرية الاحتمالات مع صديقي صلاح أحمد، الذي كان متخصصا في الاحتمالات، والتي أخذتها بجدية في عملي في الرسالة. السؤال الأساسي، كما يوحي العنوان: ضمن أي معيار يمكن أن نطبق الرياضيات على مجال مثل هذا، ما هي الشروط والاحتمالات لتطبيق الرياضيات على مجال يفتقد لنظرية ناضجة، أي مفاهيم دقيقة محكمة، سواء في تركيبها النحوي أو في صياغتها المعنوية؟ هذا كان السؤال، بالنسبة إلي، أردت أن أتعامل مع مجال يفتقد إلى النظرية، وهو "العلوم الاجتماعية". العلوم الاجتماعية كانت المجال المعاصر الذي يسمح بحل هذا السؤال والرد عليه. كنت فعلا مقتنعا بأنه من أجل أن أعمل في الإبيستيمولوجيا، هنا والآن، ولكي لا أكرر العمل الذي تم من قبل، كان مثل هذا السؤال هو الذي يجب أن يطرح. بعيدا عن خبرة العمل في علم الاجتماع، السيكولوجيا الاجتماعية، والاقتصاد، أخذت أيضا دبلوما في الاقتصاد كوسيلة لوضع السؤال في عموميته من وجهة النظر الفلسفية. عملت تقريبا في كل التطبيقات الرياضية في السيكولوجي، عملت أيضا في التحليل العاملي "factorial analysis"، والذي كان عملا شاقا. في هذا الوقت كتبت كتابي عن كوندورسيه، والذي مثل الجانب التاريخي للعمل، في حين مثلت دراساتي عن توجيه الإنسان البرنولي "la conduite de l’homme bernoullien"، الجانب الإبيستيمولوجي. في هذا الإطار، السؤال الأكثر أهمية هو التالي: هل هناك مواقف تاريخية متماثلة؟ بمعنى آخر، ليس يكفي أن نقوم بهذا العمل من زاوية مقارنة: ليس كافيا أن نجد مثالا هنا، ومثالا هناك، وأن نحللهما، ولكن يجب أن نعيد تشكيل كل التقليد في هذا المجال، وهو ما يعني كل تقليد تطبيق الرياضيات على الحقيقة الاجتماعية؛ وهذا يبين لماذا رجعت إلى القرن الثامن عشر وإلى وآخرين مثل كوندرسيه. وهذا كان في نفس الوقت عملا في التاريخ وفي التفاضل الاحتمالي، واستكملت مثل هذا النوع من العمل من برنولي. لقد كتبت في هذا الموضوع حوالي 600 صفحة، لم تنشر أبدا"... بعد ذلك رأيت أن أجعل البحث المكمل "thèse complémentaire" عن الحسن بن الهيثم. مشروعي الأول في البحث المكمل اعتمد على فكرة الكلية "totalité"؛ الثاني إرنست كاسيرر، ولكن بدلا من عمل البحث في تاريخ الفلسفة، فضلت أن أقترح على كونجيلام بحث مكمل عن الحسن بن الهيثم؛ فقبل على الفور الموضوع بعنوان: "بصريات ابن الهيثم، مشكلات الانقسام بين تاريخ وما قبل تاريخ العلوم". بذلك يكون بحث الدكتوراة مزدوج الموضوع: "ترييض النظم غير الصورية وبصريات ابن الهيثم"  (مناقشة مع رشدي راشد، 2004، X-XII)

 ومن جانب آخر، يكشف الدكتور راشد، في حواره مع جريدة المصري اليوم، عن العلاقة بين مشروعه في تحقيق النصوص العربية وبين الظروف السياسية كما يلي،

لماذا بدأت فى العام ١٩٦٧ دراسة التراث العربى الذى أصبحت مرجعاً أساسيا له فى أوروبا والعالم كله الآن؟

- بعد وقوع كارثة الهزيمة أمام إسرائيل أصابتنى صدمة، لا أعرف إن كنت تخلصت من آثارها حتى الآن أم لا. ولكننى أدركت أن ما لدينا من نظام لا يولد سوى تلك الهزيمة، كان قرارى البحث فى التراث العربى العلمى والعقلى الذى بنى حضارة على مدار ٤ قرون، لأبنى حضارة جديدة نستند عليها كعرب فى حاضرنا، لأننى أيقنت أن النكسة كانت هزيمة حضارية لا عسكرية. لم تكن هناك جهة تمويل، كان عملى فردياً منهجياً، قمت فيه بتحقيق كتب علماء العرب الرياضيين، وترجمت المخطوطات العربية إلى الفرنسية، وشرحتها تاريخياً وفلسفياً ورياضياً وعلقت عليها، وباتت لى مدرسة تضم عدداً من التلاميذ أغلبهم فرنسى، واثنان من المغرب العربى، وأسفر ما قمت به عن إحياء تراث ابن الهيثم، والخوارزمى، والكندى، وعمر الخيام، وقدمت عنهم حقائق تاريخية لم تكن معروفة من قبل. (المصري اليوم 10 مايو 2009)

أولا: منهجه

يعتمد الدكتور راشد في تحقيق مشروعه الفلسفي بشكل مركب على عدد من الأسس المنهجية تتضافر مع بعضها البعض لتشكل منهجيته في العمل. فإلى جانب اعتماده المنهج التحليلي المنطقي والرياضي والتاريخي للقضايا المجتمعية والتاريخية محل البحث، والذي يمثل جوهر فكره الفلسفي، يعتمد أيضا على منهج التحليل الاجتماعي للكشف عن البني والشروط الاجتماعية التي تؤدي إلى ظهور التقاليد العلمية والفلسفية. كما اعتمد في مشروعه الخاص على منهجية خاصة بتحليل النصوص ونقد المخطوطات. كذلك اعتمد على النظرة التطورية للعلم وعلى التحليل الرياضي التخصصي الدقيق  للمجالات العلمية التي تتبع كيفية ظهورها تاريخيا. 

1- التحليل الاجتماعي للظاهرة العلمية

يشرح الدكتور راشد منهجه في ضرورة الكشف عن الوقائع والعلاقات المجتمعية التي تكمن خلف ظهور المعرفة العلمية كما يلي،

الحقائق العلمية، حتى على الرغم من أنها كونية، إلا أنها من نتاج الإنسان. الإنسان يعيش في مجتمع مكون من مؤسسات. على المستوى التاريخي، العلوم هي نتاج المجتمع، ولكن على المستوى الإبيستيمولوجي، هي كونية، وفي ذلك لا نستطيع أن نفعل شيئا. هناك موضوعان أحاول أن أدافع عنهما، هذا الموضوع وموضوع الانحدار: لماذا في وقت معين هناك، في مجتمعات معينة، يحدث انحدارا معينا؟ هذه هي الأسئلة التي توضع عادة بشكل غير جيد، والتي تتطلب، من أجل أن توضع جيدا وأن نتقدم في فهمها، الجمع بين عدد من القدرات. سوف تتطلب التعاون بين التاريخيين من كل التخصصات: مؤرخو الحقائق العسكرية، مؤرخو الحقائق الديموجرافية، مؤرخو العلم، ومؤرخو الاقتصاد. على سبيل المثال، سوف نحتاج دراسة تفصيلية لتاريخ التجارة في العالم بين القرنين الخامس والسابع عشر، وسوف يكون من الضروري أن نربط كل ذلك ببعضه. من أجل إنهاء مثل هذا البرنامج سوف نحتاج إلى مؤسسات، من الضروري أن نشكل الناس، نحن الآن حرفيين. من أجل فهم العلاقة بين العلم والمجتمع، سوف يكون من الضروري أن نبدأ بمعرفة ما الذي كان يشبه العلم، الآن في الحقيقة لا نعرفه. نفس الشيء بالنسبة للانحدار، قبل الاضطلاع بدراسة الانحدار العلمي من المهم بداية أن نعرف انحدار ماذا. (مناقشة مع رشدي راشد، 2004، XXV)

2- العلاقة بين الفلسفة والرياضيات 

 يربط الدكتور رشدي في منهجه بين الرياضيات والفلسفة، ويشرح العلاقة بينهما كما يلي،

لبضعة أعوام نشرت عدد أكبر من الدراسات عن العلاقة بين الرياضيات والفلسفة، كيف وجدتها؟

هذا مجال واسع بالكاد بدأت في وضع خطواتي الأولى فيه. يقرأ المرء عادة هنا وهناك ملخص لبعض الأفكار للفلاسفة عن الرياضيات أو ذلك للرياضيين في علاقتهم بالفلسفة. هذه الإشكاليات هي إشكاليات ضعيفة. السؤال يجب أن يوضع بشكل مختلف، تحت سمتين مشتركتين: ما هو الجزء الحي من الفلسفة في الرياضيات؟ هل هذا الجزء الحي هو عمل الفلاسفة، الرياضيين، الرياضيين-الفلاسفة، أو الفلاسفة الرياضيين؟ السؤالان ليسا مستقلين عن بعضهما البعض. ما هو المكان أو ما هي الأمكنة حيث تلتقي الرياضيات بالفلسفة حقا؟ لقد طرحت على نفسي هذه الأسئلة. بالنسبة للسؤال الثاني، نجد أنفسنا في مواجهة احتمالين: إما أن يستدعي المرء الفلسفة من أجل حل، أو الاعتقاد في حل، المشكلات الرياضية، أو أن يستعمل الرياضيات لحل المشكلات الفلسفية. ثم حاولت أن أجد مثالا لكل من هذه المشكلات التي تم التعامل معها بواسطة رياضيين أو فلاسفة، ولكن في الحقيقة هي عادة ما يتم التعامل معها بواسطة رياضيين-فلاسفة. هذا بدأ بدراسة منحنيات التماس "asymptote" واستعمال التصورات الفلسفية للتفكير في طبيعتها الغامضة. ثم درست بعد ذلك المذاهب الميتافيزيقية للفيض "emanation" واستخدام تحليل التوافيق "combinative analysis" من أجل التفكير في الاحتمالات تحت شروط معينة. قمت ببعض المحاولات، لا شك جزئية، لمعرفة ما هي تصورات الفلاسفة عن الرياضيات، ما هي التصورات، على سبيل المثال، التي اعتمدوا عليها في تصنيف العلوم أو تكوين أنطولوجياتهم. هذه المحاولات تصنع الاعتقاد بأن فلسفة هذا الوقت لا ترد إلى نظرية في القلب، ولا إلى نظرية في الوجود، وإنما هناك فلسفة العلوم كما يتم تصورها اليوم، خصوصا فلسفة الرياضيات والتي هي جزء جوهري في الفلسفة. (مناقشة مع رشدي راشد، 2004، XXI-XXII)

3- مفهوم عالمية العلم

يمثل مفهوم عالمية العلم عنصرا أساسيا في منهج الدكتور راشد. وهو بذلك ينقد ويرد على المركزية الغربية التي ادعت أن العلم لم ينشأ سوى في الغرب سواء اليوناني القديم أو الأوروبي الحديث. كما ينقد من خلال منهجه هذا المفهوم النقيض القائل بالاختلاف الجوهري للعلم العربي باعتباره مرتكزا على الدين الإسلامي، أي مفهوم إسلامية المعرفة. ويرد المعرفة بدلا من ذلك إلى الشروط الاجتماعية المصاحبة لإنتاجها في إطار من صورة عالمية تطورية للعلم. في حواره مع جريدة المصري اليوم يوجز هذا المفهوم كما يلي،

العلوم تراث إنسانى وعالمى، والغرب بدأ الاهتمام بتاريخ العلوم العربية منذ الخمسينيات، وأكبر جزء فى التراث العربى، هو الخاص بالعلوم، التى لا تعتمد على التصديق بل البرهان، وهو ما يعنى أن أى فرد يمكنه التعامل مع نتائجها مهما كانت أيديولوجيته التى يؤمن بها. فما انتقل لأوروبا من حضارة العرب، هو العلوم والفلسفة، وكذلك كان ما وصل من حضارة اليونان للعرب، فترجموه ودرسوه وأضافوا عليه.

وهذا هو مفهوم عالمية العلم، وما فعلته أنا وزملائى، كان بدافع أن الجزء العربى فى العلوم لم يأخذ حقه من البحث والتطوير، وهذا ليس خطأ العرب وحدهم، بل خطأ شارك فيه الاستعمار الذى علمنا منذ سنوات طويلة أن العلوم أوروبية المنشأ والتطور والمصير، وهو أمر يجب أن ينتهى ولن يحدث هذا بالخطب ولكن بالعمل العلمى والبحثى. (المصري اليوم، 10 مايو 2009)

ومفهومه للعلوم هو مفهوم شامل يربط بين العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية، لذلك يعتمد منهجه على الترابط بين هذه المجالات العلمية المختلفة، في حواره مع مجلة العربي الكويتية (2007) يقول،

 هذا التناقض غير مجد، ان التاريخ بذاته لا فائدة منه إن لم يكن يحث على تجديد الفكر وعلى البحث العلمي، ودون هذا فلا فائدة منه، فليس هناك تناقض. فلايمكن أن تبحث في مجال وتنسى آخر. مثال على ذلك في عام 820 ظهر علمٌ جديد وهو علم الجبر وحتى أفهم ظهور هذا العلم تدخل العلوم الانسانية أولا ـ بمعنى أنه لفهم كيفية ظهور علم الجبر لابد من العودة إلى علم اللغة، وعلم الفقة ـ فحين تدرس تاريخ العلوم فإنك لا تدرس وقائع فقط، بل تدرس فكرة علمية، وفلسفة علمية، وتدرس مضمونًا علميا وأشياء عديدة في الوقت نفسه. فليس هناك تناقض بين تدريس التاريخ العلمي والتجديد باللحاق في العلم الجديد. (حوار مجلة العربي الكويتية، إبريل 2007)

4- التحليل الرياضي للكشف عن التقاليد العلمية 

يعتمد الدكتور راشد في تحليله التاريخي لنشأة وتطور التقاليد العلمية على منهج خاص هو البحث في تطور هذه التقاليد من داخل البحوث العلمية ذاتها، وتتبع بنياتها ونظامها حتى يتمكن من اكتشاف المعالم العلمية لهذه التقاليد. يظهر ذلك من استعراضه التالي لمعالجته للتقاليد العلمية لترييض الجبر،

مع السموأل، الفكرة التي خطرت لي، وهذا مهم جدا بالنسبة لي، هي تلك الخاصة بترييض الجبر "mathematization of algebra". بمعنى آخر، في وقت معين، يقوم المرء بتطبيق معاملات الرياضيات على التعبيرات الجبرية، وبهذا يحدد مفهوم "تعدد الحدود" "polynomial"، من أجل ضمان شروطها وفحص ما يترتب عليها. وأعتذر عن قول ذلك، لم ير أحدا ذلك من قبل. كان هناك استنتاج، والذي كان كذلك مهما جدا، وهو أن نعرف أنه في تاريخ الجبر هناك تقاليد: من أجل فهم السموأل من الضروري فهم الكرجي، ومن أجل فهم الكرجي من الضروري فهم أبو كامل والخوارزمي. هناك تقليد بدأ مع الخوارزمي وانتهى بهذا التطور: ترييض الجبر وتطوير التفاضل المجرد. ما التحولات التي مر بها هذا التقليد؟ أين يمكن تعيين وقت انتهائه؟ وهكذا ذهبت بشكل تلقائي تماما إلى الجبر الإيطالي، وتجاه الألماني "كوسسيستس" "Cossists"، وحتى "ستيفل" "Stifel" الذين لم يفعلوا شيئا يزيد على ما فعله متخصصي الجبر العرب. في فصل أو آخر، يمكن للمرء أن يتبين مسار معين؛ على سبيل المثال، إذا أخذنا كتب الكرجي، هي تنتهي بفصل عن التحليل الديوفنطي. وإذا أخذنا كتيبا في الجبر لأويلر "Euler"، سوف نلاحظ نفس العملية. احذر! أنا لا أقول أويلر هو الكرجي. ولكن أقول بأن هناك تقليد، أو أقول أن هناك آخرين منهم، أو لا يوجد، في كل مرة هذه نقطة للبحث. هناك تقليد، ذلك الخاص بالجبر؛ هناك تقليد آخر هو الخاص بالهندسة الجبرية، وسوف يقوم المرء بالنظر فيه بنفس الطريقة متى بدأ، بأي أسلوب استمر، وأي تحولات مرت به. لقد بدا لي في الحقيقة مدهشا أن شخصا مثل الخيام لم يكن له سابقين أو لاحقين. إذا لم يكن هناك عقلانية في التاريخ، إذن يتوقف المرء عن صنع التاريخ، يفعل شيئا آخر. هذا الاعتقاد هو الذي سمح لي بأن أكتشف عمل شرف الدين الطوسي بعد الخيام. (مناقشة مع رشدي راشد، 2004، XV-XVI)

5- التحليل التاريخي للكشف عن التقاليد العلمية

من جانب آخر يعتمد منهجه على التحليل التاريخي للكشف عن نقاط البدء والنهاية للتقاليد العلمية، ويشرح ذلك كما يلي،

عندما يبحث المرء عملا من أجل الحكم على مدى جدته، حيث أن التقاليد التي يقوم عليها هذا العمل تمتد عبر فترة زمنية طويلة، السؤال يطرح نفسه، ذلك الخاص بمعرفة متى توقفت هذه التقاليد. إضافة إلى ذلك، حيث أنه يوجد تشابه قوي بين ما قامت به تلك الرياضيات الخاصة بالقرن الحادي والثاني والثالث عشر، والعمل الخاص برياضيات معينة في القرن الثامن عشر، يرفع المرء السؤال فورا: هل النتائج التي تم التوصل إليها في القرن السابع عشر هي امتداد طبيعي للعمل في القرنين الحادي والثاني عشر؟ هذان السؤالان متعلقان ببعضهما البعض. من أجل إيضاحهما: إذا كان هناك شيئا جديدا، أين يجب وضعه بالضبط؟ على سبيل المثال، من أجل جعل الفكرة أكثر وضوحا، إذا قلت أن ما هو جديد لدى فرما في نظرية الأعداد هو أنه حولها إلى نظرية جبرية، هذا لا يفسر لماذا توصل فرما إلى نتائج جديدة. لماذا؟ لأنه هذا التحويل الجبري كان قد تم عمله قبل فرما. هكذا السؤال هو أن نعرف ما هو محدد، ما هو الجديد حقيقة عند فرما وما الذي مكنه من الذهاب بعيدا. على أية حال هذا الشيء موجود، هو منهج الانحدار اللانهائي "infinite descent". بالنسبة لديكارت الأمر مماثل، يمكن إذا أن نستخدم الخيام من أجل تفسير بعض الحقائق، على سبيل المثال، حقيقة أن ديكارت يتكلم عن المنحنى الجبري غير المحدد، في حين أن الخيام يبقى في مستوى المنحنى المخروطي. السؤال إذن يمكن وضعه كما يلي: ولكن لماذا في هذه اللحظة يأتي هذا الشيء؟ بهذا المعنى، معرفة الرياضيات العربية، في رأيي، هو أمر ضروري مطلقا، في نفس الوقت، من أجل وضع هذه الأسئلة – لأنه لا أحد يضعها – ومن أجل تحديد الإبداع بدقة؛ عندما تعرف ماذا فعل الآخرون، هذا يمكنك من أن تعرف إذا كنت لازلت في هذا التقليد أم أنك قد تجاوزته. على سبيل المثال في العمل الذي ترجع إليه، أصررت على التمييز بين المنحنيات الميكانيكية والمنحنيات الهندسية عند ديكارت؛ سوف لا أعود إلى التفصيلات التاريخية، ولكن هناك شيئا ملموسا. وهكذا، ضع جانبا الاهتمام بتاريخ الرياضيات العربية في ذاته، لا يمكن للمرء حقا أن يفهم رياضيات القرن السابع عشر بدون معرفة هذه الرياضيات. هكذا، عندما نتحدث عن هؤلاء الذين عرفوا القرن السابع عشر جيدا – هنا أفكر بشكل خاص، بكل الصداقة، عن شخص أكن له كل الاحترام، جان إيتار- لا يمكنني أن أتفق معه عندما يقول أن إبداع فرما يكمن في تحويله الجبري لنظرية الأعداد، بالوضع في الاعتبار ما أعرفه من ارتباط بما حدث قبله. (مناقشة مع رشدي راشد، 2004، XVII-XVIII)

6- تحقيق المخطوطات

إضافة إلى التحليلات الرياضية والتاريخية للنصوص التي أنتجت وطورت التقاليد العلمية أنشأ الدكتور رشدي منهجا مميزا لنقد النصوص والمخطوطات خاصا بالمخطوطات العربية والعلم العربي. يشرح ذلك الدكتور شدي كما يلي،

كتب كتاب السموأل بهذه الطريقة، ثم رأيت تقريرا بواسطة شخص لا يعرف من العربية سوى القليل، يلعب دور العالم، لا يقول الحقائق، الخ؛ رغم ذلك فقد كنت مندهشا منه. وهكذا عرفت أهمية أساليب التجميل في الكتابة. لم أصبح حقيقة مهتما بهذا العمل حتى اكتشافي لكتاب ديوفنطس في بدايات السبعينات. بدأت في معالجة ديوفنطس بنفس الطريقة، ثم أدركت أنني إذا استمررت في العمل بهذا الأسلوب سوف ببساطة أخرب عملي. فقط في المرة الثانية عندما بدأت في الحقيقة في فهم أهمية تاريخ النصوص ونقد المخطوطات، كما كان الحال بالنسبة لمخطوط ديوفنطس. مع ديوفنطس تبينت أهمية كل ذلك: إذا تغيرت كلمة واحدة، خصوصا عندما تكون عن ترجمة من الإغريقية، يمكن لذلك أن يكون له تأثير كبير. في هذا الوقت، رغم أنه كان متأخرا قليلا، أصبحت على دراية بأنه من الضروري الارتكان بجدية على تحقيق المخطوطات. كذلك أدركت أنه كان من الضروري إيجاد قواعد خاصة لتحقيق المخطوطات للنصوص العربية، لأنه من الضروري التحكم في المعايير المتعلقة باللغات الإغريقية واللاتينية. ولكن أيضا من الضروري مع الوضع في الاعتبار الظروف الخاصة لكل لغة ولكل تقليد أن نجد قواعد مناسبة لتحقيق النصوص العربية: أشكال الأدوات الهامة، متطلبات الكتابة بالعربية، الخ. هذا العمل بدأ مع ديوفنطس ومنذ ذلك الوقت لم أتوقف عن تطوير وتدقيق هذه المعايير... لقد كان اختيارا فرض نفسه. أتذكر كل مرة أقيم فيها ندوة في المعهد، أقمت على الأقل ستة منها كل عام، وأقدم شيئا مستخلصا من النصوص شخصا قال لي: الدليل؟ قلت الدليل! تعلم العربية. عندها أدركت سريعا أنه من أجل تقديم هذا الدليل كان من الضروري أن أشكل حقا مكتبة كاملة من النصوص الأساسية إذا كنا نريد أن ننشئ هذا المجال: ضع جانبا مسألة الرد على السؤال، كان الشعور الداخلي هو الذي أدى إلى هذا العمل، وبذلك كان من الضروري أن أوضع في قلب عملية النشر. أعترف بأنني فعلت ذلك دون حماس، لقد اعتبرت ذلك دوري؛ ولكن في أوقات معينة في تاريخه لا يقوم الشخص بتقرير الأعمال التي يجب أن ينجزها، كل فترة تفرض متطلباتها. كان يجب أن يتم إنجازها، وقد أنجزتها! وهكذا أنا محرر على الرغم مني. (مناقشة مع رشدي راشد، 2004، XIV-XV)

ويرى راشد أن تحقيق المخطوطات له شروط عدة، وأنه قد اضطر إلى القيام بهذا العمل نظرا لغياب الاهتمام به سواء في الغرب أو في الشرق، في حواره مع مجلة الأهرام العربي يقول،

أنا لا أحقق مخطوطات لأنني أساسا مؤرخ وفيلسوف علوم‏,‏ وتحقيق المخطوطات كان مصادفة في حياتي‏,‏ فقد عملت في حساب الاحتمالات وتطبيقه علي الأمور الاجتماعية‏,‏ وهذا كان موضوع رسالة الدكتوراه‏,‏ واهتممت بالعلوم العربية لأسباب عدة منها الهزيمة النكراء في‏1967,‏ وعندما كنت أخبر الآخرين ببعض تفصيلات العلوم العربية‏,‏ كان الناس لا يصدقون‏,‏ وهنا بدأت فكرة تحقيق المخطوطات لدي وترجمتها والتحليل والتأريخ لها‏,‏ وقد وجدت أن ما يتم تحقيقه لا يخرج عن إعداد الكتاب للنشر دون تحقيق علمي سليم‏,‏ ولا تأريخ للعلم المحقق فيه ولا تحليل له‏,‏ وليس هناك الأسس العلمية للتحقيق كما يتم في الإنجليزية واليونانية وغيرها‏,‏ وحاولت من جهتي تحقيق هذه الأسس فيما أحققه‏..‏وتحقيق المخطوط العلمي يستلزم ما يلي‏:‏ أولا تكوين معرفة جيدة بتاريخ العلوم‏,‏ ومعرفة جيدة باللغات حديثة وقديمة‏,‏ ثم التكوين العلمي‏,‏ فالذي يحقق رياضيات لابد أن تتوافر لديه علي الأقل دراسة أكاديمية في هذا العلم‏,‏ ويأتي بالإضافة إلي ذلك التمرس في التفكير الفلسفي والمذاهب الفلسفية المتعددة‏,‏ حتي لا يقف علي مجرد التحقيق‏,‏ ويذهب إلي أبعد‏,‏ ولهذا أنشأت معهدا داخل جامعة باريس السابعة لهذا العمل‏,‏ وكونت مجموعة لدراسة تاريخ العلوم العربية وعلوم العصور الوسطي اللاتينية والعربية‏,‏ وهذا المعهد وهذا التكوين العلمي لمحقق المخطوطات العلمية ليس موجودا في أي بلد عربي‏. (الأهرام العربي، 9 فبراير 2009)

ثانيا: تاريخ العلم

تمثل مراجعة وتصحيح تاريخ العلوم الإسهام الأكبر للدكتور رشدي راشد في الفكر العلمي والفلسفي المعاصر. وليس ذلك من زاوية الدفاع عن الحضارة العربية/الإسلامية وإبراز دورها في التطور الحضاري الإنساني وإنما من الزاوية الموضوعية من حيث التوصل إلى فهم أدق وأسلم لتاريخ العلوم الإنسانية، عموما، ولكيفية نشأة العلوم الأوروبية الحديثة، خصوصا. فبحسب راشد لم تكن هناك حداثة واحدة، وإنما أكثر من حداثة، أحدها هو الحداثة العربية/الإسلامية والتي انتشرت فيها العلوم. كذلك مثل العلم العربي أول ظهور للعلم بالمعنى العالمي، بحيث اندمجت الثقافات العالمية في بوتقة العلم العربي وأصبح للعلم لغة هي اللغة العربية. يسمي راشد هذه المرحلة بمرحلة العلم الكلاسيكي ويرى أنها امتدت إلى ما يقرب من القرن السابع عشر الميلادي حيث قامت الثورة العلمية الأوروبية.

ويهتم راشد بتحديد قيمة وأهمية مجال تاريخ العلوم باعتباره وسيلة لنقد المعرفة ويرى أنه قد ظهر لأول مرة في القرن الثامن عشر في عصر التنوير، يشرح راشد مبررات وظروف ظهور هذا المجال العلمي كما يلي،

إن تاريخ العلوم لم ير النور قبل القرن الثامن عشر وفي قلب فلسفة التنوير، وربما يتعجب البعض من هذا الرد وينكرونه مستشهدين على ذلك بما كتبه السلف في تاريخ العلوم، وأعني بالسلف العلماء والمؤرخين على وجه سواء من أي جنس ومن أية ملة كانوا... كانت هذه الكتابات المرجعية الهامة تهدف إلى التذكير والتسجيل ولم تقصد تتبع هذا العلم أو ذاك لبيان كيف أصبح على ما هو عليه في عصر من العصور وما قابله من عقبات تغلب على بعضها، أو كان لها جل الأثر في تغيير مجراه وابتكار بنيات نظرية جديدة، وهذا السعي يتطلب نهجا جديدا في الدراسة والتحليل، فعلى المؤرخ حينئذ تتبع وصف البنيات النظرية وظروف تكونها وما قامت عليه، هذا الأسلوب في التأريخ لم يبدأ حسب علمي قبل القرن الثامن عشر ومع فلسفة التنوير لأسباب عدة: التراكم العلمي من جهة وتأسيس الأكاديميات – أي مراكز البحوث – من جهة أخرى... فتاريخ العلوم يؤدي وظيفتين مترابطتين على اختلافهما عند فلاسفة التنوير: فهو الأداة اللازمة لتعريف الحداثة في سياق جدل عقائدي امتد بين منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر على الأقل... والوظيفة الثانية لتاريخ العلوم عند فلاسفة التنوير مرتبطة أشد الارتباط بجوهر فكرهم، أعني رفض هذه الفلسفة نفسها ألا وهو مفهوم التقدم المستمر للحقائق أو التراكم المستمر لها والاستبعاد والتخلص المستمر أيضا من الأخطاء المكتسبة التي أفسدت الطبيعة الإنسانية وحجبت عنها "النور الطبيعي" الذي جبلت عليه. (العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ، الفلسفة والعصر، العدد الثاني، يناير 2002، ص 27 – 29)

1- تقسيمه لتطور العلم

في إطار ما وصل إليه من تحليل لتاريخ العلوم ومن كشف عن دور العلم العربي يضع الدكتور راشد تقسيما ثلاثيا للعلم، والمقصود هنا هو العلم الذي تمكن من أن يتبلور كعلم عالمي للإنسانية. على هذا الأساس ينقسم تاريخ العلم لديه إلى العلم الكلاسيكي القديم، أي العلم العربي، ثم العلم الحديث، الذي نشأ في عصر الحداثة، ثم العلم الصناعي المعاصر، يقول،

فإن تجنبنا "الوهم الإحصائي" سنجد أن الحديث عن المجتمع العلمي لا يمكن أن يتم دون تحديد المعايير والعوامل المتعلقة بالعلم وتاريخه أولا. وحتى يتسنى لنا ذلك علينا أولا أن نميز بين ثلاثة أنماط علمية، يهم كل منها المنطقة العربية في تاريخها الممتد. وهذه الأنماط هي: "العلم الكلاسيكي" و"العلم الحديث" و"العلم الصناعي".

لقد تطور العلم الكلاسيكي فيما بين القرن التاسع الميلادي والنصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي. ونشأ في أول الأمر في المراكز المدنية الإسلامية وباللغة العربية. إن الترجمات اللاتينية لمؤلفات علماء الإسلام والبحوث التي قام بها البعض على المنوال نفسه، كانت تشكل جزءا مكملا من هذا العلم الكلاسيكي...

أما "العلم الحديث" فهو أوروبي. ويمكن أن نؤرخ بدايته بشكل تقريبي مع نيوتن وخلفائه في القرن الثامن عشر الميلادي، أو بعد ذلك الوقت. إننا نقصد، بوصفنا لهذا العلم بـ"الأوروبي" أنه نشأ وتطور في أوروبا الغربية فقط. يتميز هذا العلم الحديث من العلم الكلاسيكي بنزعة قوية إلى توحيد فروعه...

يتميز "العلم الصناعي"، أي علم المجتمعات الصناعية المتقدمة التي تنتج وتستهلك العلم على درجة عالية، بتصنيع البحث؛ وتعني كلمة "تصنيع البحث" ليس فقط أن هذا العلم يقوم بتطوير التطبيقات العلمية على الصناعة أو تطوير البحث الصناعي بحد ذاته، بل إن البحث العلمي نفسه يجري في مؤسسات ومخابر (المركز الوطني للبحوث العلمية، مركز الدراسات النووية، الخ) أصبحت هي نفسها خاضعة لطرائق التنظيم والإدارة الخاصة بالممارسات الصناعية. فصار مفهوم "المجتمع العلمي" ذا معنى مختلف عن ذلك الذي عرفناه في العلم الحديث. (الوطن العربي وتوطين العلم ص 10 – 11)

     أ- الصورة الخاطئة للعلم العربي

ينقد الدكتور راشد الصورة التقليدية للفكر الأوروبي الحديث لتاريخ العلم على أساس أنه تحول إلى التمييز بين الأجناس والعقليات على أساس اللغات، وعلى أساس تجاهله للعلم العربي باعتباره خزانة للعلم اليوناني. ويرى أن الفكر الأوروبي قد اضطر إلى البحث في العلم العربي دون أن يعطي له شرعية الوجود، ويرصد هذا التناقض في الفكر الغربي. يشرح ذلك كما يلي،

بدأ مع هذه المدرسة الألمانية دون أدنى شك دراسة تاريخ اللغات درسا مكثفا ومقارنا. ولكن سرعان ما تحول هذا الدرس للغات إلى دراسة التاريخ باللغات، أعني إلى التمييز بين الأجناس والعقليات حسب اللغات، وهناك اللغات الآرية وهناك اللغات السامية، الأولى صالحة لعقلية علمية فلسفية، والثانية لذهن "ديني شعري". ومهما كان الأمر كان من الطبيعي والمتوقع أن يزداد الإحساس بالتاريخ نفاذا ووضوحا، وهذا ما تم، وازداد الاهتمام بالنصوص اليونانية واللاتينية ونشطت دراستها نشاطا جما. ولكن دراسة هذه النصوص وخاصة اليونانية والعلمية منها ألزم بالاهتمام بدراسة النصوص العربية نفسها، فكثير من الأصول اليونانية لم يقدر له البقاء إلا في الترجمات العربية. إلا أن دراسة التاريخ بواسطة اللغات كانت بمثابة شرك يحاك لتاريخ العلم العربي: من جهة نظرية خالصة لم يكن للساميين الحق في العلم والفلسفة تبعا لرأي هذه المدرسة في اللغة وارتباطها بالعقلية، ومن ثم لم يبق للعلم العربي شرعيا الحق في الوجود: ولكن من جهة واقعية كان هذا العلم العربي يفرض نفسه أكثر فأكثر على المؤرخين الذين تزايد رجوعهم إليه. ودام هذا التناقض أكثر من قرنين، ولا تزال آثاره عند جمهرة المؤرخين. والغريب العجيب أن هذا التناقض يحكم مؤلفات ثانوية في تاريخ العلوم ولم يقتصر عليها، بل نراه يطبع بطابعه مؤلفات هامة مثل "نظام الكون" لـ"Pierre Duhem". ويبدو لي أن هذا التناقض كان لا مفر منه، فمهما كانت نظرة المؤرخ العقائدية في هذا الوقت لم يكن باستطاعته تفادي العلم العربي لدى تصديه لوقائع المادة العلمية التي كان يرغب في التأريخ لها. ومن ثم إن كان هذا أو ذاك المؤرخ لا يرى في العلم إلا ظاهرة أوروبية خالصة لم يعد يمكنه أن ينظر إلى العلم العربي نظرة مستقيمة صائبة. ففي أحسن الأحوال لم ير فيه إلا خزانة لترجمات يونانية، ولم يعتبره إلا علما يونانيا محدثا. لم يبق إذن حسب هذه الرؤية للعلم العربي إلا دور واحد: فهو حقل للتنقيب يحفر فيه المؤرخ بحثا عن آثار الحضارة والعلم اليوناني. ولقد أسرف البعض في هذا ومازالوا مما أدى إلى تشويه نتائج العلم اليوناني وإلى سوء فهم ما تم في القرن السابع عشر على السواء. فلقد قرأ الكثير في العلم اليوناني ما لم يكن فيه، واستقر في وهم آخرين أن علم القرن السابع عشر هو ثورة عليه من أوله إلى آخره. (العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ، الفلسفة والعصر، العدد الثاني، يناير 2002، ص 30 – 31)

2- العلم العربي

حجر الزاوية في إسهام الدكتور راشد في تصحيح تاريخ العلم هي كشفه عن جوانب عديدة لطبيعة وقيمة العلم العربي/الإسلامي. فلم يقتصر في فحصه وتحليله للعلم العربي على القضايا الرياضية التخصصية وإنما امتد لبحث وفهم الظروف المجتمعية التي أحاطت به وأدت إلى ظهوره. وامتد كذلك إلى إدراك الارتباط المتبادل بين العلوم المختلفة بما في ذلك العلوم الشرعية والفقهية، مثل علم أصول الفقه، وارتباطها بباقي منظومة العلوم. كذلك امتد تصوره للعلوم العربية إلى إدراك وظيفتها في المجتمع وارتباطها بالتوجهات الدينية للمجتمع الإسلامي القديم.

ويمكن تقسيم تحليلاته للعلم العربي إلى تحليل للعوامل التي أدت إلى ظهور العلم العربي والظروف التي صاحبت ظهوره، ثم السمات الأساسية التي تميزه، ثم العلاقة بين العلم العربي وتاريخ العلم وأثره في تصحيح تاريخ العلم نفسه.

    أ- عوامل ظهور العلم العربي

يرد راشد العوامل التي أدت إلى ظهور العلوم الطبيعية العربية إلى ثلاثة عوامل، أولا، تشجيع السلطة السياسية، ثانيا، الحاجات المادية والثقافية، ثالثا، ظهور نهضة في العلوم الإنسانية والاجتماعية سابقة عليه. يشرح ذلك تفصيليا كما يلي،

لا يمكن بحالٍ فهم الحضارة العربية – الإسلامية منذ بدايتها دون الوقوف على البعد العلمي فيها. فالعلم كان بعدا أساسيا للمدينة الإسلامية. بل ليس هناك مدينة قديمة أو من العصر الوسيط، أو حتى من القرن السابع عشر، كان العلم فيها بعدا أساسيا مثل المدينة الإسلامية. وطوال التاريخ الإسلامي لم يهاجم العلم مرة واحدة، أما المرات القليلة التي اضطهد فيها المفكرون، فقد تعلقت كلها بالفلسفة، أي بنظرة "قدم العالم" (ابن رشد) أو بـ "وحدة الوجود" أو "الحلول" (الحلاج والسهروردي). بل إن أكثر الفقهاء تشددا – ابن حزم، ابن تيمية – لم يهاجموا العلم قط.

فإذا رجعنا إلى التاريخ فسنجد مع بداية الدولة العباسية نهضة علمية لا تقل أهمية عن تلك التي سنشاهدها إبان القرن السابع عشر في أوروبا. ولفهم هذه النهضة العلمية لا بد من التذكير بعوامل عدة، أولها: تشجيع السلطة السياسية والاجتماعية؛ وهذا ما يستفاد مما روى عن الخلفاء العباسيين وعن إنشاء بيوت الحكمة والمراصد. ولم يقف الأمر على الخلفاء، فقد قلدهم في هذا الأمراء والوزراء والأغنياء، مثل بني المنجم وابن المدبر، الخ. والمقام هنا ليس مقام تفصيل، ولكن لا يفوت على من ينظر في تاريخ الحركة العلمية العربية ملاحظة دور السلطة السياسية في تهيئة الوسائل المادية وتهيئة الباحثين. واستمر هذا النهج بعد تمزق الخلافة وقيام الدويلات المتنافسة التي معها تعددت المراكز العلمية. فقد أدى هذا إلى خلق "المدينة العلمية" بفرقها المتعددة والمتنافسة. فلو أخذنا بغداد في منتصف القرن الثالث لرأينا إحدى صور هذه المدينة العلمية بفرقها: بنو موسى وأعوانهم، الكندي وحلفائه، أبو معشر وتلاميذه.

أما العامل الثاني فقد انبثق من حاجات المجتمع الجديد من مادية وثقافية. فلقد اقتضت الدولة الجديدة الشاسعة الأنحاء، المتعددة الحضارات والأنظمة، تعميرا وتوحيدا، مما ألزم الاستعانة بالعلم. فإنباط المياه الجوفية، وشق القنوات، وإنشاء المدن، ومد الطرق وتنظيم الدواوين، وجباية الخراج، ومسح الأرضين وغير ذلك، أدى إلى توحيد النظم الحسابية والاستعانة بالجبر وفروع الهندسة: أعني الاستعانة بالعلوم لحل مسائل عملية، كما أدت الفرائض الدينية، من صوم وصلاة وحج – إلى أبحاث فلكية كان لها جل الأثر في رقي علم الهيئة. وأدى علم الميقات والوظيفة الاجتماعية الجديدة – أي وظيفة المؤقت – إلى تمثل الثقافة التقليدية للبحث العلمي. وساعدت الدواوين والوظيفة الاجتماعية الجديدة – أعني الكاتب – على تقدم الحساب والجبر. ويمكن أن نعدد أمثلة أخرى من الطب والكيمياء وعلم الحيل. فالعلم أصبح بتطبيقاته جزءا من الممارسة الاجتماعية، كما كان جزءا من تلك الممارسة عن طريق التدريس والبحث. فلم يكن العلم هامشيا في المدينة العربية – الإسلامية. ولم يكن هامشيا في الثقافة العامة. وهذه إحدى خصائص الحضارة العربية حتى في عصور الانحطاط.

أما العامل الثالث، الذي أسهم في النهضة العلمية فهو نهضة أخرى سبقتها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أعني علم الكلام وعلوم اللغة والتاريخ والفقه والتفسير وغيرها. فثمة ملابسات لها وزنها اكتنفت نشأة هذه العلوم التي أعدت وحثت على الاهتمام بالعلوم الرياضية وغيرها. وكمثال على هذا، نذكر كتاب العين للخليل وظهور أول علم معجمي في التاريخ. كان هذا العمل يقتضي معرفة متقنة بعلم الأصوات وكذلك بمبادئ حساب التوافيق والتباديل لحصر ألفاظ اللغة. وهو ما أخذ به الخليل. وباختصار أثارت هذه العلوم الاجتماعية والإنسانية العديد من المسائل التي تطلب حلها الأخذ بالعلوم الأخرى من رياضية وغيرها وتطويرها، أو ابتكار علوم جديدة – مثل علم التباديل والتوافيق – وهيأت هذه العلوم الاجتماعية جمهورا كبيرا من المهتمين بالعلوم الأخرى، وكذلك الوسائل اللغوية، مما أعد اللغة العربية لاستقبال المعارف الجديدة.

فمن الواضح أن هذه النهضة العلمية شملت كل فروع المعرفة في هذا الوقت ولم تقف على بعضها دون البعض الآخر. كما شملت أيضا الفروع النظرية والتطبيقات المتعلقة باحتياجات المجتمع الجديد. وهكذا أصبح العلم جزءا أساسيا من الثقافة العامة التي لم تكن دينية – لغوية أدبية فقط. وأصبحت هذه إحدى خصائص الثقافة العربية، كما تشهد به كتب تصانيف العلوم القديمة والمتأخرة، وكما تشهد به الثقافة الشعبية. فلنستمع في هذا الصدد إلى حلاق بغداد في ألف ليلة وليلة: يقول "... ستجدني أحسن حلاق في بغداد، حكيم مجرب وصيدلي عميق ومنجم لا يخطئ، ضليع في النحو والبلاغة ومؤهل في العلوم الرياضية، في الهندسة والحساب وكل مسائل الجبر، في التاريخ أعرف تاريخ الممالك في العالم، وأعرف أيضا جميع أبواب الفلسفة...". (الوطن العربي وتوطين العلم، ص7-8)

     ب- ظروف ظهور العلم العربي

إضافة إلى تلك العوامل الثلاثة يرى راشد أن ظهور المدارس الفقهية المختلفة ووجود مشكلات في تفسير النصوص وتطبيقها على الواقع أدى إلى ظهور العلوم الإنسانية أولا ثم بعد ذلك العلوم الطبيعية والترجمة عن اليونانية. ويرى راشد أن ذلك كله كان نابعا من قبول فكرة التعددية في الفكر الإسلامي القديم، يعبر عن ذلك في حواره مع مجلة العربي الكويتية كما يلي،

من العهد الأول بدأت مشاكل حقيقية وكانت في التفسير والتدليل، وفي الوقت نفسه بدأ الاهتمام بالعلوم الإنسانية والبحث في العلوم الإنسانية، وتأسست مدارس، ومدارس منافسة سمح لها بالتنافس مع سواها، وظهرت في الكوفة والبصرة وبغداد، ثم في الاماكن الأخرى بالعالم الإسلامي، كما ظهرت علوم أخرى لم تكن معروفة من قبل.

فلو أخذنا -على سبيل المثال - أعمال الخليل بن أحمد في اللغة وتطبيقه للرياضيات على اللغة، واختراعه لمواضيع جديدة في اللغة. أو أخذنا من جانب آخر الفقه، نرى كيف ظهرت المدارس الفقهية أيضا مثل مدارس الحنفية والشافعية وغيرهما التي بدأت تطبيق الرياضيات في حساب المواريث وحساب الفرائض مما أدى إلى فكرة تطوير علوم أخرى وإدخال الرياضيات.

مثال على ذلك الشيباني الذي كتب نسخة من كتاب في حساب الفرائض، ليظهر علم جديد من الحساب يفرض الاختلاف والتناقض، فالشيء الأساسي هو ظهور فكرة التناقض، دون وجود لفكرة التكفير، والسماح بالتعددية منذ البداية، مما ساعد على ظهور الكلام الذي له أيضا أصول اجتماعية، فمنهم من ترجع أصوله إلى فارس والإمبراطورية البيزنطية ـ حيث لديهم عقائد مختلفة.

ظهرت هذه المسائل الفلسفية العميقة مما شجع على حركة الترجمة، وأخذت الدولة المبادرة في الترجمة، ولم تقل إن هذه علوم كفرة، أو إنها علوم غير أصيلة، ولا قيل إن كل العلوم اليونانية هي علوم غير أصيلة، فقد استوعبت بشكل ضخم وخلاق احتياجات جديدة، وأصبحت هناك سوق بمعنى الكلمة، سوق للفكر وسوق للفلسفة وسوق للعلوم.

كان هناك علماء وفقهاء ولغويون يحتاجون إلى ثقافة مغايرة غير الاحتياجات العلمية الأخرى، مثل الفلك. الشيء الأساسي كان التعدد والاحتكام إلى العقل بوجود النص. وبالنظر مثلا إلى نظرية القياس التي كانت تدور حولها مناقشة ضخمة، وهل نقبل بأحكام القياس أو لا نقبل فقد كان هناك تعدد في الآراء لدى المذاهب الأربعة كافة كما كان لعلماء الشيعة آراء أخرى، فالأمور كانت تؤخذ هكذا، فلم توجد تلك التعقيدات التي - مع الأسف - بعضها موجود الآن .هذا التعدد والاختلاف والاحتكام إلى العقل خلق هذه الحال .(حوار مجلة العربي الكويتية، إبريل 2007)

   ج- السمات الأساسية للعلم العربي

أما السمات الأساسية للعلم العربي، كما يراها راشد، فتتلخص في عقلانية رياضية جديدة، والتجريب كنمط من أنماط البرهان. وقد ظهرت هذه السمات في ظل أكبر حركة ترجمها عرفها التاريخ وفي ظل سعي للمعرفة العلمية الإبداعية وليس لمجرد تكوين المكتبات،

بنيت هذه الثقافة العلمية الجديدة ابتداء من نقل علوم الأوائل، وخاصة تلك التي ترعرعت في أحضان الحضارة الهلينستينية كما هو معروف. ولكن إذا تأملنا حركة الترجمة العلمية، من فلكية ورياضية على الأخص، فستظهر لنا خاصة أخرى ذات معنى عميق. سنرى أن هذه الترجمة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبحث العلمي وبالإبداع. فلم يكن القصد من الترجمة إنشاء مكتبة علمية الهدف منها إثراء خزائن الخلفاء والأمراء، بل لتلبية حاجات البحث العلمي. وإذا لم نع هذه الظاهرة حق الوعي، فلن ندرك شيئا من حركة الترجمة هذه، التي كانت أكبر حركة ترجمة علمية عرفها التاريخ. ويكفي أن نذكر هنا بأن المترجمين أنفسهم كانوا من قادة الحركة العلمية، بل إن بعضهم من العلماء الخالدين على مر العصور، فمن بينهم: الحجاج بن مطر وثابت بن قرة وقسطا بن لوقا، هذه واحدة؛ والأخرى أن اختيار الكتب، وكذلك توقيت هذا الاختيار كانا وثيقي الصلة بما يعرض للبحث، ولنأخذ مثلا واحدا: فعندما ترجم ثابت بن قرة عدة كتب من مخروطات أبلونيوس – وهي أصعب وأرقى ما كتب في الهندسة اليونانية – كان ذلك لحاجته إليها في أبحاثة الرياضية الجديدة، وخاصة تلك المتعلقة بحساب المساحات والأحجام. فارتباط الترجمة العلمية بالبحث العلمي المتقدم ليس حقيقة تاريخية فحسب، بل هو يفسر لنا في مجال الفلك والرياضيات سر نشاط الترجمة على أيدي أعلى الباحثين طبقة، كما يبين لنا بعض خصائص الترجمة اللغوية.

ولا مجال للشك أن إحدى النتائج لكل هذه الأنشطة كانت نشأة اللغة العربية العلمية عند التقاء تيارين للبحث، أحدهما في العلوم الإنسانية وخاصة اللغوية منها، والآخر هو تيار البحث العلمي نفسه الذي سلك نهجين متزامنين، أعني الترجمة المرتبطة بالبحث العلمي، وبالإبداع فيه، وابتكار علوم جديدة لم يعرفها القدماء. ولعل أهم خاصتين للمعرفة الجديدة التي أنتجتها الحضارة العربية هما:

- عقلانية رياضية جديدة.

- التجريب كنمط من أنماط البرهان.

أما العقلانية الجديدة، فيمكن وصفها بكلمتين: جبرية تحليلية. أما التجريب – ودخوله مع الحسن بن الهيثم كمعيار برهاني في البحث الفيزيائي – فقد أدى إلى تضييق الفجوة العميقة التي كانت تفصل بين العلم والفن في الثقافة اليونانية والهلينستينية. فلقد تغيرت العلاقة بينهما في الثقافة الإسلامية. وباختصار شديد يمكننا وصف الثقافة العلمية العربية بأنها جبرية تجريبية. (الوطن العربي وتوطين العلم، المستقبل العربي، أغسطس 2008، ص 7 – 9)

 د- العلاقة بين العلم العربي وتاريخ العلم

في هذا الإطار العام من مفهوم تاريخ العلم ومفهوم التقاليد العلمية يضع الدكتور رشدي راشد صورة العلم العربي باعتبارها أول ثورة علمية عالمية بالمعنى الصحيح للعالمية في التاريخ. يصور ذلك الدكتور راشد كما يلي،

إن أراد الدارس المتعمق للعلم العربي أن يصفه جملة، أي يصف جوهره، ظهر له بوضوح شديد أن هذا العلم ما فتئ يحقق ما كان كمون الوجود في العلم اليوناني. فما يجده عند علماء الإسكندرية جنينيا، أعني الاتجاه لتخطي حدود منطقة ما ولكسر طوق ثقافة معينة لاكتساء أبعاد العالم بأسره، نراه قد أصبح واقعا مكتملا في علم تطور حول حوض البحر المتوسط لا كرقعة جغرافية فحسب، بل كبؤرة تواصل وتبادل لكل الحضارات التي ترعرعت حول هذا الحوض، مركز العالم القديم، وكذلك في أطرافه؛ فكلمة "عالمي" هي أنسب وأصح الكلمات لوصف هذا العلم العربي الجديد: كان هذا العلم عالميا بمنابعه ومصادره، عالميا بتطوراته وامتداداته، فعلى الرغم من أن أغلب مصادره ومنابعه هيلستينية إلا أنها تضمنت أيضا مؤلفات سريانية وسنسكريتية وفارسية. من المعروف أن هذه الينابيع لم يتدفق منها نفس الفيض ولم يكن لها نفس التأثير. ولكن الجدير بالالتفات إليه هنا هو تعددها واختلاف أصولها، فهذا التعدد وذاك الاختلاف كان لهما دور هام في صياغة بعض ملامح العلم العربي. هذه السمة تشترك فيها كل حقول العلم بما فيها أكثر الحقول يونانية مثل الرياضيات. من الممكن دون أدنى تردد أو حرج نعت الرياضيات بهذه الصفة لأنها وريثة الرياضيات اليونانية، ولكن إن أحببنا التأريخ للرياضيات العربية علينا العودة إلى المصادر الأخرى من بابلية وسنسكريتية لفهم ما تم في حساب المثلثات وفي التحليل العددي. والمؤرخ الواعي المدقق لا يفوته في هذه الحال أن يقف على الإطار الجديد للرياضيات قبل أن يغوص في دراسة النتائج الموروثة، عليه أن يحلل ويصف ظواهريا إن صحت الكلمة اشتراك كل هذه التقاليد الرياضية واندماجها في المجتمع الجديد. ومما يجب الانتباه له ايضا أن هذه الظاهرة لم تكن وليدة الصدفة ولا نتاج الحظ. فالتقاليد العلمية التي تمثلها علماء الحضارة الإسلامية لم تنقلها قوافل التجار ولا سفن البحارة ولا جيوش المجاهدين. بل كانت ثمار تنقيب وبحث عن كتب القدماء قام بهما علماء فحول نقلوا بنشاط جم الكتب العلمية والفلسفية بدعم من السلطة السياسية التي هيأت السبل وشجعت على المضي فيها. كانت هناك مدارس من هؤلاء العلماء، مدارس متنافسة أحيانا متعاونة أحيانا أخرى، دفعهم البحث العلمي نفسه للتنقيب عن آثار السلف لنقلها إلى العربية، ولم يكن هدفهم في ذلك هو نقل هذه الكتب للتعريف بها، ولكن لمتابعة بحث علمي نشط. من هذه المدارس كانت هناك مدرسة حنين وابنه وأهله، وكانت هناك أيضا مدرسة بني موسى وتلاميذهم ومدرسة الكندي وقسطا وحلفائهم... هذه الظاهرة لا أعرف لها مثيلا من قبل أنتجت لأول مرة في التاريخ مكتبة علمية لها أبعاد عالم تلك الحقبة. احتوت هذه المكتبة على النتاج العلمي والفلسفي لتقاليد متعددة الأصول واللغات، وأصبحت هذه التقاليد العلمية وما أنتجته جزءا من حضارة واحدة لغتها العلمية هي العربية، وهكذا أضحت هذه التقاليد تمتلك وسائل التأثير والتأثر فيما بينها، مما مكنها من التوصل إلى مناهج جديدة والتطرق لحقول علمية لم يعرفها الأوائل، مثل الجبر والإسقاطات الهندسية وغيرها. (العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ، الفلسفة والعصر، العدد الثاني، يناير 2002، ص 31 – 32)

هـ - أثر تصحيح وضع العلم العربي على تاريخ العلوم

أما الأثر الذي تخلفه هذه الصورة على تاريخ العلوم كما ظهر في الغرب الحديث فهو تعديل الصورة التي طرحت في الغرب لتاريخ العلوم، وفهم أوضح وأصح للعلم الكلاسيكي ولكيفية ظهور العلم الحديث، يشرح ذلك كما يلي،

ومن الواضح إذن أن تجديد كتابة تاريخ العلم العربي يقودنا إلى تجديد تاريخ العلوم نفسه، هذا هو الثمن الذي علينا أن ندفعه حتى يمكننا أن نساهم في تقدم تاريخ العلوم جملة، وحتى يحقق تاريخ العلم العربي على الأقل المهام الثلاث التالية: فتح الطريق امام فهم حقيقي لتاريخ العلم الكلاسيكي بين القرن التاسع والقرن السابع عشر؛ تجديد تاريخ العلوم عامة بإعادة رسم الصورة التي شوهتها النظرات العقائدية، ومعرفة الثقافة الإسلامية حق المعرفة بإعادة ما كان من أبعادها، وهو البعد العقلي العلمي، فالتراث الإسلامي لم يكن لغة ودينا وأدبا فحسب، بل كان أيضا علوما وفلسفة ومنطقا؛ وهنا وهناك كانت أصالة هذا التراث وعالميته وانفتاحه. (العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ، الفلسفة والعصر، العدد الثاني، يناير 2002، ص 35 – 36)

و- مفهوم الحداثة

كان من نتيجة هذه الأبحاث تغير مفهوم الحداثة عند الدكتور راشد، فالحداثة ليست حداثة واحدة، هي الحداثة الأوروبية وإنما حداثات متعددة، يوضح ذلك في حواره مع دار الخليج كما يلي، 

في بحوثك العلمية تعمد إلى هدم الحواجز التقليدية بين العلوم المختلفة فهل هذا استجابة لمتطلبات الحداثة؟

 هو استجابة لموضوعية العمل وقد فرض هذا علي أثناء عملي فهذه الحواجز لم تكن عادة إلا حواجز خاطئة أو ايديولوجية، فالبحث عن الحقيقة التاريخية هو الذي قادني إلى هذا وليست هناك حداثة واحدة، ومن يزعم هذا لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، هناك حداثات متعددة في القرن الرابع قبل الميلاد وهناك حداثة في القرن العاشر العربي وفي القرن السابع عشر وهناك حداثة في أوائل القرن العشرين فالحداثات متعددة ومتراكمة. (حوار دار الخليج، 7 يوليو 2008)


الموقف من المستقبل

يتخذ الدكتور راشد موقفا نقديا صارما من النظم السياسية في المجتمعات العربية المعاصرة ويتهمها بالتقاعس في دعم العلم كقيمة مجتمعية أساسية، وعدم العمل على إقامة مجتمعات حديثة فاعلة. لذلك هو يتخذ موقفا، على العموم، متشائما من مستقبل النهضة العربية، على الرغم من أنه يرى أن هناك إمكانيات كبيرة تتيح تحقيق النهضة. فالنهضة تعتمد من وجهة نظره على أولا، الحرية المجتمعية، وثانيا، أن يصبح العلم قيمة مجتمعية أساسية.

فيعبر في حوار مع المصري اليوم عن تشاؤمه من مستقبل النهضة العربية كما يلي،

لماذا نفتقد فى مصر فكرة الاهتمام الجاد بالعلوم وفكرة بناء حضارة؟

لأننا نفتقر لأمور كثيرة، على سبيل المثال يحزننى ما يحدث من تهليل إعلامى وسياسى فى مصر بعد حصول أى مصرى على تكريم دولى أو عالمى، مثل الدكتور زويل، أو الدكتور مصطفى السيد، أو دكتور مجدى يعقوب، وغيرهم كثير! كان لابد أن يشعر الجميع هنا بالخزى والحزن، لأنه أخذها لدوره فى الخارج، لا عن دوره هنا... للأسف لم ننجح فى مصر أن نجعل من العلم قيمة اجتماعية، لأن هذا يتطلب أن نعترف بالعقل بصفته القيمة الاجتماعية الأولى، وهو أمر لم يحدث نتيجة ديكتاتورية الحكم تارة، واللعب بالدين تارة أخرى، وقبول بنود فى اتفاقية كامب ديفيد تمنع إقامة مشروع علمى نهضوى حقيقى فى مصر. (المصري اليوم، 10 مايو 2009)

1- مستقبل البحث العلمي العربي

للدكتور راشد موقفا تفصيليا من قضية مستقبل البحث العلمي العربي، يرى أن هناك عدة مشكلات تعترضه.

المشكلة الأولى هي تركيز النخب الحاكمة على البحث العلمي التطبيقي بشكل براجماتي وهذا في رأيه لا يؤدي إلى نهضة علمية لأنه من الضروري التركيز على العلوم بشقيها النظري والعملي، يظهر ذلك في حواره التالي مع مجلة الأهرام العربي،

للإجابة عن هذا السؤال‏,‏ يجب أن نضع في اعتبارنا السؤال التالي‏:‏ ما الموجود لدينا علميا في الوطن العربي ليضطر الآخرون إلي ترجمته؟ من الواضح أن أغلب المواد العلمية الموجودة لدي العرب هي امتداد لرسائل علمية تم تحضيرها في الغرب أساسا‏,‏ ومع أنني لا أستطيع الحكم بشكل عام‏,‏ لكنني أقول ليس هناك ما يسمي بالبحث العلمي العربي‏,‏ أو الإنتاج العلمي العربي‏,‏ هناك بالطبع إنتاج أفراد ممتازين والكثير منهم في الخارج وبعضهم موجود في الداخل‏,‏ ويكتبون بلغات متعددة‏,‏ لكن هؤلاء الأفراد‏,‏ لا يصنعون مع ذلك‏,‏ المساهمة أو الإنتاج العلمي العربي كونهم يعملون منفردين‏,‏ وهنا ينبغي أن نفرق بين وجود أفراد وبين وجود مدارس علمية عربية تضع أسئلتها العلمية وتجيب عنها‏,‏ والآخرون يلجأون إليها‏,‏ لاستعارة هذه الأسئلة وهذه الإجابات‏,‏ هذا ليس موجودا‏,‏ ذلك هو الوضع الحالي‏,‏ وهناك بالإضافة إلي ذلك أسباب تاريخية طويلة الأمد‏,‏ ومنها‏:‏ منذ عهد محمد علي‏,‏ وعهد عبدالناصر إلي الآن‏,‏ لم يهتم أحد بالعلم كقيمة اجتماعية‏,‏ حيث كان يتم الاهتمام بالتكنولوجيا أكثر من العلم‏,‏ أو بالأبحاث التطبيقية أكثر من الأبحاث العلمية النظرية‏,‏ لأن مفهوم العلم كان تطبيقيا‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ عندما جاء محمد علي بالسان سيمونيين‏,‏ الذين ساعدوا علي إدخال العلم في مصر‏,‏ مثل كلوت بيك‏,‏ كان هذا التصور نفعيا وتطبيقيا‏.

واستمر هذا الوضع‏,‏ ولما جاءت ثورة أو الانقلاب عام‏1952,‏ كان هناك شعور بأهمية العلم‏,‏ لكن كان التصور ـ أيضا ـ تطبيقيا ولم تخلق أو تنشأ معاهد الأبحاث التي تعمل علي العلم النظري‏,‏ وحتي معهد الأبحاث المصري‏,‏ هو أساسا ذو اتجاه تطبيقي أكثر منه نظريا‏.‏

ومن هذه الأسباب أيضا‏,‏ وجود الاستعمار القديم‏,‏ وأحد أهم الأشياء التي فعلها الإنجليز فور دخول مصر هو إلغاء الكليات العلمية‏,‏ وعندما أسست الجامعة المصرية وظهر أفراد ممتازون مثل مصطفي مشرفة‏,‏ ومصطفي نظيف‏,‏ حاولوا بجهود فردية إحياء البحث العلمي والعمل من أجله‏,‏ وأنشأوا جمعيات ومجلات ما بين الأربعينيات والخمسينيات‏,‏ ولأنها مجهودات فردية في أغلب الأحيان‏,‏ فلم تتحول إلي خبرات اجتماعية داخل المجتمع المصري والعربي‏,‏ ولم يفرض العلم كقيمة اجتماعية‏,‏ لأن هذا لكي يحدث لابد أن تعترف بالعقلانية كالقيمة الاجتماعية الأولي وهو ما لم يحدث أيضا‏.‏

وبعد النكسات والهزائم ودخولنا في مرحلة جديدة‏,‏ بدأت بانتهاء العهد الناصري‏,‏ ومع أول أيام السادات‏,‏ ثم دخولنا في معاهدة كامب ديفيد‏,‏ وكانت لهذه المعاهدة شروط‏,‏ ومن هذه الشروط إلغاء كل المحاولات العلمية الجنينية التي تمت في عهد عبد الناصر‏,‏ مثل معهد الطاقة النووية الذي كان يضم مشرفة وآخرين‏,‏ ووقف البعثات العلمية إلي روسيا‏,‏ ووقف الأبحاث في الفيزياء والكيمياء التي كانت ضمن مقررات معهد الطاقة النووية‏,‏ وكما نعرف فإن الأبحاث تولد الأبحاث‏,‏ فإذا توقف مجرد البحث فماذا ننتظر؟ فالبحث في الفيزياء مثلا يقتضي تكوينا علميا في الرياضيات والكيمياء ومجالات علمية أخري‏,‏ وهذه قيمة البحث الذي يساعد علي نوع من النهضة العلمية وليس مجرد الشكل النفعي لها‏.‏ (الأهرام العربي، 2 فبراير 2008)

والمشكلة الثانية هي غياب البحوث العلمية في العلوم الاجتماعية، وتطوير النظم المجتمعية، والتي يرى أنها من الضروري أن ترافق البحث العلمي الطبيعي،

العجيب أنه من خلال دراستي في التاريخ العلمي وجدت أن هناك ارتباطا وثيقا بين العمل في المجالات الاجتماعية والعمل في العلوم‏,‏ حتى الرياضيات‏,‏ بمعني‏:‏ العمل في المجالات الاجتماعية كاللغة‏,‏ أو التاريخ‏,‏ يخلق نوعا من المجتمع المحتاج إلي العلوم الدقيقة‏,‏ وهذا ما تم في تاريخ العلوم في الفترة العربية‏,‏ في القرن التاسع‏,‏ وقبل ذلك في القرن السابع علي سبيل المثال كانت هناك أبحاث مكثفة في العلوم الاجتماعية في اللغة والتاريخ والفقه‏,‏ وتطبيق الرياضيات في الفقه‏,‏ وفي الفلسفة وعلم الكلام‏,‏ مما خلق نوعا من السوق للعلم أو جمهور للعلم‏,‏ لأن هؤلاء هم أنفسهم الذين سيطلبون ترجمة الكتب من اليونانية وغيرها‏,‏ وللذهاب إلي أبعد من هذا سيحتاجون إلي رياضيات وفلك‏,‏ إنه ارتباط وثيق بين المجالين النظري والعلمي‏,‏ ومن ناحية أخري هناك ارتباط آخر‏,‏ وهو أنه إذا كان العالم الذي يعمل في الفيزياء أو الرياضيات يبحث بشكل معين في ميدان‏,‏ لا يمكن أن تفصل هذا عن التطور في ميادين أخري‏,‏ مثل نظام التعليم‏,‏تشجيع البحث العلمي والتخطيط له‏,‏ ولا أعرف مجتمعا تطور فيه العلم الطبيعي أو العلم الرياضي فقط إلا في حالات نادرة‏,‏ كما في هولندا في وقت من الأوقات‏,‏ بدون تطور في النظم الاجتماعية النظرية كالفلسفة وغيرها‏,‏ حتى في النظم الديكتاتورية كما في الاتحاد السوفيتي كان هناك تطور ضخم في العلوم الطبيعية‏,‏ لكنه في الوقت نفسه كانت هناك أبحاث في اللغة والأنثروبولوجيا‏.(الأهرام العربي، 2 فبراير 2008)

ويرى أنه من أجل نجاح البحث العلمي العربي يجب التركيز على التخصصات الملائمة للطبيعة العربية وأن يتم تحديد أولويات البحث العلمي بناء على ذلك،

ألا يكون من المُهم أن نخصص بعض العلوم في المناطق العربية، أي أن تكون هناك نظريات علمية تصاحبها نظريات تطبيقية تفيد منها المناطق العربية؟

          نعم، لابد، ويجب للتخصص أن يكون من الداخل وليس نتيجة لاستيراد أو مورِّد. بمعنى يمكن تخصيص الطاقة الشمسية التي استغلتها دولة (الاحتلال الاسرائيلي) ،ولكن يجب أن ننظر إلى هذا بمزيد من الاعتدال، ويجب أن نحسم هذا بمعنى هل من اليسير في بلد مثل مصر تطوير الطاقة الشمسية أو تطوير طاقات أخرى؟

          هناك أولويات فلا يكفي أن تسمع في الغرب أن هناك اهتمامًا بالطاقة الشمسية لأسباب مثل ارتفاع أسعارالنفط، فلابد من البعد عن الاستيراد المثلي التقليدي، بل ابدأ بالأساس وأن تعمل ما تريد وقتما تريد، وما لم يكن هناك بحث علمي سيكون المصير هو الفشل.

          لقد فشل محمد علي، وجمال عبد الناصر، عندما لم ينتبها إلى البحث العلمي، فبالرغم من ضخامة ما عمله محمد علي ستجد أن كل شيء تطبيقي، ولا تجد أنه أقام معهدًا أو أكاديمية ولم يفكر في هذا أحد. وكذلك حين أقام جمال عبدالناصر مركز البحوث لم يهتم بالبحوث العلمية الأساسية. (مجلة العربي الكويتية، إبريل 2007)

 2- مستقبل المجتمعات العربية

يرى الدكتور راشد مستقبل المجتمعات العربية مرتبطا بالنهضة العلمية وأنه من الضروري التركيز على تعليم المتميزين كمدخل لصناعة العلماء،

عن نفسي - بالرغم من أني من أولئك الذين لا يفكرون بشكل رجعي - أصر الآن على تعليم اختياري، يعني يجب إنشاء مدارس ومعاهد ترعى المتميزين وتهتم بهم للوصول إلى أبعد مدى علمي ممكن.

هذا غير ديمقراطي، إلا أنه المدخل الوحيد لصناعة العلماء لمجتمع تخلف كثيرا. فمثلا في فرنسا هناك الجامعات ، ولكن ما يصرون عليه - بشكل أساسي - هو ما يسمونه بالمدارس العليا، كمدرسة المعلمين العليا. فهؤلاء عندهم جميع الامكانات المادية والمعنوية ، فهم خارج نطاق الجامعة.

إن اخذنا الجامعات العريقة في أمريكا -مثل هارفارد - فهناك التمييز المادي وعمليات انتقاء نخبوي للطلبة المتقدمين وهو الأمر ذاته في جامعة طوكيو التي عملت بها، حتى تخرج نخبة المجتمع من الخريجين الذين يعملون في الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة. (حوار مجلة العربي الكويتية، إبريل 2007)

 كما أنه يرى أنه من الضروري تطوير لغة عربية علمية لأن اللغة أساسية بالنسبة لتطور العلم وحتى يصبح ممكنا التواصل مع التراث العلمي العربي،

 إذا تجاهلنا العلم العربي لن نفهم ما جاء به العلم الأوروبي في القرن السابع عشر، ولولا العلم العربي لما كان العلم الأوروبي خاصة في المناظير والرياضيات والفلك والطب، فهو جزء من تاريخ العلوم ولكن يمكن أن يكون له دور مهم في خلق المجتمع العلمي في البلدان العربية وخلق الوعي العملي في الوطن العربي. المشكلة الأساسية التي يعانيها العرب هي غياب القيمة الاجتماعية للعلم، وأن تكون هذه القيمة بعدا من أبعاد العلم العربي وكذلك لفلسفة العلوم أن تساهم مساهمة كبيرة في خلق اللغة العلمية وتجديد اللغة العلمية العربية، فلا يزال هناك الكثير من الكليات تدرس العلوم بلغات أخرى بل للأسف ازداد هذا في السنوات الأخيرة وأزعم أنه لا يمكن تدريس العلوم في المراحل الأولى على الأقل إلا باللغة الوطنية.

 آليات التغيير هي النظر في النظام التعليمي من أوله إلى آخره منذ البدايات وليس الجامعات والمدارس الثانوية، وينبغي منذ البداية تحديد وتوطين النظام التعليمي، لكننا نسير في حركة عكسية بإنشاء المدارس الأجنبية والجامعات المزعومة من الدرجتين الثالثة والرابعة، ولا يمكن للجامعات الكبرى أن ترسل إلينا أهم الأستاذة وكبارهم للتدريس، وإنما سترسل لنا في أغلب الأحيان أساتذة من الدرجتين الثالثة والرابعة، المحك إذن هو النظر إلى النظام التعليمي وتمكين اللغة، فاللغة هي أداة الفكر وللأسف نرى تراجعا للفصحى في البلدان العربية وخاصة مصر وبالتالي غاب الوعي العلمي، نحن في انتظار رجوع العقل كما انتظرنا من قبل رجوع الروح، فالمجتمع الآن يسير بشكل غير عقلي في ميادين عدة ويكفي النظر إلى حولك حتى ترى، ولن يرجع العقل إلا بحرية النقد على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والدينية والفلسفية. (حوار دار الخليج، 7 يوليو 2008).

ويرى الدكتور راشد أن توطين العلم في المجتمعات العربية وتحوله إلى قيمة مجتمعية أساسية مشروط بتكوين تقاليد علمية عربية، يلخص كما يلي،

من تحليل الخبرات التاريخية التي مر بها الوطن العربي، يمكننا استخلاص بعض النتائج:

يعلمنا تاريخ العلوم الكلاسيكية، الحديثة والصناعية – أنه ليس هناك نقل أو استيراد للعلم، بل هناك توطين له فقط. هذا التوطين لا يمكن تحقيقه إلا بقرار من السلطة السياسية، وبفضل الالتزام الإرادي للنخب الاقتصادية والعسكرية والعلمية. ولن يكون هناك توطين للعلم دون هذا، بل سيكون هناك فقط مؤسسات علمية ظاهرها علم وحقيقتها وهم. فالعلم لم يكن أبدا بنية معزولة عن البنيات الاجتماعية الأخرى. ولكن في كثير من البلدان العربية، يبقى المجتمع العلمي، الذي مازال في بدء تكوينه، معزولا عن البنيات السياسية والاجتماعية...

- لا يمكن توطين العلم إلا بتكون التقاليد الوطنية في البحث، وخاصة البحث الأساسي. وهذا لا يتطلب فقط تخصيص الموارد اللازمة لإنشاء المؤسسات البحثية ولتكوين العلماء ولتأمين حياتهم، بل أيضا دعم الثقافة العلمية العامة وتشجيعها، بما فيها نشر المعرفة العلمية، البحث في تاريخ العلوم وفلسفتها وتدريسها؛ خلق المجلات العلمية ذات المستوى المقبول – وليس الوقوف على ترجمة المجلات الأمريكية وغيرها، الخ.

- لا يمكن دعم العقلية العلمية والثقافة العلمية، بل التعليم الحقيقي، دون تعريب منهجي جيد لكل ضروب التعليم العلمي.

- إقامة المراكز البحثية ذات الثقل المادي والعلمي على مستوى الوطن العربي ككل وخاصة في ميادين "العلم الضخم" (Big Science).

- تشجيع إقامة المراكز العلمية النخبية لتكوين العلماء وللبحث العلمي ليس فقط على المستوى الإقليمية ولكن أيضا على مستوى الوطن العربي.

- تشجيع المعامل الكبرى على المساهمة في ليس فقط في البحث التطبيقي، ولكن أيضا في البحث الأساسي.

- التخلص من منطق إمكانية تطوير التقانة بمعزل عن تطوير البحث الأساسي وكذلك البحث التقني. فلقد ثبت فشل هذا المنطق كما فشل منطق نقل العلم والتقنيات والاعتماد على المساعدات الخارجية لهذا. فهذا المنطلق "الاتكالي" لم يؤد إلى ما يفيد كما يعلمنا تاريخ العلم والتقنيات في العصور المختلفة، بل على العكس تماما يجب الأخذ بمنطق التملك والتوطين للعلم مهما كان الثمن. وهذا المنطق يحتم علينا تملك الماضي، ماضي العلم وخاصة في الوطن العربي، تملك لغته..الخ – فهذا هو شرط من شروط البناء لأنه شرط من شروط الثقافة العلمية وانتشارها.

ولهذا فمن اللازم الآن إقامة معاهد بحثية في السياسات العلمية وتاريخها في البلدان العربية حتى لا تتكرر – كما هو الحال منذ قرنين – التجارب الفاشلة، وكذلك لدراسة تاريخ العلم والتقنيات وطرق امتلاكها. فالآن يبدو الوطن العربي في حاجة ماسة إلى سياسة ملتزمة بعودة الروح، أعني بعودة العقل، بما فيها الروح العلمية لمواجهة التحديات. فالعلم حضارة وليس مجرد تقنيات. (الوطن العربي وتوطين العلم، ص 24 – 25)

3- مستقبل النهضة العربية

يظهر تشاؤم الدكتور راشد من مستقبل النهضة العربية في حواراته المتعددة. ففي حواره مع جريدة المصري اليوم يقول،

ألا ترى أى بادرة أمل فى أن يكون لدينا مشروع علمى فى مصر؟

- لا أريد أن أكون متشائماً، ولكن نحن فى ظروف لا تسمح لنا بتأسيس مشروع علمى، انظروا لحال التعليم فى انحدار لا حدود له، منذ سنوات دعيت لإلقاء محاضرات على طلبة كلية الفلسفة جامعة القاهرة، شعرت أننى سأُشل من مستوى الطلاب، الذين كلما سألتهم عن مرجع من المراجع التى كنا ندرسها فى السنة الأولى فى زماننا، يقولون لى إنهم يدرسونه فى الدراسات العليا!

قرأت عن التفاوت الكبير بين طلاب الأدبى والعلمى فى الثانوية العامة، فأين نواة العلماء الذين سنمنحهم لمشروعنا العلمى. فى أمريكا يفعلون ذلك ولكن لا من أجل المجموع ومكتب التنسيق، ولكن من أجل اختيار الصفوة من العلماء.

هل يعقل أن يسود لدينا مفهوم أن دارس الفلسفة يمتلك القدرة على الحفظ، ودارس الرياضيات لديه القدرة على الفهم! العالم ومنذ عصر سقراط، يعلم أنه لا فلسفة دون رياضيات، لأن الفلسفة هى ممارسة فكرية قبل كل شىء.

بالإضافة لكل هذا، لا نمتلك الرؤية ولا التخطيط لمشاكل الغد، على سبيل المثال لدينا مشكلة مياه، هل أعددنا أنفسنا لحرب المياه التى ستشتعل فى المنطقة فى السنوات المقبلة؟ لا.

لدينا دلتا معرضة للغرق، هل سمعنا عمن يقول لنا ماذا سنفعل؟ الإجابة أيضاً لا، ليست هناك محاولات جادة لتأسيس نواة مشروع علمى.

نحن فى أحلك الفترات التاريخية التى مرت علينا كمصريين. ببساطة ليس لدينا شعب، هو موجود لكنه مسكين لا يملك الإرادة التى تمكنه من المطالبة بحقوقه وحقوق أجيال مقبلة...

ألا يمكن لنظريتك الخاصة بتطبيق الرياضيات فى العلوم الإنسانية، أن ترسم لنا طريقاً للنجاة؟

- يمكن ولكن لا توجد الإرادة الراغبة فى هذا الطريق المعروف للكثيرين، الحل ببساطة يتلخص فى نشر التفكير العقلى، وفصل الدين عن الدولة، لا بالمعنى التافه للكلمة، ولكن بمعنى إبعاد الدين عن السياسة بكل الأشكال، وأن نعمم مفهوم الجهاد فى سبيل المواطن مهما كان دينه أو جنسه أو لونه أو مستواه الاجتماعى والثقافى. نحن بحاجة لتحرير العقول وإجادة الرأى.

حتى نقاوم الانحدار الذى أصاب كل شىء، الانحدار ليس له نهاية ولكن إلى متى سنواصل هذا الانحدار؟ هل يعقل أن يكون لدينا جريدة مثل الأهرام بكل تاريخها وعراقتها، ويصبح مستواها بهذا الشكل؟ لا أصدق أن الأهرام التى كانت من أقوى صحف العالم بات هذا حالها.

 تؤمن بالعلمانية كفكر للخروج من مأزق ضياع الحضارة إذن؟

- أؤمن بحرية العقل، وسيادة النظام على الجميع، لماذا ننادى بفصل الدين عن الدولة فى فرنسا أيضاً؟ لحماية حقوقنا كمسلمين وكعرب هناك كأقلية. العقل والقانون يكفيان لحماية الإنسان والحضارة، أما الدين فهو علاقة بين العبد وربه، لا يجب أن يُستخدم لتحقيق مصالح سياسية.(المصري اليوم، 10 مايو 2009)

ويحمل الدكتور راشد السلطة السياسية مسئولية الأحوال السائدة، كما في حواره التالي مع مجلة العربي الكويتية،

‏*‏ ما الذي يمكن أن نبني عليه الآن وموجود لدينا للخروج من مأزق التخلف؟

هناك عدة أشياء يمكن البناء عليها‏,‏ فالأمور ليست مظلمة تماما‏,‏ وأولها أن نبدأ ببناء المؤسسات العلمية مثل مكتبة الإسكندرية‏,‏ في جميع فروع العلم‏,‏ وعلي أسس صحيحة‏,‏ وهذا لا ولن يتم بدون وجود مجتمع يريد أن يكون العلم فيه قيمة اجتماعية‏,‏ وأساس ذلك أن يكون العقل هو المعيار الأساسي‏,‏ ولا تحدثني هنا عن الثوابت‏,‏ أنا أريد أن أفكر وأبحث في كل المسائل وأخضعها للعقل‏,‏ ثم يأتي من يوقفني تحت دعوي أن هذه ثوابت المجتمع‏,‏ وإن لم تحترمها سأسجنك كما تفعل السلطة‏,‏ أو اغتالك‏,‏ كما يفعل الإخوان المسلمون‏.‏ بالإضافة إلي ما سبق لابد أن يكون هناك مشروع نهضوي حقيقي‏,‏ وليس مجرد بروباجندا‏,‏ وهذا لن يتم إلا بإعطاء الناس حق المبادرة‏.‏


‏*‏ الديمقراطية هي ما تقصد؟

سمها ما تريد المهم أن يمنح الناس فرصة المبادرة‏,‏ وثالثا‏,‏ وهو الأهم‏:‏ ربط العلم بالإنتاج فإذا لم يكن لديك مجتمع منتج ومصنع‏,‏ فما حاجتك إلي العلم‏,‏ لأن العلم لا لزوم له في مجتمع ريعي‏,‏ وأنت لديك العلماء‏,‏ وتستطيع الاستعانة بعلماء من الخارج إذا كان لديك هذا المشروع للنهوض‏.

‏*‏ هل هذه مسئولية القرار السياسي أم المجتمع؟

مسئولية القرار السياسي‏,‏ وهذا ما أقوله منذ ساعة‏,‏ لكنك تريدها صريحة وها أنا أقولها لك‏,‏ ثم يأتي دور الناس إذا كانوا راغبين في النهوض فلهم أن يفرضوا ذلك علي الساسة‏.‏ (الأهرام العربي، 9 فبراير 2009)

 بهذا المعنى تكون وجهة نظر الدكتور راشد هي أن نقطة البدء نحو النهضة هي تغيير الثقافة السائدة وسيادة العقلانية، كما يظهر في نهاية حواره مع مجلة العربي الكويتية،

بالنسبة للمشاريع العلمية في الوطن العربي، هل تعتقدون أن الثقافة السائدة وطريقة التفكير، وعدم وجود أطروحات فكرية وفلسفية له اثر على عدم الاهتمام بالعلم ، بمعنى أن الاهتمام بالعلم يتطلب حضور ثقافة علمية تسود بين الناس، وما هي المؤثرات التي تؤثر في العالم العربي من هذا الجانب؟

    أولا قبل الثقافة العلمية توجد القيم العقلية في الثقافة العربية ، يعني إلى الآن في الثقافة العربية هناك نقاش وحوارات في الكتابة حول هل نحتكم إلى العقل أو لا نحتكم إلى العقل.

وأنا لا أقول إن كل الثقافات تحتكم إلى العقل، فهناك جانب عقلي وجانب غير عقلي، ولكن على الاقل نعترف بالجانب العقلي. يعني إذا تناقشنا حول ما هو المعيار، هل هو العقل أو أحد النصوص، وهو حسب رؤيتك أنت للنص.

بهذا الخصوص كنت أتناقش مع أحد المسئولين في بلد عربي فقال هناك ثوابت! وسألت: ماهي الثوابت؟ قال: دينية طبعا.. وتساءلت: هل للمسيحي واليهودي ثوابت؟ وأضفت : أنا لا أعترف بهذه الثوابت، فهل تجيء إلي بشرطي لأني لا أعترف بها، فأنا مواطن لي الحق في اختيار الثوابت، فلاتفرضها علي، فأنا قد أشك بهذه الثوابت.

وهكذا، حين نحتكم إلى العقل، تظهر هذه الفكرة الأساسية لدينا. وأنا أرى أن هناك تراجعا ضخما. يكفي أن تسير في الشارع حتى ترى هذا التراجع. وهو تراجع في الكلام بالجرائد، في أسلوب التعبير، في كل الجوانب.

أما كيف نستعيد القيم العقلية، فهنا تدخل فكرة تدريس العلوم وتعليم فلسفة العلوم، وتاريخ العلوم. هذه إحدى الوسائل القائمة على العقل، بالإضافة إلى العمل على انتشار المعرفة العلمية البسيطة وتبسيط العلوم، وهذا هو المشروع. بمعنى أننا إذا أردنا أن ندخل هذا العصر فلابد أن ندخله بهذه الطرق وليس من خلال طرق أخرى ، ولكن حسب تصوري المحتمل - لأني غير مقيم - أن الاتجاه الاساسي للممارسة السياسية يمضي في اتجاه معاكس ، ولا يمكن أن أكون صريحًا أكثر من هذا  .(حوار مجلة العربي الكويتية، إبريل 2007)

 

أهم أعماله

 

1- كتب

باللغة الفرنسية

         ترجمة للغة الفرنسية

 

باللغة العربية

       ترجمات إلى العربية

باللغة الإنجليزية

 ترجمات إلى اللغة الإنجليزية

 

باللغة الإيطالية

 ترجمة للفارسية

ترجمة للبولندية

ترجمة لليابانية

ترجمة إلى التركية

Klasik Avrupali Modernitenin Icadi ve Islam’da Bilim. (recueil d’articles traduits en turc par Bekir S. Gür), Ankara, Kadim Yayinlari, 2005, 360 p.

 

 

2- أبحاث

للدكتور رشدي راشد عدد كبير جدا يتعدى المائة والخمسون من المقالات المنشورة في أهم الدوريات العالمية.

حوارات ومقالات

 

 

مقالات عنه

 

مصادر

Centre d'Histoire des Sciences et des Philosophies Arabes et Médiévales

 

Entretien de Roshdi Rashed, 2004, dans MORELON, Régis & Ahmad HASNAWI (eds.), "De Zenon D'Elee A Poincare: Recueil D'Etudes En Hommage A Roshdi Rashed", 2004, (Les Cahiers Du Mideo) Pp. (V – XXVII)

تحرير: سمير أبو زيد